بازگشت

مع هارون الرشيد


الحديث عن امامنا عليه السلام في عهد هذا الخليفة الذي لم يكن رشيدا في تفكيره الأخروي، و لا سديدا في تقديره، و لا حكيما في تدبيره الدنيوي، بل عمل بجاهلية حمقاء، و بعصبية رعناء، جعلتاه لا يتورع عن ارتكاب كبائر المحرمات، و لا عن ممارسة أقبح التصرفات، تماما كالملحد بالله، الكافر برسوله، الذي لا تربطه بالاسلام أدني رابطة - أقول: ان الحديث عنه عليه السلام في هذا العهد يفضح العباسية التي حادت عن الدين، و عما أنزله رب العالمين.

فكثيرا ما كنت أتعجب و أنا أدرس أعماله مع امامنا سلام الله عليه، اذ رأيتها أعمال رجل باع آخرته بدنياه، و تصرف تصرف عات متعنت لم يرتكز تصرفه الي سبب يدين به الامام عليه السلام، بل كان تصرف ظلم مفضوح يقوم به من لا يؤمن ببعث و لا بنشور و لا حساب و لا عقاب.

و لقد كان ينبغي لهذا الهارون - القارون - أن يخجل من قرباه بالنبي صلي الله عليه و اله و سلم، و أن يكون رشيدا يحفظ خط الرجعة، حتي ولو كان ملحدا كافرا بما جاء به ابن عمه صلوات الله و سلامه عليه و علي أهل بيته



[ صفحه 174]



الطاهرين... و انني لا أعرف كيف تحدر من صلب العباس بن عبد المطلب أمراء جائرون ظلموا ذرية النبي أعظم ظلم، و عاملوهم بجبروت لم يعرف التاريخ لها نظيرا...

فلو كان أبناء رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم من الترك أو الديلم، لكان الأحري بأولئك الأمراء - و هم أبناء عمومتهم - أن يقربوهم، و يحوطونهم بكل عطف و لطف. ولكنهم فعلوا العكس، اذ حكموا الترك و وضعوهم علي رؤوسهم، و أدخلوهم علي حريمهم، و أملوا علي التاريخ سطورا سوداء لم يحو التاريخ مثلها الا نادرا.

فيا ليتهم أكرموهم: و وصلوا رحمهم، و تقربوا بذلك الي الله تعالي و الي رسوله، خصوصا اذا علمنا أن الأئمة عليهم السلام لم يظهروا للعباسيين أي تنكر أو خصومة، و لا شهروا في وجوههم سيفا؛ و لا حرضوا عليهم أحدا، و لا فاهوا بكلمة عدوانية تدل علي المنافسة. في الملك و السلطان.

و ستري في هذه الصفحات الطوال من عهد هذا الخليفة العنيد، ما يترك العاقل في حيرة من أمر خليفة قالوا انه أصلح من غيره من العباسيين.

«و كان هارون الرشيد قد حمل الامام عليه السلام من المدينة، لعشر ليال من شوال سنة تسع و سبعين و مائة، و قد قدم المدينة منصرفه من عمرة شهر رمضان، ثم شخص الي الحج و حمله معه» [1] .

و ستري كيف قبض عليه، و كيف عامله أسوأ معامله، دون أي سابقة تقتضي ذلك.

فقد «ذكر ابن عمار، و غيره من الرواة، أنه لما خرج الرشيد الي



[ صفحه 175]



الحج، و قرب من المدينة، استقبله الوجوه من أهلها يقدمهم موسي بن جعفر عليه السلام علي بغلة.

فقال له الربيع: ما هذه الدابة التي تلقيت عليها أميرالمؤمنين، و أنت ان طلبت عليها لم تدرك، و ان طلبت عليها لم تفت - يعني أنها لا تلحق عدوه اذا هاجمه عليها، و اذا هرب من عدوه و هو عليها لا ينجو منه -!

فقال - عليه السلام -: انها تطاطأت عن خيلاء الخيل، و ارتفعت عن ذلة العير - أي الحمير-. و خير الأمور أوسطها.

