بازگشت

وصيته لهشام، في العقل


روي عن الإمام الكاظم الأمين أبي إبراهيم، ويكنّي أبا الحسن موسي بن جعفرعليه السلام [1] في طوال هذه المعاني، وصيّته عليه السلام [2] لهشامٍ، وصفته للعقل:

إنَّ اللهَ تَبارَكَ وَتَعالي بَشَّرَ أهلَ العَقلِ وَالفَهمِ في كِتابِهِ فَقالَ: «فَبَشِّرْ عِبادِ - الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا الأَلْبابِ» [3] .

يا هِشامُ بنَ الحَكَمِ؛ إنَّ اللهَ أكمَلَ لِلنّاسِ الحُجَجَ بِالعُقولِ، وَأَفضي إلَيهِم بِالبَيانِ، وَدَلَّهُم علي رُبوبِيَّتِهِ بِالأَدِلّاءِ، فَقالَ: «وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ» [4] «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ» إلي قَولِهِ: «لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ». [5] .

يا هِشامُ؛ قَد جَعَلَ اللهُ ذلِكَ دَليلاً علي مَعرِفَتِهِ بِأَنَّ لَهُم مُدَبِّراً فَقالَ: «وَ سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ وَالشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» [6] وَقالَ: «حم - وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ - إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» [7] وقال: «وَ مِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ». [8] .

يا هِشامُ؛ ثُمَّ وَعَظَ أهلَ العَقلِ وَرَغَّبَهُم فِي الآخِرَةِ فَقالَ: «وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلّا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ لَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ» [9] وَقالَ: «وَ ما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ زِينَتُها وَ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَ أَبْقي أَ فَلا تَعْقِلُونَ». [10] .

يا هِشام؛ ثُمَّ خَوَّفَ الَّذينَ لا يَعقِلونَ عَذابَهُ فَقالَ: «ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ - وَ إِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ - وَ بِاللَّيْلِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ». [11] .

يا هِشامُ؛ ثُمَّ بَيَّنَ أنَّ العَقلَ مَعَ العِلمِ، فَقالَ: «وَ تِلْكَ الأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَ ما يَعْقِلُها إِلّا الْعالِمُونَ». [12] .

ياهِشامُ؛ثُمَّ ذَمَّ الَّذينَ لا يَعقلِونَ، فَقالَ: «وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ» [13] وَقالَ: «إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ» [14] وقال: «وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ» [15] ثُمَّ ذَمَّ الكَثرَةَ فَقالَ: «وَ إِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ» [16] وقال: «وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» [17] ، وَأَكثَرَهُم لا يَشعرونَ. [18] .

يا هِشامُ؛ ثُمَّ مَدَحَ القِلَّةَ فَقالَ: «وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ» [19] وَقالَ: «وَ قَلِيلٌ ما هُمْ» [20] وَقالَ: «وَ ما آمَنَ مَعَهُ إِلّا قَلِيلٌ». [21] .

يا هِشامُ؛ ثُمَّ ذَكَرَ اُولي الأَلبابِ بِأَحسَنِ الذِّكرِ وَحَلّاهُم بِأَحسَنِ الحِليَةِ فَقالَ: «يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَ ما يَذَّكَّرُ إِلّا أُولُوا الأَلْبابِ». [22] .

يا هِشامُ؛ إنَّ اللهَ يَقولُ: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْري لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ» [23] يَعني العَقلَ وَقالَ: «وَ لَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ» [24] قالَ: الفَهمُ وَالعَقلُ.

يا هِشامُ؛ إنَّ لُقمانَ قالَ لِابنِهِ: تَواضَع لِلحَقِّ تَكُن أعقَلَ النّاسِ [25] يا بَنِيَّ إنَّ الدُّنيا بَحرٌ عَميقٌ قَد غَرِقَ فيهِ عالَمٌ كَثيرٌ فَلتَكُن سَفينَتُكَ فيها تَقوَي اللهِ، وَحَشُوها [26] الإِيمانُ وَشِراعُها التَّوكُّلُ، وَقَيِّمُها العَقلُ وَدَليلُها العِلمُ وَسُكّانُها الصَّبرُ.

يا هِشامُ؛ لِكُلِّ شَيءٍ دَليلٌ وَدَليلُ العاقِلِ التَّفَكُّرُ، وَدَليلُ التَّفَكُّرِ الصَّمتُ، وَلِكُلِّ شَيءٍ مَطِيَّةٌ وَمَطِيَّةُ العاقِلِ التَّواضُعُ [27] وَكَفي بِكَ جَهلاً أن تَركَبَ ما نُهيتَ عَنهُ.

يا هِشامُ لَو كانَ في يَدِكَ جَوزَةٌ وَقالَ النّاسُ: في يَدِكَ لُؤلُؤَةٌ، ما كانَ يَنفَعُكَ وَأَنتَ تَعلَمُ أنَّها جَوزَةٌ؟ وَلَو كانَ في يَدِكَ لُؤلُؤَةٌ وقالَ النّاسُ: إنَّها جَوزَةٌ ما ضَرَّكَ وَأَنتَ تَعلَمُ أنَّها لُؤلُؤَةٌ؟.

يا هِشامُ، ما بَعَثَ اللهُ أنبِياءَهُ وَرُسُلَهُ إلي عِبادِهِ إلّا لِيَعقِلوا عَن اللهِ، فَأَحسَنُهُم استِجابَةً أحسَنُهُم مَعرِفَةً للَّهِِ، وَأَعلَمُهُم بِأَمرِ اللهِ أحسَنُهُم عَقلاً، وَأعقَلُهُم [28] أرفَعُهُم دَرَجَةً فِي الدُّنيا وَالآخِرَةِ.

ياهِشامُ، ما مِن عَبدٍ إلّا وَمَلَكٌ آخِذٌ بِناصِيَتِهِ، فَلا يَتَواضَعُ إلّا رَفعَهُ اللهُ، وَلا يَتَعاظَمُ إلّا وَضَعَهُ اللهُ.

يا هِشامُ، إنَّ للَّهِِ عَلَي النّاسِ حُجَّتَينِ: حُجَّةً ظاهِرَةً، وَحُجَّةً باطِنَةً فَأَمّا الظّاهِرَةُ فَالرُّسُلُ وَالأَنبِياءُ وَالأَئِمَّةُ، وَأَمّا الباطِنَةُ فَالعُقولُ.

يا هِشامُ؛ إنَّ العاقِلَ الَّذي لا يَشغَلُ الحَلالُ شُكرَهُ، وَلا يَغلِبُ الحَرامُ صَبرَهُ.

يا هِشامُ؛ مَن سَلَّطَ ثَلاثاً علي ثَلاثٍ فَكَأَنَّما أعانَ هَواهُ علي هَدِم عَقلِهِ: مَن أظلَمَ نورَ فِكرِهِ [29] بِطولِ أمَلِهِ، وَمَحا طَرائِفَ حِكمَتِهِ بِفُضولِ كَلامِهِ، وَأَطفَأَ نورَ عِبرَتِهِ بِشَهواتِ نَفسِهِ، فَكَأَنَّما أعانَ هَواهُ عَلي هَدمِ عَقلِهِ، وَمَن هَدَمَ عَقلَهُ أفسَدَ عَلَيهِ دينَهُ وَدُنياهُ.

يا هِشامُ؛ كَيفَ يَزكو عِندَ اللهِ عَمَلُكَ وَأَنتَ قَد شَغَلتَ عَقلَكَ عَن أمرِ رَبِّكَ، وَأطَعتَ هَواكَ علي غَلَبَةِ عَقلِكَ.

يا هِشامُ؛ الصَّبرُ عَلَي الوَحدَةِ عَلامةُ قُوَّةِ العَقلِ فَمَن عَقِلَ عَنِ اللهِ تَبارَكَ وَتَعالي اعتَزَلَ أهلِ الدُّنيا وَالرَّاغِبينَ فيها وَرَغِبَ فيما عِندَ رَبِّهِ وَكانَ اللهُ آنِسَهُ فِي الوَحشَةِ وَصاحِبَهُ فِي الوحَدَةِ وَغِناهُ فِي العَيلَةِ [30] وَمُعِزَّهُ في غَيرِ عَشيرَةٍ. [31] .

يا هِشامُ؛ نُصِبَ الخَلقُ لِطاعَةِ اللهِ وَلا نَجاةَ إلّا بِالطّاعَةِ، وَالطّاعَةُ بِالعِلمِ وَالعِلمُ بِالتَّعَلُّمِ وَالتّعَلُّمُ بِالعَقلِ يُعتَقَدُ [32] ، وَلا عِلمَ إلّا مِنَ عالِمٍ رَبّانِيٍّ، وَمَعرِفَةُ العالِم بِالعَقلِ.

يا هِشام؛ قَليلُ العَمَلِ مِنَ العاقِلِ مَقبولٌ مُضاعَفٌ وَكثيرُ العَمَلِ مِن أهلِ الهَوي وَالجَهلِ مَردودٌ.

يا هِشامُ؛ إنَّ العاقِلَ رَضِيَ بِالدّونِ مِنَ الدُّنيا مَعَ الحِكمَةِ، وَلَم يَرضَ بِالدُّونِ مِنَ الحِكمَةِ مَعَ الدُّنيا، فَلِذلِكَ رَبِحَت تِجارَتُهُم.

يا هِشامُ؛ إن كانَ يُغنيكَ ما يَكفيكَ فَأَدني ما فِي الدُّنيا يَكفيكَ، وَإِن كانَ لا يُغنيكَ ما يَكفيكَ فَلَيسَ شَي ءٌ مِنَ الدُّنيا يُغنيكَ.

يا هِشامُ؛ إنَّ العُقلاءَ تَرَكوا فُضولَ الدُّنيا، فَكَيفَ الذُّنوبُ؟ وَتَركُ الدُّنيا مِنَ الفَضلِ، وَتَركُ الذُّنوبِ مِنَ الفَرضِ. [33] .

يا هِشامُ؛ إنَّ العُقلاءَ زَهَدوا فِي الدُّنيا وَرَغِبوا فِي الآخِرَةِ؛ لِأَنَّهُم عَلِموا أنَّ الدُّنيا طالِبَةٌ وَمَطلوبَةٌ، وَالآخِرَةَ طالِبَةٌ وَمَطلوبَةٌ، فَمَن طَلَبَ الآخِرَةَ طَلِبَتهُ الدُّنيا حَتّي يَستَوفِيَ مِنها رِزقَهُ، وَمَن طَلَبَ الدُّنيا طَلِبَتهُ الآخِرَةُ، فَيَأتِيَهُ المَوتُ فَيُفسِدُ عَلَيهِ دُنياهُ وَآخِرَتَهُ.

يا هِشامُ مَن أَرادَ الغِني بِلا مالٍ، وَراحَةَ القَلبِ مِنَ الحَسَدِ، وَالسّلامَةَ فِي الدّينِ، فَليَتَضَرَّع إلَي اللهِ في مَسأَلتِهِ بِأَن يُكَمِّلَ عَقلَهُ فَمَن عَقِلَ قَنَعَ بِما يَكفيهِ، وَمَن قَنَعَ بِما يَكفيهِ استَغني، وَمَن لَم يَقنَع بِما يَكفيهِ لَم يُدرِكِ الغِني أبَداً.

يا هِشامُ؛ إنَّ اللهَ جَلَّ وَعَزَّ حَكي عَن قَومٍ صالِحينَ أنّهُم قالوا: «رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ» [34] حينَ عَلِموا أنَّ القُلوبَ تَزيغُ وَتَعودُ إلي عَماها وَرَداها [35] ، إنَّهُ لَم يَخَفِ اللهَ مَن لَم يَعقِل عَنِ اللهِ، وَمَن لَم يَعقِل عَنِ اللهِ لَم يَعقِد قَلبَهُ علي مَعرِفَةٍ ثابِتَةٍ يُبصِرُها وَيَجِدُ حَقيقَتَها في قَلبِهِ وَلا يَكونُ أحَدٌ كذلِكَ إلّا مَن كانَ قَولُهُ لِفِعلِهِ مُصَدِّقاً، وَسِرُّهُ لِعَلانِيَّتِهِ مُوافقاً؛ لِأَنَّ اللهَ لَم يَدُلَّ عَلَي الباطِنِ الخَفِيِّ مِنَ العَقلِ إلّا بِظاهِرٍ مِنهُ وَناطِقٍ عَنهُ.

يا هِشامُ، كانَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام يَقولُ: ما مِن شَيءٍ عُبِد اللهُ بِهِ [36] أفضَلُ مِنَ العَقلِ، وَماتَمَّ عَقلُ امرِيً حَتّي يَكونَ فيهِ خِصالٌ شَتّي، الكُفرُ وَالشَّرُّ مِنهُ مَأمونانِ [37] ، وَالرُّشدُ وَالخَيرُ مِنهُ مَأمولانِ [38] وَفَضلُ مالِهِ مَبذولٌ وَفَضلُ قَولِهِ مَكفوفٌ، نَصيبُهُ مِنَ الدُّنيا القوتُ وَلا يَشبَعُ مِنَ العِلمِ دَهرَهُ، الذُّلُّ أحَبُّ إلَيهِ مَعَ اللهِ مِنَ العِزِّ مَعَ غَيرِهِ، وَالتَّواضُعُ أحَبُّ إلَيهِ مِنَ الشَّرَفِ، يَستَكثِرُ قَليلَ المَعروفِ مِن غَيرِهِ، وَيَستَقِلُّ كَثيرَ المَعروفِ مِن نَفسِهِ، وَيَرَي النّاسَ كُلَّهُم خَيراً مِنهُ، وَأنَّهُ شَرُّهُم في نَفسِهِ، وَهُوَ تَمامُ الأَمرِ. [39] .

يا هِشامُ؛ مَن صَدَق لِسانُهُ زَكا عَمَلُهُ، وَمَن حَسُنَت نِيَّتُهُ زيدَ في رِزِقِهِ، وَمَن حَسُنَ بِرُّهُ بِإِخوانِهِ وَأهلِهِ مُدَّ في عُمُرِهِ.

يا هِشامُ؛ لا تَمنَحوا الجُهّالَ الحِكمَةَ فَتَظلِموها [40] ، وَلا تَمنَعوها أهلَها فَتَظلِموهُم.

يا هِشامُ؛ كَما تَرَكوا لَكُم الحِكمَةَ، فَاترُكوا لَهُمُ الدُّنيا. [41] .

يا هِشامُ؛ لا دينَ لِمَن لا مُرُوَّةَ لَهُ، وَلا مُرُوَّةَ لِمَن لا عَقلَ لَهُ، وَإِنَّ أعظَمَ النّاسِ قَدراً الَّذي لا يَرَي الدُّنيا لِنَفسِهِ خَطراً [42] ، أما إنَّ أبدانَكُم لَيسَ لَها ثَمَنٌ إلّا الجَنَّةَ، فَلا تَبيعوها بِغَيرِها. [43] .

يا هِشامُ؛ إنَّ أميرَ المُؤمِنينَ عليه السلام كانَ يَقولُ [44] : لا يَجلِسُ في صَدرِ المَجلِس إلّا رَجُلٌ فيهِ ثَلاثُ خِصالٍ: يُجيبُ إذا سُئِلَ وَيَنطِقُ إذا عَجَزَ القَومُ عَنِ الكَلامِ، وَيُشيرُ بِالرَّأي الَّذي فيهِ صَلاحُ أهلِهِ، فَمَن لَم يَكُن فيهِ شَي ءٌ مِنهُنَّ فَجَلَسَ فَهُوَ أحمَقُ. وَقالَ الحَسَنُ بنُ عَلِيّ عليهما السلام: إذا طَلَبتُم الحَوائِجَ فَاطلُبوها مِن أهلِها. قيلَ: يا بنَ رَسولِ اللهِ وَمَن أهلُها؟ قالَ: الّذينَ قَصَّ اللهُ في كِتابِهِ وَذَكَرَهُم فَقالَ: «إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الأَلْبابِ» [45] قالَ: هُم اُولو العُقولِ. وَقالَ عَلِيُّ بنُ الحُسَينِ عليهما السلام: مُجالَسَةُ الصّالِحينَ داعِيَةٌ إلَي الصَّلاحِ، وَأدَبُ العُلماءِ [46] زِيادَةٌ فِي العَقلِ، وَطاعَةُ وُلاةِ العَدلِ تَمامُ العِزِّ، وَاستِثمارُ المالِ تَمامُ المُرُوَّةِ، وَإِرشادُ المُستَشيرِ قَضاءٌ لِحَقِّ النِّعمَةِ، وَكَفُّ الأَذي مِن كَمالِ العَقلِ وَفيهِ رَاحَةُ البَدَنِ عاجِلاً وَآجِلاً.