قالوا: و لما دخل الرشيد المدينة توجه الي زيارة النبي صلي الله عليه و اله و سلم، و معه الناس، فتقدم الي قبر رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم، فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يابن عم - مفتخرا بذلك علي غيره.

فتقدم موسي عليه السلام الي القبر و قال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبه!.

فتغير وجه الرشيد، و تبين الغيظ فيه!». [2] .

«قال المدائني: أقام موسي بالمدينة حتي توفي المهدي و الهادي.

و حج هارون الرشيد واعتمر في شهر رمضان من سنة تسع و سبعين و مائة. فلما عاد الي المدينة - علي ساكنها أفضل الصلاة والسلام - دخل الي قبر النبي صلي الله عليه و اله و سلم يزوره و معه الناس. فلما انتهي الي قبر وقف فقال: السلام عليك يا رسول الله، يابن عم، افتخارا علي من حوله.



[ صفحه 176]



فدنا موسي بن جعفر فقال: السلام عليك يا أبت!.

فتغير وجه الرشيد و قال: هذا هو الفخر يا أباالحسن جدا...

ثم أخذه معه الي العراق فحسبه عند السندي بن شاهك. و تولي حبسه أخت السندي بن شاهك، و كانت تتدين، فحكت عنه أنه كان اذا صلي العتمة حمدالله و مجده و دعاه الي أن يزول الليل ثم يقوم فيصلي حتي يصلي الصبح، ثم يذكر الله تعالي حتي تطلع الشمس. ثم يقعد الي ارتفاع الضحي. ثم يرقد، و يستيقظ قبل الزوال. ثم يتوضأ و يصلي، حتي يصلي العصر؛ ثم يذكر الله حتي يصلي المغرب، ثم يصلي ما بين المغرب و العتمة. فكان هذا دأبة الي أن مات؛ فكانت اذا رأته قالت: خاب قوم تعرضوا لهذا الرجل الصالح». [3] .

«و لما كان محبوسا بعث الي الرشيد برسالة: أنه لن ينقضي عني يوم من البلاء، الا ينقضي عنك يوم من الرخاء، حتي نفضي بنا جميعا الي يوم ليس له انقضاء، يخسر فيه المبطلون». [4] .

و بعد هذا، أنا لا أدري لماذا تغير وجه خليفة المسلمين حينما سمع ما قاله الامام عليه السلام، عند دخوله علي جده المصطفي صلي الله عليه و اله و سلم؟!.

و كيف جاز للخليفة المتعجرف أن يفتخر علي الناس و يتواقح حين



[ صفحه 177]



يخاطب الرسول من غير أدب و لا تهذيب و يقول له: يابن عم، ثم لا يجوز لسبط رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم، و ابن علي و فاطمه عليهاالسلام، أن يفتخر بأبوة جده التي ما بعدها فخر لمفتخر!!.

هذا يجوز له رغما عن سائر العالمين.

و الخليفة كان جلفا حين خاطب النبي صلي الله عليه و اله و سلم بهذه الفظاظة.و حق للامام أن يفتخر و لو رغم أنف ألف خليفة جبار، و رضي أم أبي، و اربد وجهه أو اسود... و ان تغير وجهه قد دل علي خبث سريرته، و أظهر أنه ذو وجهين و لسانين، و يبطن غير ما يظهر، بدليل أنه قال للامام الكاظم عليه السلام: هذا هو الفخر... ثم أمر باعتقاله فورا لنقله الي حبسه المظلم!

لقد كان له يوم سلطة نفذ فيه ما أراد... ولكنه نسي أن للامام عليه السلام يوم اقتصاص عصيب، و أن يوم العدل أشد علي الظالم، من يوم الظلم علي المظلوم - كما قال أميرالمؤمنين صلوات الله عليه و تحياته و بركاته...(و سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون (227)) [5] .