يا هِشامُ، إنَّ العاقِلَ لا يُحَدِّثُ مَن يَخافُ تَكذيبَهُ، وَلا يَسأَلُ مَن يَخافُ مَنعَهُ، وَلا يَعِدُ ما لا يَقدِرُ عَلَيهِ، وَلا يَرجو ما يُعنَّفُ بِرَجائِهِ [47] وَ لا يَتَقَدَّمُ عَلي ما يَخافُ العَجزَ عَنهُ [48] .

وَكانَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام يُوصي أصحابَهُ يَقولُ: اُوصيكُم بِالخَشيَةِ مِنَ اللهِ في السِّرِّ وَالعَلانِيَةِ، وَالعَدلِ في الرِّضا وَالغَضَبِ، وَالاِكتِسابِ في الفَقرِ وَالغِني وَأن تَصِلوا مَن قَطَعَكُم وَتَعفوا عَمَّن ظَلَمَكُم، وَتَعطِفوا علي مَن حَرَمَكُم، وَليَكُن نَظَرُكُم عِبَراً وَصَمتُكُم فِكَراً، وَقولُكُم ذِكراً، وطَبيعَتُكُمُ السَّخاءُ؛ فَإِنَّهُ لا يَدخُلِ الجَنَّةَ بَخيلٌ وَلا يَدخُلِ النَّارَ سَخِيٌّ.

يا هشامُ، رَحِمَ اللهُ مَن استَحيا مِنَ اللهِ حَقَّ الحَياءِ، فَحَفِظَ الرَّأسَ وَما حَوي [49] وَالبَطنَ وما وَعي، وَذَكَرَ المَوتَ وَالبِلي [50] ، وَعَلِمَ أنَّ الجَنَّةَ مَحفوفَةٌ بِالمَكارِهِ [51] وَالنَّارَ مَحفوفَةٌ بِالشَّهواتِ.

يا هِشامُ؛ مَن كَفَّ نَفسَهُ عَن أعراضِ النّاسِ أقالَهُ اللهُ عَثرَتَهُ يَومَ القِيامَةِ، وَمَن كَفَّ غَضَبَهُ عَنِ النّاسِ، كَفَّ اللهُ عَنهُ غَضَبَهُ يَومَ القِيامَةِ.

يا هِشامُ؛ إنَّ العاقِلَ لا يَكذِبُ، وَإِن كانَ فيهِ هَواهُ.

يا هِشامُ؛ وُجِدَ في ذُؤابَةِ [52] سَيفِ رَسولِ اللهِ صلي الله عليه وآله: إنَّ أعتَي النّاسِ [53] عَلَي اللهِ مَن ضَرَبَ غَيرَ ضارِبِهِ وَقَتَلَ غَيرَ قاتِلِهِ، وَمَن تَوَلّي غَيرَ مَواليهِ فَهُوَ كافِرٌ بِما أنزَلَ اللهُ علي نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍصلي الله عليه وآله، وَمَن أحدَثَ حَدَثاً أو آوي مُحدِثاً لَم يَقبَلِ اللهُ مِنهُ يَومَ القِيامَةِ صِرفاً وَلا عَدلاً.

يا هِشامُ؛ أفضَلُ ما يَتَقَرَّبُ بِهِ العَبدُ إلَي اللهِ بَعدَ المَعرِفَةِ بِهِ الصَّلاةُ، وَبِرُّ الوالِدَينِ، وَتَركُ الحَسَدِ وَالعُجبُ وَالفَخرُ.

يا هِشامُ؛ أصلَحُ أيّامِكَ الَّذي هُوَ أمامَكَ فَانظُر أيَّ يَومٍ هُوَ وَأَعِدَّ لَهُ الجَوابَ؛ فَإِنَّكَ مَوقوفٌ وَمَسؤولٌ، وَخُذ مَوعِظَتَكَ مِنَ الدَّهرِ وَأهلِهِ، فَإِنَّ الدَّهرَ طَويلُهُ قَصيرُهُ، فاعمَل كَأَنَّكَ تَري ثَوابَ عَمَلِكَ لِتَكونَ أطمَعَ في ذلِكَ، وَاعقِل عَنِ اللهِ، وَانظُر في تَصَرُّفِ الدَّهرِ وَأحوالِهِ؛ فَإِنَّ ما هُوَ آتٍ مِنَ الدُّنيا كَما وَلّي مِنها، فَاعتَبِر بِها. وَقالَ عَلِيُّ بنُ الحُسَينِ عليه السلام: إنَّ جَميعَ ما طَلَعَت عَلَيهِ الشَّمسُ في مَشارِقِ الأَرضِ وَمَغارِبِها، بَحرِها وَبَرِّها وَسَهلِها وَجَبَلِها عِندَ وَلِيٍّ مِن أولياءِ اللهِ وَأهلِ المَعرِفَةِ بِحَقِّ اللهِ كَفَي ءِ الظِّلالِ، ثمّ قالَ عليه السلام: أَوَلا حُرٌّ يَدَعُ هذهِ اللُّمّاظَةَ لِأَهلِها [54] ، يَعني الدُّنيا، فَلَيسَ لِأَنفُسِكُم ثَمَنٌ إلّا الجَنَّةُ، فَلا تَبيعوها بِغَيرِها؛ فَإِنَّهُ مَن رَضِيَ مِنَ اللهِ بِالدُّنيا فَقَد رَضِيَ بِالخَسيسِ.

يا هِشامُ؛ إنَّ كُلَّ النّاسِ يُبصِرُ النُّجومَ، وَلَكِن لا يَهتَدي بِها إلّا مَن يَعرِفُ مَجاريها ومَنازِلِها، وَكَذلِكَ أنتُم تَدرُسونَ الحِكمَةَ، وَلكِن لا يَهتَدي بِها مِنكُم إلّا مَن عَمِلَ بِها.

يا هِشامُ، إنَّ المَسيحَ عليه السلام قال للحواريّين: يا عَبيدَ السّوءِ، يَهولُكُم [55] طولُ النَّخِلَةِ وَتَذكُرونَ شَوكَها وَمَؤونَةَ مَراقيها، وَتَنسَونَ طيبَ ثَمَرِها وَمَرافِقَها [56] كَذلِكَ تَذكُرونَ مَؤونَةَ عَمَلِ الآخِرَةِ فَيَطولُ عَلَيكُم أمَدُهُ [57] ، وَتَنسَونَ ما تُفضونَ إلَيهِ مِن نَعيمِها وَنَورِها، وَثَمَرِها، يا عبيدَ السّوءِ نَقّوا القَمحَ وَطَيِّبوهُ، وَأدِقّوا طَحنَهُ تَجِدوا طَعمَهُ، وَيُهنِئُكُم أكلُهُ، كَذلِكَ فَأَخلِصوا الإيمانَ وَأكمِلوهُ تَجِدوا حَلاوَتَهُ وَيَنفَعُكُم غِبُّهُ [58] ، بِحَقٍّ أقولُ لَكُم: لَو وَجَدتُم سِراجاً يَتَوَقَّدُ بالقَطِرانِ [59] في لَيلَةٍ مُظلِمَةٍ لاستَضَأتُم بِهِ ولَم يَمنَعكُم مِنهُ ريحُ نَتنِهِ [60] ، كذلِكَ يَنبَغي لَكُم أن تَأخُذوا الحِكمَةَ مِمَّن وَجَدتُموها مَعَهُ وَلا يَمنَعكُم مِنهُ سوءُ رَغَبتِهِ فيها. يا عَبيدَ الدُّنيا؛ بِحَقٍّ أقولُ لَكُم: لا تُدرِكونَ شَرَفَ الآخِرَةِ إلّا بِتَركِ ما تُحِبّونَ فَلا تَنظُروا بِالتَّوبَةِ غَداً؛ فَإِنَّ دونَ غَدٍ يَوماً وَلَيلَةً، وَقَضاء اللهِ فيهِما يَغدو وَيَروحُ بِحَقٍّ أقولُ لَكُم: إنَّ مَن لَيسَ عَلَيهِ دَينٌ مِنَ النّاسِ أروَحُ وَأَقَلُّ هَمّاً مِمَّن عَلَيهِ الدَّينُ، وَإِن أحسَنَ القَضاءَ، وَكَذلِكَ مَن لَم يَعمَل الخَطيئَةَ أروَحُ هَمّاً مِمَّن عَمِلَ الخَطيئَةَ، وَإن أخلَصَ التَّوبَةَ وَأنابَ وَإنَّ صِغارَ الذُّنوبِ وَمُحَقَّراتِها مِن مكائِدِ إبليسَ، يُحَقِّرُها لَكُم وَيُصَغِّرُها في أعيُنِكُم فَتَجتَمِعُ وَتَكثُرُ فَتُحيطُ بِكُم، بِحَقٍّ أقولُ لَكُم: إنَّ النّاسَ في الحِكمَةِ رَجُلانِ: فَرَجُلٌ أتقَنَها بِقَولِهِ وَصَدَّقَها بِفِعلِهِ، وَرَجُلٌ أتقَنَها بِقَولِهِ وَضَيَّعَها بِسوءِ فِعلِهِ، فَشَتّانَ بَينَهُما.

فَطوبي لِلعُلماءِ بِالفِعلِ، وَوَيلٌ لِلعُلَماءِ بِالقَولِ، يا عَبيدَ السّوءِ اتَّخِذوا مساجِدَ رَبِّكُم سُجوناً لِأَجسادِكُم وَجباهِكُم، وَاجعَلوا قُلوبَكُم بُيوتاً لِلتّقوي، وَلا تَجعَلوا قُلوبَكُم مَأوي لِلشّهَواتِ، إنّ أجزَعَكُم عِندَ البَلاءِ لَأَشَدَّكُم حُبّاً لِلدُّنيا وَإنَّ أصبَرَكُم عَلَي البَلاءِ لَأَزهَدَكُم فِي الدُّنيا، يا عَبيدَ السّوءِ؛ لا تَكونوا شَبيهاً بِالحِداءِ الخاطِفَةِ [61] ، وَلا بِالثَّعالِبِ الخادِعَةِ، وَلا بِالذِّئابِ الغادِرَةِ [62] ، وَلا بِالاُسدِ العاتِيَةِ [63] ، كَما تَفعَلُ بِالفَرائِسِ، كَذلِكَ تَفعَلونَ بِالنّاسِ فَريقاً تَخطِفونَ وَفَريقاً تَخدَعونَ، وَفَريقاً تَغدُرونَ بِهِم، بِحَقٍّ أقولُ لَكُم: لا يُغني عَنِ الجَسَدِ أن يَكونَ ظاهِرُهُ صَحيحاً وَباطِنُهُ فاسِداً، كَذلِكَ لا تُغني أجسادُكُم الّتي قَد أعجَبَتكُم، وَقَد فَسَدَت قُلوبُكُم، وَما يُغني عَنكُم أن تُنَقّوا جُلودَكُم وَقُلوبَكُم دَنِسَةٌ. لا تَكونوا كالمُنخُلِ [64] يَخرُجُ مِنهُ الدّقيقُ الطَّيِّبُ وَيُمسِكُ النُّخالَةَ، كَذلِكَ أنتُم تُخرِجونَ الحِكمَةَ مِن أفواهِكُم وَيَبقي الغِلُّ في صُدورِكُم.

يا عَبيدَ الدُّنيا، إنَّما مَثَلُكُم مَثَلُ السِّراجِ، يُضي ءُ لِلنّاسِ وَيُحرِقُ نَفسَهُ، يا بَني إسرائيلَ زاحِموا العُلماءَ في مَجالِسِهِم، وَلَو جَثواً عَلَي الرُّكَبِ [65] ، فَإِنَّ اللهَ يُحيي القُلوبَ المَيِّتَةَ بِنورِ الحِكمَةِ كَما يُحيي الأَرضَ المَيِّتَةَ بِوابِلِ المَطَرِ [66] .

يا هِشامُ؛ مَكتوبٌ فِي الإِنجيلِ: طوبي لِلمُتَراحِمينَ، اُولئِكَ هُمُ المَرحومونَ يَومَ القِيامَةِ، طوبي للمُصلِحينَ بَينَ النّاسِ، اُولئِكَ هُمُ المُقَرَّبونَ يَومَ القِيامَةِ. طوبي لِلمُطَهَّرَةِ قُلوبُهُم اُولئِكَ هُمُ المُتَّقونَ يَومَ القِيامَةِ. طوبي لِلمُتَواضِعينَ فِي الدُّنيا، اُولئِكَ يَرتَقون مَنابِرَ المُلكِ يَومَ القِيامَةِ.

يا هِشامُ؛ قِلَّةُ المَنطِقِ حُكمٌ عَظيمٌ، فَعَلَيكُم بِالصَّمتِ، فَإِنَّهُ دَعَةٌ حَسَنَةٌ، وَقِلَّةُ وِزر وَخِفَّةٌ مِنَ الذُّنوبِ، فَحَصِّنوا بابَ الحِلمِ فَإِنَّ بابَهُ الصَّبرُ وَإِنَّ اللهَ يُبغِضُ الضَّحّاكَ مِن غَيرِ عَجَبٍ وَالمَشّاءَ [67] إلي غَيرِ أرَبٍ [68] وَيَجِبُ عَلَي الوالي أن يَكونَ كَالرّاعي، لا يَغفُلُ عَن رَعِيَّتِهِ وَلا يَتَكَبَّرُ عَلَيهِم فَاستَحيوا مِنَ اللهِ في سَرائِرِكُم كَما تَستَحيونَ مِنَ النّاسِ في عَلانِيَتِكُم، وَاعلَموا أنَّ الكَلِمَةَ مِنَ الحِكمَةِ ضَالَّةُ المُؤمِنِ فَعَلَيكُم بِالعِلمِ قَبلَ أن يُرفَعَ، وَرَفعُهُ غَيبَةُ عالِمِكُم بَينَ أظهُرِكُم.

يا هِشامُ؛ تَعَلَّم مِنَ العِلمِ ما جَهِلتَ، وَعَلِّمِ الجاهِلَ مِمّا عَلِمتَ، عَظِّمِ العالِمَ لِعِلمِهِ، وَدَع مُنازَعَتَهُ، وَصَغِّرِ الجاهِلَ لِجَهلِهِ وَلا تَطرُدهُ، وَلكِن قَرِّبهُ وَعَلِّمهُ.

يا هِشامُ، إنَّ كُلَّ نِعمَةٍ عَجَزتَ عَن شُكرِها بِمَنزِلَةِ سَيِّئَةٍ تُؤاخَذُ بِها. وَقالَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام: إنّ للَّهِِ عِباداً كَسَرَت قُلوبَهُم خَشيَتُهُ فَأَسكَتَتهُم عَنِ المَنطِقِ، وَإنَّهُم لفُصَحاءُ عُقَلاءُ، يَستَبِقونَ إلَي اللهِ بِالأَعمالِ الزَّكِيَّةِ، لا يَستَكثِرونَ لَهُ الكَثيرَ وَلا يَرضَونَ لَهُم مِن أنفُسهِم بِالقَليلِ، يَرَونَ في أنفُسِهِم أنَّهُم أشرارٌ، وَإِنَّهُم لأََكياسٌ وَأَبرارٌ.

يا هِشامُ؛ الحَياءُ مِنَ الإِيمانِ وَالإِيمانُ في الجَنَّةِ، وَالبَذَاءُ [69] مِنَ الجَفاءِ وَالجَفاءُ فِي النّارِ.

يا هِشامُ، المُتَكَلِّمونَ ثَلاثَةٌ: فَرابِحٌ وَسالِمٌ وَشاجِبٌ، فَأَمَّا الرّابِحُ فَالذّاكِرُ للَّهِِ وَأمّا السَّالِمُ فَالسّاكِتُ وَأَمَّا الشّاجِبُ [70] فَالَّذي يَخوضُ فِي الباطِلِ، إنَّ اللهَ حَرَّمَ الجَنَّةَ علي كُلِّ فاحِشٍ بَذي ءٍ قَليلِ الحَياءِ، لا يُبالي ما قالَ وَلا ما قيلَ فيهِ، وَكانَ أبو ذَرٍّ رضي الله عنه يقولُ: يا مُبتَغي العلِمَ إنَّ هذا اللِّسانَ مِفتاحُ خَيرٍ وَمفِتاحُ شَرٍّ، فَاختِم علي فيكَ كَما تَختِمُ علي ذَهَبِكَ وَوَرَقِكَ.

يا هِشامُ، بِئسَ العَبدُ عَبدٌ يَكونُ ذا وَجهَينِ وَذا لِسانَينِ، يُطري أخاهُ إذا شاهَدَهُ [71] ، وَيَأكُلُهُ إذا غابَ عَنهُ، إن اُعطِيَ حَسَدَهُ، وإِن ابتُلِيَ خَذَلَهُ، إنَّ أسرَعَ الخَيرِ ثَواباً البِرُّ، وَأسرَعُ الشَّرِّ عُقوبَةً البَغيُ، وَإنَّ شَرَّ عِبادِ اللهِ مَن تَكرَهُ مُجالَسَتَهُ لِفُحشِهِ، وَهَل يَكُبُّ النّاسَ علي مَناخِرِهِم فِي النّارِ إلّا حَصائِدُ ألسِنَتِهِم، وَمِن حُسنِ إِسلامِ المَرءِ تَركُ ما لا يَعنيهِ.