«حدث أبوأحمد، هاني بن محمد العبدي [6] قال: حدثني أبومحمد، رفعه الي موسي بن جعفر عليه السلام، قال:

لما أدخلت علي الرشيد سلمت عليه، فرد علي السلام، ثم قال: يا موسي بن جعفر، خليفتان يجبي اليهما الخراج؟!.



[ صفحه 178]



فقلت: يا أميرالمؤمنين، أعيذك بالله أن تبوء باثمي و اثمك فتقبل الباطل من أعدائنا علينا. فقد علمت بأنه قد كذب علينا منذ قبض رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم. أما علم ذلك عندك؟!. فان رأيت بقرابتك من رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم أن تأذن لي أحدثك بحديث أخبرني به أبي عن آبائه عن جدي رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم.

فقال: قد أذنت لك.

فقلت: أخبرني أبي عن آبائه، عن جدي رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم، أنه قال: ان الرحم اذا مست الرحم، تحركت و اضطربت. فناولني يدك جعلني الله فداك.

قال: ادن مني.

فدنوت منه، فأخذ بيدي ثم جذبني الي نفسه، و عانقني طويلا، ثم تركني و قال:

اجلس يا موسي، فليس عليك بأس!.

فنظرت اليه، فاذا به قد دمعت عيناه، فرجعت الي نفسي.

فقال: صدقت، و صدق جدك صلي الله عليه و اله و سلم، لقد تحرك دمي، و اضطربت عروقي حتي غلبت علي الرقة وفاضت عيناي، و أنا أريد أن أسألك عن أشياء تتلجلج في صدري منذ حين و أنا لم أسأل عنها أحدا. فان أنت أجبتني عنها خليت عنك و لم أقبل قول أحد فيك. و قد بلغني أنك لم تكذب قط.

فاصدقني فيما أسألك ما في قلبي.

فقلت: ما كان علمه عندي فاني مخبرك به ان أنت أمنتني.

قال: لك الأمان ان صدقتني و تركت التقية التي تعرفون بها معاشر بني فاطمة.



[ صفحه 179]



فقلت: ليسأل أميرالمؤمنين عما شاء.

قال: أخبرني لم فضلتم علينا، و نحن و أنتم من شجرة واحدة، و بنو عبدالمطلب، و نحن و أنتم واحد؟!. انا بنوعباس، و أنتم ولد أبي طالب، و هما عما رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم، و قرابتهما منه سواء!.

فقلت: نحن أقرب.

قال: و كيف ذلك.

قال: لأن عبدالله و أباطالب، لأب و أم، و أبوكم العباس ليس هو من أم عبدالله و لا من أم أبي طالب.

قال: فلم ادعيتم أنكم ورثتم النبي صلي الله عليه و اله و سلم، و العم يحجب ابن العم؟.

و قبض رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم، و قد توفي أبوطالب قبله، و العباس عمه حي؟.

فقلت له: ان رأي أميرالمؤمنين أن يعفيني عن هذه المسألة، و يسألني عن كل باب سواه يريده.

فقال: لا، أو تجيب.

فقلت: فأمني.

قال: آمنتك قبل الكلام.

فقلت: ان في قول علي بن أبي طالب عليه السلام: انه ليس مع ولد الصلب، ذكرا كان أو أنثي، لأحد سهم الا الأبوين و الزوج و الزوجة؛ و لم يثبت للعم مع ولد الصلب ميراث، و لم ينطق به الكتاب العزيز و لا السنة؛ الا أن تيما وعديا، و بني أمية قالوا: العم والد، رأيا منهم بلا حقيقة و لا أثر عن رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم. و من قال بقول علي من العلماء قضاياهم خلاف قضايا هؤلاء. هذا نوح بن دراج يقول في هذه المسألة بقول علي، و قد حكم به.