يا هِشامُ؛ لا يَكونُ الرَّجُلُ مُؤمِناً حَتّي يَكونَ خائِفاً راجِياً وَلا يَكونُ خائِفاً راجِياً حَتّي يَكونَ عامِلاً لِما يَخافُ وَيَرجو.

يا هِشامُ؛ قالَ اللهُ جَلَّ وَعَزَّ: وَعِزَّتي وَجَلالي وَعَظَمَتي وَقُدرَتي وَبَهائي وَعُلُوّي في مَكاني، لا يُؤثِرُ عَبدٌ هَوايَ علي هَواهُ إلّا جَعَلتُ الغِني في نَفسِهِ، وَهَمَّهُ في آخِرَتِه، وَكَفَفتُ عَلَيهِ في ضَيعَتِهِ [72] ، وَضَمَّنتُ السَّماواتِ وَالأَرضِ رِزقَهُ، وَكُنتُ لَهُ مِن وَراءِ تِجارَةِ كُلِّ تاجِرٍ.

يا هِشامُ؛ الغَضَبُ مِفتاحُ الشَّرِّ وَأَكمَلُ المُؤمِنينَ إيماناً أحسَنُهُم خُلُقاً، وَإن خالَطتَ النّاسَ فَإِنِ استَطَعتَ أن لا تُخالِطَ أحَداً مِنهُم إلّا مَن كانَت يَدُك عَلَيهِ العُليا [73] فَافعَل.

يا هِشامُ؛ عَلَيكَ بِالرِّفقِ فَإِنَّ الرِّفقَ يُمنٌ وَالخُرقُ شُؤمٌ، إنَّ الرِّفقَ وَالبِرِّ وَحُسنَ الخُلُقِ يُعَمِّرُ الدِّيارَ وَيَزيدُ فِي الرِّزقِ.

يا هِشامُ؛ قَولُ اللهِ: «هَلْ جَزاءُ الإِحْسانِ إِلّا الإِحْسانُ» [74] جَرَت فِي المُؤمِنِ وَالكافِرِ وَالبَرِّ وَالفاجِرِ، مَن صُنعَ إلَيهِ مَعروفٌ فَعلَيهِ أن يُكافِئَ بِه، وَلَيسَت المُكافَأَةُ أن تَصنَعَ كَما صَنَعَ حَتّي تَرَي فَضلَكَ، فَإِن صَنَعتَ كَما صَنَعَ فَلَهُ الفَضلُ بِالِابتِداءِ.

يا هِشامُ؛ إنَّ مَثَلَ الدُّنيا مَثَلُ الحَيَّةِ، مَسُّها لَيِّنٌ وَفي جَوفِها السُّمُّ القاتِلُ يَحذَرُها الرِّجالُ ذَوو العُقولِ، وَيَهوي إلَيها الصِّبيانُ بِأَيديهِم.

يا هِشامُ؛ اصبِر علي طاعَةِ اللهِ وَاصبِر عَن مَعاصي اللهِ، فَإنَّما الدُّنيا ساعَةٌ، فَما مَضي مِنها فَلَيسَ تَجِدُ لَهُ سُروراً وَلا حُزناً وَما لَم يَأتِ مِنها فَلَيسَ تَعرِفُهُ، فَاصبِر علي تِلكَ السّاعَةِ الّتي أنتَ فيها، فَكَأَنَّكَ قَدِ اغتَبَطتَ. [75] .

يا هِشامُ؛ مَثَلُ الدُّنيا مَثَلُ ماءِ البَحرِ كُلَمّا شَرِبَ مِنهُ العَطشانُ ازدادَ عَطَشاً حَتّي يَقتُلَهُ.

يا هِشام؛ إيّاكَ وَالكِبرَ؛ فَإِنَّهُ لا يَدخُلُ الجَنّة مَن كانَ في قَلبِهِ مِثقالُ حَبَّةٍ مِن كِبرٍ، الكِبرُ رِداءُ اللهِ فَمَن نازَعَهُ رِداءَهُ أكبَّهُ اللهُ فِي النَّارِ علي وَجهِهِ.

يا هِشامُ؛ لَيسَ مِنّا مَن لَم يُحاسِب نَفسَهُ في كُلٍّ يَومٍ؛ فَإِن عَمِلَ حُسناً استَزادَ مِنهُ وَإن عَمِلَ سَيِّئاً استَغفَرَ اللهَ مِنهُ وَتابَ إلَيهِ.

يا هِشامُ؛ تَمَثَّلَتِ الدُّنيا لِلمَسيحِ عليه السلام في صورَةِ امرَأَةٍ زرقاءَ، فَقالَ لَها: كَم تَزَوَّجتِ؟ فَقالَت: كَثيراً. قالَ: فَكُلٌّ طَلَّقَكِ؟ قالَت: لا، بَل كُلاًّ قَتَلتُ. قالَ المَسيحُ عليه السلام: فَوَيحٌ لِأَزواجِكِ الباقينَ، كَيفَ لا يَعتَبِرونَ بِالماضينَ.

يا هشامُ؛ إنَّ ضَوءَ الجَسَدِ في عَينِهِ، فَإِن كانَ البَصَرُ مُضيئاً استَضاءَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِنَّ ضَوءَ الرّوحِ العَقلُ، فَإِذا كانَ العَبدُ عاقِلاً كانَ عالِماً بِرَبِّهِ، وَإِذا كانَ عالِماً بِرَبِّهِ أبصَرَ دينَهُ، وَإن كانَ جاهِلاً بِرَبِّهِ لَم يَقُم لَهُ دينٌ، وَكَما لا يَقومُ الجَسَدُ إلّا بِالنَّفسِ الحَيَّةِ، فَكذلِكَ لا يَقومُ الدّينُ إلّا بِالنِّيَّةِ الصّادِقَةِ وَلا تَثبُتُ النِّيَّةُ الصّادِقَةُ إلّا بِالعَقلِ.

يا هِشامُ؛ إنَّ الزَّرعَ يَنبُتُ فِي السَّهلِ وَلا يَنبُتُ فِي الصَّفا [76] ، فَكَذلِكَ الحِكمَةُ تَعمُرُ في قَلبِ المُتَواضِعِ وَلا تَعمُرُ في قَلبِ المُتَكَبِّرِ الجَبّارِ؛ لِأَنَّ اللهَ جَعَلَ التَّواضُعَ آلَةُ العَقلِ وَجَعَلَ التَّكَبُّرَ مِن آلَةِ الجَهلِ، ألَم تَعلَم أنَّ مَن شَمَخَ [77] إلَي السَّقفِ بِرَأسِهِ شَجَّهُ [78] وَمَن خَفَضَ رَأسَهُ استَظَلَّ تَحتَهُ وأَكَنَّهُ، وَكَذلِكَ مَن لَم يَتَواضَع للَّهِِ خَفَضَهُ اللهُ، وَمَن تَواضَعَ للَّهِِ رَفَعَهُ.

يا هِشامُ، ما أقبَحَ الفَقرَ بَعدَ الغِني! وَأقَبحَ الخَطيئَةَ بَعدَ النُّسُكِ! وَأقبَحُ مِن ذلِكَ العابِدُ للَّهِِ ثُمَّ يَترُكُ عِبادَتَهُ.

يا هِشامُ؛ لا خَيرَ فِي العَيشِ إلّا لِرَجُلَينِ: لِمُستَمِعٍ واعٍ، وَعالِمٍ ناطِقٍ.

يا هِشامُ؛ ما قُسِّمَ بَينَ العِبادِ أفضَلُ مِنَ العَقلِ، نَومُ العاقِلِ أفضَلُ مِن سَهَرِ الجاهِلِ، وَما بَعَثَ اللهُ نَبِيّاً إلّا عاقِلاً، حَتّي يَكونَ عَقلُهُ أفضَلَ مِن جَميعِ جَهدِ المُجتَهدينَ، وَما أدَّي العَبدُ فَريضَةً مِن فرائِضِ اللهِ حَتّي عَقِلَ عَنهُ.

يا هِشامُ؛ قالِ رَسولُ اللهِ صلي الله عليه وآله: إذا رَأيتُم المُؤمِنَ صَموتاً فَادنوا مِنهُ، فَإنَّهُ يُلقي الحِكمَةَ، وَالمُؤمِنُ قَليلُ الكَلامِ كَثيرُ العَمَلِ، وَالمُنافِقُ كَثيرُ الكَلامِ قَليلُ العَمَلِ.

يا هِشامُ، أوحَي اللهُ تَعالي إلي داوودَعليه السلام: قُل لِعبادي: لا يَجعلوا بَيني وَبَينَهُم عالِماً مَفتوناً بِالدُّنيا فَيَصُدُّهُم عَن ذِكري، وَعَن طَريقِ مَحَبَّتي وَمُناجاتي، اُولئِكَ قُطّاعُ الطَّريقِ مِن عِبادي، إنّ أدني ما أَنا صانِعٌ بِهِم أن أنزَعَ حَلاوَةَ مَحَبَّتي وَمُناجاتي مِن قُلوبِهِم.

يا هِشامُ؛ مَن تَعَظَّمَ في نَفسِهِ لَعَنَتهُ مَلائِكَةُ السَّماءِ وَمَلائِكَةُ الأَرضِ، وَمَن تَكَبَّرَ علي إخوانِهِ وَاستَطال عَلَيهِم [79] فَقَد ضادَّ اللهَ، وَمَن ادَّعي ما لَيسَ لَهُ فَهُوَ أعني لِغَيرِ رُشدِهِ.

يا هِشام؛ أوحَي اللهُ تَعالي إلي داوودَعليه السلام: يا داوودُ حَذِّر وَأَنذِر أصحابَكَ عَن حُبِّ الشَّهواتِ، فَإِنَّ المُعَلَّقَةَ قُلوبُهُم بِشَهَواتِ الدُّنيا قُلوبُهُم مَحجوبَةٌ عَنِّي.

يا هِشامُ؛ إيّاكَ وَالكِبرَ علي أوليائي وَالاستِطالَةَ بِعلمِكَ فَيَمقُتَكَ اللهُ، فَلا تَنفَعُكَ بَعدَ مَقتِهِ دُنياكَ وَلا آخِرَتُكَ، وَكُن فِي الدُّنيا كَساكِنِ دارٍ لَيَست لَهُ إنَّما يَنتَظِرُ الرَّحيلَ.

يا هِشامُ؛ مُجالَسَةُ أهلِ الدّينِ شَرَفُ الدُّنيا وَالآخِرَةِ، وَمُشاوَرَةُ العاقِلِ النّاصِحِ يُمنٌ وبَرَكَةٌ وَرُشدٌ وَتَوفيقٌ مِنَ اللهِ، فَإِذا أشارَ عَلَيكَ العاقِلُ النّاصِحُ فَإِيّاكَ وَالخِلافَ، فَإِنَّ في ذلِكَ العَطَبَ. [80] .

يا هِشامُ؛ إيّاكَ وَمُخالَطَةَ النّاسِ وَالاُنسَ بِهِم، إلّا أن تَجِدَ مِنهُم عاقِلاً وَمَأموناً، فَآنِس بِهِ وَاهرَب مِن سائِرِهِم كَهَرَبِكَ مِن السِّباعِ الضّارِيَةِ [81] .

وَيَنبغي لِلعاقِلِ إذا عَمِلَ عَمَلاً أن يَستَحيي مِنَ اللهِ، وَإِذا تَفَرَّدَ لَهُ بِالنِّعَمِ أن يُشارِكَ في عَمَلِهِ أحَداً غَيرَهُ [82] ، وَإِذا مَرَّ بِكَ [83] أمرانِ لا تَدري أيُّهُما خَيرٌ وَأَصوَبُ فَانظُر أيَّهما أقرَبَ إلي هواكَ فَخالِفهُ، فَإِنَّ كَثيرَ الصَّوابِ في مُخاَلَفةِ هَواكَ، وَإِيَّاكَ أن تَغلِبَ الحِكمَةَ وَتَضَعَها في أهلِ الجَهالَةِ [84] .

قالَ هِشامُ: فَقُلتُ لَهُ: فَإِن وَجَدتُ رَجُلاً طالِباً لَهُ، غَيرَ أنَّ عَقلَهُ لا يَتَّسِعُ لِضَبطِ ما اُلِقيَ إلَيهِ؟ قالَ عليه السلام: فَتَلَطَّفَ لَهُ فِي النَّصيحَةِ، فَإِن ضاقَ قَلبُهُ فَلا تُعَرِضَنَّ نَفسَكَ لِلفِتنَةِ، وَاحذَر رَدَّ المُتَكَبِّرينَ، فَإِنَّ العِلمَ يَدُلُّ علي أن يُملي علي مَن لا يُفيقُ [85] .

قُلتُ: فَإِن لَم أجِدَ مَن يَعقِلُ السُّؤالَ عَنها؟ قالَ عليه السلام: فَاغتَنِم جَهلَهُ عَنِ السُّؤالِ حَتّي تَسلَمَ مِن فِتنَةِ القَولِ وَعَظيمِ فِتنَةِ الرَّدِّ، وَاعلَم أنَّ اللهَ لَم يَرفَعِ المُتَواضِعينَ بِقَدرِ تَواضُعِهِم، وَلكِن رَفَعَهُم بِقَدرِ عَظَمَتِهِ وَمَجدِهِ، وَلَم يُؤمِنِ الخائِفينَ بِقَدرِ خَوفِهِم، وَلكِن آمَنَهُم بِقَدرِ كَرَمِهِ وَجودِهِ، وَلَم يُفّرِجِ [86] المَحزونينَ بِقَدرِ حُزنِهِم، وَلكِن بِقَدرِ رَأَفتِهِ وَرَحمَتِهِ، فَما ظَنُّكَ بِالرّؤوفِ الرَّحيمِ الَّذي يَتَوَدَّدُ إلي مَن يُؤذيهِ بِأَوليائِهِ، فَكَيفَ بِمَن يُؤذي فيهِ؟ وَما ظَنُّكَ بِالتَّوابِ الرَّحيمِ الَّذي يَتوبُ علي مَن يُعاديهِ فَكَيفَ بِمَن يَتَرَضّاهُ [87] ، وَيَختارُ عَدَاوَةَ الخَلقِ فيه؟.

يا هِشامُ؛ مَن أحَبَّ الدُّنيا ذَهَبَ خَوفُ الآخِرَةِ مِن قَلبِهِ، وَما اُوتِيَ عَبدٌ عِلماً فَازدادَ لِلدُّنيا حُبّاً، إلّا ازدادَ مِنَ اللهِ بُعداً وَازدادَ اللهُ عَلَيهِ غَضَباً.

يا هِشامُ؛ إنَّ العاقِلَ اللَّبيبَ مَن تَرَكَ ما لا طاقَةَ لَهُ بِهِ، وَأكثَرَ الصَّوابَ في خِلافِ الهَوي وَمَن طالَ أملُهُ ساءَ عَمَلُهُ.

يا هِشامُ؛ لَو رَأَيتَ مَسيرَ الأَجَلِ لَأَلهاكَ عَنِ الأَملِ.

يا هِشامُ؛ إيّاكَ وَالطَّمَعَ وَعَلَيكَ بِاليَأسِ مِمّا في أيدي النّاسِ، وَأمِتِ الطَّمَعَ مِنَ المَخلوقينَ، فَإِنَّ الطَّمَعَ مِفتاحٌ لِلذُّلِّ، وَاختِلاسَ العَقلِ وَاختِلاقَ [88] المُرُوّاتِ وَتَدنيسَ العِرضِ [89] ، والذَّهابَ بِالعِلمِ، وَعَلَيكَ بِالاِعتِصامِ بِرَبِّكَ وَالتَّوَكُّلَ عَلَيهِ، وَجاهِد نَفسَكَ لِتَرُدَّها عَن هَواها، فَإِنَّهُ واجِبٌ عَلَيكَ كَجِهادِ عَدُوِّكَ.

قالَ هِشامُ: فَقُلتُ لَهُ: فَأَيُّ الأَعداءِ أوجَبُهُم مُجاهَدَةً؟ قالَ عليه السلام: أقرَبُهُم إلَيكَ، وَأَعداهُم لَكَ وَأضَرُّهُم بِكَ، وَأعظَمُهُم لَكَ عَداوَةً، وَأخفاهُم لَكَ شَخصاً، مَعَ دُنُوِّهِ مِنكَ، وَمَن يُحَرِّضُ أعداءَكَ عَلَيكَ وَهُوَ إبليسُ المُوَكَّلُ بِوَسواسٍ مِنَ القُلوبِ، فَلَهُ فَلتَشتَدَّ عَداوَتُكَ، وَلا يَكونَنَّ أصبَرَ علي مُجاهَدَتِهِ لِهَلَكَتِكَ مِنكَ علي صَبرِكَ، لِمُجاهَدَتِهِ، فَإِنَّهُ أضعَفُ مِنكَ رُكناً [90] في قُوَّتِهِ، وَأقَلُّ مِنكَ ضَرراً في كَثرَةِ شَرِّهِ، إذا أنتَ اعتَصَمتَ بِاللهِ فَقَد هُديتَ إلي صِراطٍ مُستَقيمٍ.