و قد ولاه أميرالمؤمنين المصرين: الكوفة، و البصرة. و قد قضي به، فأنهي



[ صفحه 180]



الي أميرالمؤمنين فأمر باحضاره و احضار من يقول بخلاف قوله: منهم سفيان الثوري، و ابراهيم المازني، و الفضيل بن عياض، فشهدوا أنه قول علي في هذه المسألة؛ فقال لهم فيما بلغني بعض العلماء من أهل الحجاز: لم لا تفتون و قد قضي نوح بن دراج... فقالوا: جسر، و حببنا... و قد أمضي أميرالمؤمنين قضيته بقول قدماء العامة عن النبي صلي الله عليه و اله و سلم، أنه قال: أقضاكم علي؛ و كذلك عمر بن الخطاب قال: علي أقضانا. و هو اسم جامع، لأن جميع ما مدح به النبي صلي الله عليه و اله و سلم أصحابه من القرابة و الفرائض، و العلم، داخل في القضاء.

قال: زدني يا موسي.

قلت: المجالس بالأمانات، و خاصة مجلسك.

فقال: لا بأس به.

فقلت: ان النبي لم يورث من لم يهاجر، و لا أثبت له ولاية حتي يهاجر.

فقال: ما حجتك فيه؟.

قلت: قول الله تبارك و تعالي: (والذين ءامنوا و لم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شي ء حتي يهاجروا...) [7] و ان عمي العباس لم يهاجر.

فقال لي: اني أسألك يا موسي: هل أفتيت أحدا بذلك من أعدائنا، أو أخبرت أحدا من الفقهاء في هذه المسألة بشيي ء؟.

فقلت: اللهم لا، و ما سألني عنها الا أميرالمؤمنين.

ثم قال لي: جوزتم للعامة و الخاصة أن ينسبوكم الي



[ صفحه 181]



رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم، و يقولوا لكم: يا بني رسول الله، و أنتم بنوعلي، و انما ينسب المرء الي أبيه، و فاطمة انما هي وعاء، و النبي جدكم من قبل أمكم!.

فقلت: يا أميرالمؤمنين، لو أن النبي نشر - أي عاد حيا - فخطب اليك كريمتك - أي ابنتك - هل كنت تجيبه؟.

قال: سبحان الله!. و لم لا أجيبه؟. بل أفتخر علي العرب و العجم و قريش بذلك.

فقلت له: لكنه لا يخطب الي، و لا أزوجه.

فقال: و لم؟!.

قلت: لأنه ولدني، و لم يلدك.

فقال: أحسنت يا موسي... ثم قال: كيف قلتم: انا ذرية النبي، و النبي لم يعقب، و انما العقب الذكر، لا الأنثي؟.. و أنتم ولد الابنة، و لا يكون ولدها عقبا له.

فقلت: أسألك بحق القرابة، و القبر و من فيه - أي قبر النبي صلي الله عليه و اله و سلم - الا أعفيتني عن هذه المسألة.

فقال: لا، أو تخبرني بحجتكم فيه يا ولد علي!... و أنت يا موسي يعسوبهم و امام زمانهم. كذا أنهي الي، و لست أعفيك في كل ما أسألك عنه، حتي تأتيني فيه بحجة من كتاب الله؛ و أنتم تدعون، معشر ولد علي، أنه لا يسقط عنكم منه شي ء، ألف و لا واو، الا تأويله عندكم، و احتججتم بقوله عزوجل: (ما فرطنا في الكتاب من شي ء..) [8] و استغنيتم عن رأي العلماء و قياسهم.



[ صفحه 182]



فقلت: تأذن لي في الجواب؟.

قال: هات.

فقلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: (و من ذريته داود و سليمان و أيوب و يوسف و موسي و هارون و كذلك نجزي المحسنين (84)و زكريا و يحيي و عيسي و الياس كل من الصالحين (85)) [9] .

من أبوعيسي يا أميرالمؤمنين؟!.

فقال: ليس لعيسي أب.

فقلت: انما ألحقناه بذراري الأنبياء عليهم السلام، عن طريق مريم عليهاالسلام، و كذلك ألحقنا بذراري النبي صلي الله عليه و اله و سلم من قبل أمنا فاطمة... أزيدك يا أميرالمؤمنين؟.