يا هِشامُ؛ مَن أكرَمَهُ اللهُ بِثَلاثٍ فَقَد لَطُفَ لَهُ: عَقلٌ يَكفيهِ مَؤونَةَ هَواهُ، وَعِلمٌ يَكفيهِ مَؤونَةَ جَهلِهِ، وَغِنيً يَكفيهِ مَخافَةَ الفَقرِ.

يا هِشامُ؛ احذَر هذهِ الدُّنيا، وَاحذَر أهلَها، فَإِنَّ النّاسَ فيها علي أرَبَعةِ أصنافٍ: رَجُلٍ مُتَرَدٍّ مُعانِقٍ لِهواهُ، وَمُتعَلِّمٍ مُقرِئٍ كُلَّما ازدادَ عِلماً ازدادَ كِبراً يَستَعلي بِقِراءَتِهِ وَعلِمِهِ علي مَن هُوَ دونَهُ، وَعابِدٍ جاهِلٍ يَستَصغِرُ مَن هُوَ دونَهُ في عِبادَتِهِ يُحِبُّ أن يُعَظَّمَ وَيُوَقَّرَ وَذي بَصيرَةٍ عالِمٍ عارِفٍ بِطَريقِ الحَقِّ، يُحِبُّ القِيامَ بِهِ، فَهُوَ عاجِزٌ أو مَغلوبٌ، ولا يَقدِرُ عَلَي القِيامِ بِما يَعرِفُهُ فَهُوَ مَحزونٌ مَغمومٌ بِذلِكَ فَهُوَ أمثَلُ [91] أهلِ زَمانِهِ وَأوجَهُهُم عَقلاً.

يا هِشامُ؛ اعرِفِ العَقلَ وَجُندَهُ، وَالجَهلَ وَجُندَهُ، تَكُن مِن المُهتَدينَ.

قالَ هِشامُ: فَقُلتُ: جُعِلتُ فِداكَ لا نَعرِفُ إلّا ما عَرَّفتَنا.

فَقالَ عليه السلام: يا هِشامُ؛ إنَّ اللهَ خَلَقَ العَقلَ وَهُوَ أوَّلُ خَلقٍ خَلَقَهُ اللهُ مِنَ الرَّوحانِيينَ عَن يَمينِ العَرشِ من نورِهِ فقال له: أدبِر فَأَدبَرَ ثُمَّ قالَ لَهُ: أقبِل فَأَقبَلَ، فَقالَ اللهُ جَلَّ وَعَزَّ: خَلَقتُكَ خَلقاً عَظيماً وَكَرَّمتُكَ علي جَميعِ خَلقي. ثُمَّ خَلَقَ الجَهلَ مِنَ البَحرِ الاُجاجِ الظَّلمانِي فَقالَ لَهُ: أدبِر فَأَدبَرَ، ثُمَّ قالَ لَهُ: أقبِل فَلَم يُقبِل فَقالَ لَهُ: استَكبَرتَ فَلَعَنَهُ، ثُمَّ جَعَلَ لِلعَقلِ خَمَسةً وسَبعينَ جُنداً، فَلَمّا رَأَي الجَهلُ ما كَرَّمَ اللهُ بِهِ العَقلَ وَما أعطاهُ أضمَرَ لَهُ العَداوَةَ فَقالَ الجَهلُ: يا رَبِّ، هذا خَلقٌ مِثلي خَلَقتَهُ وَكَرَّمتَهُ وَقَوَّيتَهُ، وَأنا ضِدُّهُ وَلا قُوَّةَ لي بِهِ، أعطِني مِنَ الجُندِ مِثلَ ما أعطَيتَهُ؟ فَقالَ تَبارَكَ وَتَعالي: نَعَم، فَإِن عَصَيتَني بَعدَ ذلِكَ أخرَجتُكَ وَجُندَكَ مِن جِواري وَمِن رَحمَتي، فَقالَ: قَد رَضيتُ. فَأَعطاهُ اللهُ خَمسَةً وَسَبعينَ جُنداً، فَكانَ مِمّا أعطي العقلَ مِنَ الخَمسَةِ وَالسَّبعينَ جُنداً، الخَيرُ وَهُوَ وَزيرُ العَقلِ، وَجَعَلَ ضِدَّهُ الشَّرَّ وَهُوَ وَزيرُ الجَهلِ:


پاورقي

[1] وفي الكافي: أبو عبد الله الأشعريّ عن بعض أصحابنا رفعه عن هشام بن الحكم قال: قال لي أبو الحسن موسي بن جعفرعليه السلام: يا هشام.

[2] كما تنبّهنا في مقدمة مكاتيب الإمام الصّادق عليه السلام ليست هي مكتوبة بل ورد شفاهاً وأوردناها استطراداً.

[3] الزمر: 17 و 18.

[4] البقرة: 163.

[5] البقرة: 164.

[6] النحل: 12.

[7] الزخرف: 3- 1.

[8] الروم: 24.

[9] الأنعام: 32.

[10] القصص: 60.

[11] الصافات: 138 - 136.

[12] العنكبوت: 43.

[13] البقرة: 170.

[14] الأنفال: 22.

[15] في سورة لقمان الآية 25: «وَ لَل-ِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَ تِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ». وفي سورة العنكبوت الآية 63: «وَ لَل-ِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن م بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ» لعلّه سهو من الرّاوي أو من النّسّاخ.

[16] الأنعام: 116.

[17] سورة الأنعام: 37. ونظيرها قوله تعالي: «بَلْ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ»: سورة النّحل: 77 و103. والأنبياء: 24، والنّمل: 62، ولقمان: 24، والزّمر: 30، وكذا قوله تعالي: «بَلْ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ»: سورة العنكبوت: 63. وقوله تعالي: «وَ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ»: سورة المائدة: 102.

[18] مضمون مأخوذ من آيات القرآن.

[19] سبأ: 13.

[20] ص: 24.

[21] هود: 40.

[22] البقرة: 269. ونظيرها قوله تعالي في سورة آل عمران: 187 والرّعد: 19 وص: 28 والزّمر: 12 والمؤمن: 56.

[23] ق: 37.

[24] لقمان: 12. إلي هنا في الكافي مع تقديم وتأخير.

[25] زاد في الكافي: «وإنّ الكيّس لدي الحقّ يسير».

[26] الحشو: ما حشي به الشيء أي ملاء به. وفي بعض النّسخ: فلتكن سفينتك منها. و«حشوها» في بعض النّسخ «جسرها». وشِراع السّفينة - بالكسر -: ما يرفع فوقها من ثوب وغيره ليدخل فيه الرّيح فتجريها.

[27] في الكافي: «العاقل» بدل «العقل» في الموضعين.

[28] في الكافي: «وأكملهم عقلاً».

[29] في الكافي: «من أظلم نور تفكّره».

[30] العَيلة: الفاقة.

[31] نصب - من باب ضرب علي صيغة المجهول: بمعني وضع، أو من باب التّفعيل من نصب الأمير فلاناً ولّاه منصباً. وفي الكافي: «ونصب الحقّ لطاعة الله».

[32] اعتقد الشيء: نقيض حله. وفي بعض النسخ: «يعتقل» هو أيضاً نقيض حل أي يمسك ويشدّ.

[33] زاد في الكافي: «يا هشام إنّ العاقل نظر إلي الدّنيا وإلي أهلها فعلم أنّها لا تنال إلّا بالمشقّة ونظر إلي الآخرة فعلم أنّها لا تنال إلّا بالمشقّة، فطلب بالمشقّة أبقاهما».

[34] آل عمران: 8.

[35] الرّدي: الهلاك.

[36] في الكافي: «ما عبد الله بشي ء».

[37] الكفر في الاعتقاد والشّرّ في القول والعمل والكلّ ينشأ من الجهل. وفي بعض النّسخ: «مأمون».

[38] الرّشد في الاعتقاد والخير في القول والكلّ ناش من العقل. وفي بعض النّسخ: «مأمول».

[39] أي ملاك الأمر وتمامه في أن يكون الإنسان كاملاً تامّ العقل هو كونه متصفاً بمجموعة هذه الخصال.(وافي).

[40] لا تمنحوا الجهّال: أي لا تعطوهم ولا تعلموهم. والمنحة: العطاء.

[41] في الكافي ههنا: «يا هشام إنّ العاقل لا يكذب وإن كان فيه هواه».

[42] أي قدراً ورفعة. والخطر: الحظّ والنّصيب والقدر والمنزلة.

[43] ههنا كلام نقله صاحب الوافي عن استاده رحمهما الله قال: وذلك لأنّ الأبدان في التّناقص يوماً فيوماً لتوجّه النّفس منها إلي عالم آخر، فإن كانت النّفس سعيدة كانت غاية سعيه في هذه الدّنيا وانقطاع حياته البدنيّة إلي الله سبحانه وإلي نعيم الجنّة، لكونه علي منهج الهداية والاستقامة، فكأنّه باع بدنه بثمن الجنّة معاملة مع الله تعالي ولهذا خلقه الله، وإن كانت شقيّة كانت غاية سعيه وانقطاع أجله وعمره إلي مقارنة الشّيطان وعذاب النّيران لكونه علي طريق الضّلالة، فكأنّه باع بدنه بثمن الشّهوات الفانية واللذّات الحيوانيّة الّتي ستصير نيرانات محرقة مؤلمة، وهي اليوم كامنة مستورة عن حواسّ أهل الدُّنيا وستبرز يوم القيامة: «وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَي»، معاملة مع الشّيطان وخسر هنالك المبطلون.

[44] في الكافي: إنّ من علامة العاقل أن يكون فيه ثلاث خصال: يجيب إذا سئل. وينطق إذا عجز القوم عن الكلام. ويشير بالرّأي الّذي يكون فيه صلاح أهله، فمن لم يكن فيه من هذه الخصال الثّلاث شي ء فهو أحمق. إنّ أمير المؤمنين عليه السلام قال: لا يجلس في صدر المجلس إلّا رجل فيه هذه الخصال الثّلاث أو واحدة منهنّ - إلخ.

[45] الزمر: 9.

[46] في الكافي: «وآداب العلماء».

[47] التّعنيف: اللّؤم والتّوبيخ والتّقريع.

[48] في الكافي: «ولا يقدم علي ما يخاف فوته بالعجز عنه». أي لا يبادر إلي فعل قبل أوانه خوفاً من أن يفوته بالعجز عنه في وقته.

[49] وما حوي»: أي ما حواه الرّأس من الأوهام والأفكار، بأن يحفظها ولا يبديها، ويمكن أن يكون المراد ما حواه الرّأس من العين والأذن وسائر المشاعر بأن يحفظها عمّا يحرم عليه. وما وعي أي ما جمعه من الطّعام والشّراب بأن لا يكونا من حرام.

[50] والبلي - بالكسر -: الاندراس والاضمحلال.

[51] المحفوفة: المحيطة. والمكاره: جمع مكرهة - بفتح الرّاء وضمّها -: ما يكرهه الإنسان ويشقّ عليه. والمراد أنّ الجنّة محفوفة بما يكره النّفس من الأقوال والأفعال فتعمل بها، فمن عمل بها دخل الجنّة. والنّار محفوفة بلذّات النّفس وشهواتها، فمن أعطي نفسه لذّتها وشهوتها دخل النّار.

[52] الذّؤابة من كلّ شي ء: أعلاه. ومن السّيف: علاقته. ومن السّوط: طرفه. ومن الشّعر: ناصيته.

[53] عتا يعتو عتوّاً، وعتي يعتي عتياً: بمعني واحد أي استكبر وتجاوز الحدّ، والعتو: الطّغيان والتّجاوز عن الحدود والتّجبّر. وفي بعض النّسخ: «واعني النّاس»، من عنّ عليه أي اعترض. وفي بعضها: «وأعق النّاس»، من عقّه: خالفه وعصاه.

[54] اللّمّاظة - بالضّمّ -: بقيّة الطّعام في الفم. وأيضاً بقية الشّي ء القليل.

[55] يهولكم: أي يفزعكم وعظم عليكم.

[56] مؤونة المراقي: شدّة الارتقاء. والمرافق: المنافع؛ وهي جمع مرفق - بالفتح -: ما انتفع به.

[57] الأمد: الغاية ومنتهي الشّي ء، يقال: طال عليهم الأمد أي الأجل. والنّور - بالفتح -: الزّهرة.

[58] الغِبّ - بالكسر -: العاقبة. وأيضاً بمعني البعد.

[59] القطران - بفتح القاف وسكون الطّاء وكسرها أو بكسر القاف وسكون الطّاء -: سيّال دهني شبيه النّفط، يتّخذ من بعض الأشجار كالصّنوبر والارز فيهنأ به الإبل الجربي ويسرع فيه اشعال النّار.

[60] نتنه: أي خبث رائحته.

[61] الحداء - بالكسر -: جمع حدأة - كعنبة -: طائر من الجوارح وهو نوع من الغُراب يخطف الأشياء والخاطفة من خطف الشّي ء يخطف كعلم يعلم -: استلبه بسرعة.

[62] الغادرة: الخائنة.

[63] والعاتي: الجبّار.

[64] المنخل - بضمّ الميم والخاء أو بفتح الخاء -: ماينخل به. والنخالة - بالضّمّ -: ما بقي في المنخل من القشر ونحوه.

[65] جثا يجثو. وجثي يجثي: جلس علي ركبتيه أو قام علي أطراف الأصابع. وفي بعض النّسخ: «حبواً» أي زحفاً علي الرّكب من حبا يحبو وحبي يحبي: إذا مشي علي أربع.

[66] الوابل: المطر الشّديد الضّخم القطر.

[67] المشّاء: الكثير المشي.

[68] الأرب - بفتحتين -: الحاجة.

[69] البذاء: الفحش. والبذي - علي فعيل -: السّفيه والّذي أفحش في منطقه.

[70] الشّاجب: الهذّاء المكثار أي كثير الهذيان وكثير الكلام. وأيضاً الهالك. وهو الأنسب.

[71] أي يحسن الثّناء وبالغ في مدحه إذا شاهده؛ ويعيبه بالسّوء ويذمّه إذا غاب.

[72] الضّيعة - بالفتح -: حرفة الرّجل وصناعته وفي بعض النسخ: «صنعته».

[73] اليد العليا: المعطية المتعفّفة.

[74] الرّحمن: 60.

[75] اغتبط: كان في مسرّة وحسن حال. وفي بعض النّسخ: «قد احتبطت».

[76] الصّفا: الحجر الصّلد الضّخم.

[77] شمخ - من باب منع -: علا ورفع.

[78] أي كسره وجرحه.

[79] استطال عليهم: أي تفضّل عليهم.

[80] العطب: الهلاك.

[81] الضّاري: الحيوان السّبع، من ضرّا الكلب بالصّيد يضْرو: تعوَّده وأوْلع به. وأيضاً: تطعم بلحمه ودمه.

[82] أي إذا اختصّ العاقل بنعمة ينبغي له أن يشارك غيره في هذه النّعمة بأن يعطيه منها. وفي بعض النّسخ: «إذ تفرّد له».

[83] في بعض النّسخ: «وإذا خرّ بك أمران»، وخرّ به أمر: أي نزل به وأهمّه.

[84] قال المجلسي رحمه الله: كأنّ فيه حذفاً وإيصالاً أي تغلب علي الحكمة أي يأخذها منك قهراً مَن لا يستحقّها بأن يقرأ علي صيغة المجهول أو علي المعلوم أي تغلب علي الحكمة فإنّها تأبي عمّن لا يستحقّها. ويحتمل أن يكون بالفاء والتّاء من الإفلات بمعني الإطلاق فإنّهم يقولون: انفلت منّي كلام أي صدر بغير رويّة.

وفي بعض النّسخ المنقولة من الكتاب: «وإيّاك أن تطلب الحكمة وتضعها في الجهّال».

[85] الإفاقة: الرّجوع عن الكسر والاغماء والغفلة إلي حال الاستقامة. وفي بعض النّسخ: «فإنّ العلم يذلّ علي أن يحمل علي من لا يفيق» وفي بعضها: «يجلي».

[86] في بعض النّسخ: «يفرح».

[87] يترضّاه: أي يطلب رضاه.

[88] الاختلاق: الافتراء. وفي بعض النّسخ: «واخلاق». والظّاهر أنّه جمع خلق - بالتحريك - أي البالي.

[89] العرض: النّفس والخليقة المحمودة - وأيضاً -: ما يفتخر الإنسان من حسب وشرف.

[90] الرّكن: العزّ والمنعة. وأيضاً: ما يقوي به. والأمر العظيم.

[91] الأمثل: الأفضل.