قال: هات.

قلت: قول الله عزوجل: (فمن حاجك فيه من بعد ما جآءك من العلم فقل تعالوا ندع أبنآءنا و أبنآءكم و نسآءنا و نسآءكم و أنفسنا و أنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله علي الكاذبين (61)) [10] و لم يدع أحد أنه أدخله النبي صلي الله عليه و اله و سلم تحت الكساء عند مباهلة النصاري الا علي بن أبي طالب عليه السلام، و فاطمة، و الحسن، و الحسين، أبناءنا الحسن و الحسين، و نساؤنا فاطمة، و أنفسنا علي بن أبي طالب عليه السلام. علي أن العلماء قد أجمعوا علي أن جبرائيل قال يوم أحد: يا محمد، ان هذه لهي المواساة من علي. قال: لأنه مني، و أنا منه. فقال جبرائيل: و أنا منكما يا رسول الله؛ ثم قال: لا سيف الا ذوالفقار، و لا فتي الا علي. فكان كما مدح الله عزوجل به خليله عليه السلام اذ



[ صفحه 183]



يقول: (قالوا سمعنا فتي يذكرهم يقال له ابراهيم (60)) [11] انا نفتخر بقول جبرائيل أنه منا.

فقال: أحسنت يا موسي، ارفع لنا حوائجك.

فقلت: ان أول حاجة لي، أن تأذن لابن عمك أن يرجع الي حرم جده و الي عياله. فقال: ننظر ان شاءالله.

و روي أن المأمون قال لقومه: أتدرون من علمني التشيع؟!.

فقال القوم: لا والله ما نعلم ذلك.

قال: علمنيه الرشيد.

قيل له: فكيف ذلك و الرشيد يقتل أهل البيت؟!.

قال: كان الرشيد يقتلهم علي الملك، لأن الملك عقيم.

ثم قال: انه دخل موسي بن جعفر عليه السلام علي الرشيد يوما، فقام اليه و استقبله، و أجلسه في الصدر، و قعد بين يديه، و جري بينهما أشياء.

ثم قال موسي بن جعفر لأبي: يا أميرالمؤمنين، ان الله عزوجل قد فرض علي الولاة عهده: أن ينعشوا فقراء هذه الأمة، و يقضوا عن الغارمين، و يؤدوا عن المثقل، و يكسوا العاري، و يحسنوا الي العاني؛ و أنت أولي من يفعل ذلك.

قال: أفعل: يا أباالحسن.

ثم قام، فقام الرشيد لقيامه، و قبل بين عينيه و وجهه، ثم أقبل علي



[ صفحه 184]



و علي الأمين و المؤتمن فقال: يا عبدالله، و يا محمد، و يا ابراهيم، امشوا بين يدي ابن عمكم و سيدكم!. خذوا بركابه، و سووا ثيابه، و شيعوه الي منزله.

فأقبل الي أبوالحسن، موسي بن جعفر عليه السلام، سرا بيني و بينه، فبشرني بالخلافة، و قال لي: اذا ملكت هذا الأمر فأحسن الي ولدي؛ ثم انصرفنا.

و كنت أجرأ ولد أبي عليه؛ فلما خلا المجلس قلت: يا أميرالمؤمنين، و من هذا الرجل الذي أعظمته و أجللته و قمت من مجلسك اليه فاستقبلته و أقعدته في صدر المجلس، و جلست دونه؛ ثم أمرتنا بأخذ الركاب له؟!.

قال: هذا امام الناس، و حجة الله علي خلقه، و خليفته علي عباده.

قلت: يا أميرالمؤمنين، أو ليست هذه الصفات كلها لك و فيك؟!.

فقال: أنا امام الجماعة في الظاهر بالغلبة و القهر، و موسي بن جعفر امام حق. والله يا بني أنه لا حق بمقام رسول الله مني و من الخلق جميعا!.

والله لو نازعتني في هذا الأمر لأخذت الذي فيه عيناك، لأن الملك عقيم!.

فلما أراد الرحيل من المدينة الي مكة، أمر بصرة سوداء فيها مائتا دينار، ثم أقبل علي الفضل فقال له: اذهب الي موسي بن جعفر و قل له: يقول لك أميرالمؤمنين: نحن في ضيقة، و سيأتيك برنا بعد هذا الوقت.

فقمت في وجهه فقلت: يا أميرالمؤمنين، تعطي أبناء المهاجرين و الأنصار و سائر قريش و بني هاشم، و من لا تعرف حسبه و نسبه خمسة آلاف دينار الي ما دونها، و تعطي موسي بن جعفر، و قد عظمته و أجللته، مائتي دينار، و أخس عطية أعطيتها أحدا من الناس؟!!

فقال: اسكت لا أم لك!. فاني لو أعطيته هذا ما ضمنته له، ما كنت



[ صفحه 185]



آمنه أن يضرب وجهي غدا بمائة ألف سيف من شيعته و مواليه!. و فقر هذا و أهل بيته، أسلم لي ولكم من بسط أيديهم و اغنائهم» [12] .

و روي سفيان بن نزار الخبر السابق هكذا:

«كنت يوما علي رأس المأمون فقال: أتدرون من علمني التشيع؟.

فقال القوم جميعا: لا والله ما نعلم.

قال: علمنيه الرشيد.

قيل له: و كيف ذلك و الرشيد كان يقتل أهل هذا البيت؟!.

قال: كان يقتلهم عن الملك، لأن الملك عقيم. و لقد حججت معه سنة الي المدينة فتقدم الي حجابه، و قال: لا يدخلن علي رجل من أهل المدينة و مكة الا نسب نفسه.

و هكذا كان. فكان يصل من المال خمسة آلاف دينار و ما دونها، علي قدر شرف و هجرة الرجل.

فأنا ذات يوم واقف، اذ دخل الفضل بن ربيع، فقال: يا أميرالمؤمنين، علي الباب رجل زعم أنه موسي بن جعفر عليه السلام.

فأقبل علينا، و نحن قيام علي رأسه، و الأمين، و المؤتمن، و سائر القواد، فقال: احتفظوا علي أنفسكم، ثم قال لآذنه: ائذن له، و لا ينزل الا علي بساطي.

فدخل، فلما رأي الرشيد رمي بنفسه عن حمار كان راكبه، فقال الرشيد: لا والله الا علي بساطي.



[ صفحه 186]



فمنعه الحجاب من الترجل، و نظرنا اليه بأجمعنا بالاجلال و الاعظام، فما زال يسير علي حماره حتي سار الي البساط، و الحجاب و القواد محدقون به.

فنزل، وقام الرشيد فاستقبله الي آخر البساط، و قبل وجهه و عينيه، و أخذ بيده حتي صيره في صدر المجلس، و أجلسه معه فيه؛ و جعل يحدثه و يقبل بوجهه عليه و يسأله عن أحواله.

ثم قال له: يا أباالحسن، ما عليك من العيال؟

فقال: يزيدون علي الخمسمائة.

قال: أولاد كلهم؟!

قال: لا، أكثرهم موالي وحشم. و أما الولد فلي نيف و ثلاثون، الذكران منهم كذا، و النسوان منهم كذا.

قال: فلم لا تزوج النسوان من بني عمومتهن و أكفائهن؟.

قال: اليد تقصر عن ذلك.

قال: فما حال الضيعة؟.

قال: تعطي في وقت، و تمنع في آخر.

قال: فهل عليك دين؟.

قال: نعم.

قال: كم؟.

قال: نحو من عشرة آلاف دينار.

فقال الرشيد: يابن عم، أنا أعطيك من المال ما تزوج به الذكران و النسوان، و تقضي الدين، و تعمر الضياع.



[ صفحه 187]



فقال له: وصلتك رحم يابن عم، و شكر الله لك هذه النية الجميلة.

ثم قال، فقام الرشيد لقيامه، و قبل عينيه و وجهه، ثم أقبل علي، و علي الأمين و المؤتمن فقال: يا عبدالله، و يا محمد، و يا ابراهيم: بين يدي عمكم و سيدكم. خذوا بركابه، و سووا عليه ثيابه، و شيعوه الي منزله.

فأقبل علي أبوالحسن عليه السلام سرا بيني و بينه، فبشرني بالخلافة و قال لي: اذا ملكت هذا الأمر فأحسن الي ولدي.

فلما خلا المجلس قلت: يا أميرالمؤمنين، من هذا الرجل الذي عظمته و أجللته، و قمت من مجلسك اليه فاستقبلته و أقعدته في صدر المجلس و جلست دونه: ثم أمرتنا بأخذ الركاب له؟!.

قال: هذا امام الناس، و حجة الله علي خلقه، و خليفته علي عباده.

قلت: يا أميرالمؤمنين، أو ليست هذه الصفات كلها لك و فيك؟!

فقال: أنا امام الجماعة في الظاهر بالغلبة و القهر، و موسي بن جعفر امام حق؛ والله يا بني انه لأحق بمقام رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم مني و من الخلق جميعا!. والله لو نازعتني في هذا الأمر لأخذت الذي فيه عيناك، فان الملك عقيم.

فلما أراد الرحيل الي مكة، أمر بصرة سوداء فيها مائتا دينار، و قال للفضل بن الربيع، اذهب بهذه الي موسي بن جعفر و قل له: نحن في ضيق، و سيأتيك برنا بعد هذا الوقت.

فقمت في صدره فقلت: يا أميرالمؤمنين، تعطي أبناء المهاجرين و الأنصار و سائر الناس خمسة آلاف دينار و ما دونها، و تعطي موسي بن جعفر مائتي دينار، أخس عطية أعطيتها لمن لا يعرف حسبه و نسبه؟!.

قال: اسكت لا أبالك، فاني لو أعطيت هذا ما ضمنته له، ما كنت آمنه



[ صفحه 188]



أن يضرب وجهي غدا بمائة ألف سيف من شيعته و مواليه. و فقر هذا و أهل بيته، أسلم لي ولكم من بسط أيديهم و أعينهم» [13] .

و في هذه الرواية، و الرواية التي سبقتها، خزي واضخ فاضح في تصرفات هذا الخليفة المغتصب الجبار الذي حارب الله و رسوله، و ما جاء به الرسول عن ربه؛ و هو علي سنة من سبقه من سلاطين المسلمين، في التضييق علي أهل هذا البيت الكريم صلوات الله و سلامه عليهم.

و قد كانت سياسة جميع المتأمرين علي رقاب المسلمين بالباطل، تبدأ بسياسة افقار أهل هذا البيت و محاربتهم اقتصاديا، و قد سها عن بال أولئك المتأمرين أن الله تبارك و تعالي قال في كتابه المجيد:(و ان من شي ء الا عندنا خزائنه و ما ننزله الا بقدر معلوم(21)) [14] و تناسي أولئك الأمراء المناصبون لله و رسوله أن الخالق عزوجل قد سخر لأئمة أهل البيت كل شي ء، و لم يكن ينقصهم المال، بل كانت عطاياهم تفوق عطايا الملوك. و من العجيب أنهم كانوا يحاربونهم مع أنهم ما طلبوا ملكا و لا رغبوا في سلطان، و لا أعانوا طالب سلطة، بل كانت وظيفتهم محصورة في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و بقول كلمة الحق في وجه الباطل الذي كان عليه الحكام و قضاتهم.

و أما كذبك يا هارون فقد سمعه منك ابنك المأمون في حديثك معه.

و أما زعمك بأنك لا تأمن الامام أن يضرب وجهك بمائة ألف سيف من شيعته و مواليه اذا استغني، فاننا نقول لك: لم تمنعه من ذلك قلة ذات اليد، و لا خلق ليطالب بملك دنيوي. فما هذا منك سوي كذب و افتراء و تبرير



[ صفحه 189]



لشنيع فعلك الذي فضحك أمام ولدك الذي - بفضل سوء سلوكك الديني - لم يكن أصلح منك و الحمدلله، بل لطخ يده بدم أئمة أهل بيت رسول الله صلوات الله عليه و عليهم، كما لطخت يدك بقتلهم، و الملك العقيم الذي حرصت عليه قد راح من يدك، و قد حملت وزره علي ظهرك، و بؤت بالخسران في الدار الباقية، و قد علمت الآن أنك قد حدت عن خط الحق و اتبعت الباطل.

أما امامنا العظيم عليه السلام، فانه كان مشغولا عنك و عن دنياك ببر الفقراء و المحتاجين، يحمل لهم الطعام و المال ليلا، و يوزعه عليهم و أنت تغط في نومك و قد أتخمك الشيطان غشا و غرورا... و الدنيا عند امامنا هذا صلوات الله و سلامه عليه، لا تساوي عفطة عنز كما قال جده أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام...

و أنت مت بغيظك، و دفن معك عملك الخاسر.

و بالمعني السابق روي الريان بن شبيب أن المأمون قال:

«استأذن الناس علي الرشيد، فكان آخر من أذن له موسي بن جعفر.

فلما نظر اليه الرشيد تحرك و مد بصره و عنقه اليه حتي دخل البيت الذي كان فيه.

فلما قرب منه جثا الرشيد علي ركبتيه و عانقه، ثم أخذ يسأل عن أحواله، و أبوالحسن يقول: خير، خير.

فلما قام عانقه و ودعه.

فقلت: يا أميرالمؤمنين، رأيتك عملت بهذا الرجل شيئا ما عملته مع أحد قط!. فمن هذا الرجل؟!.



[ صفحه 190]



فقال: يا بني هذا وارث علم النبيين، هذا موسي بن جعفر بن محمد؛ ان أردت العلم الصحيح فعند هذا.

قال المأمون: فعند ذلك انغرس في قلبي حبهم» [15] .

أجل، هذا وارث علم النبيين، و عنده العلم الصحيح.

فما بالك يا وارث علم الشياطين، تربع علي ضلعك، و تبيع آخرتك بأرخص ثمن، و باشباع البطن و الفرج!!!

و هذه الرواية - كسابقتيها -، تدل علي خليفة يعرف و يحرف... و ليس من يعلم كمن لا يعلم... و ويل لمن لم يعمل بعلمه، فان حسابه عسير!.

و عن محمد بن الزبرقان الدامغاني، الشيخ، قال:

قال أبوالحسن، موسي بن جعفر، عليه السلام:

لما أمرهم هارون الرشيد بحملي - أي باعتقاله - دخلت عليه فسلمت، فلم يرد السلام، و رأيته مغضبا.

فرمي الي بطومار [16] فقال: اقرأه!. فان فيه كلاما فيه علم الله براءتي منه، فيه:

ان موسي بن جعفر يجبي اليه خراج الآفاق من غلاة الشيعة، ممن يقول بامامته، يدينون الله بذلك، و يزعمون أنه فرض عليهم الي أن يرث الله الأرض و من عليها، و يزعمون أن من لم يوهب - يهب - اليه العشر، و لم يصل بامامتهم، و لم يحج باذنهم، و يجاهد بأمرهم، و يحمل الغنيمة اليهم،



[ صفحه 191]



و يفضل الأئمة علي جميع الخلق، و يفرض طاعتهم مثل طاعة الله وطاعة رسوله، فهو كافر، حلال ماله و دمه!. و فيه كلام شناعة مثل المتعة بلا شهود، و استحلال الفروج بأمره ولو بدرهم، و البراءة من السلف و يلعنون عليهم في صلاتهم. و يزعمون أن من - لم - يتبرأ منهم فقد بانت امرأته منه، و من آخر الوقت فلا صلاة له القول الله تبارك و تعالي: (أضاعوا الصلوة و اتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا(59)) [17] و يزعمون أنه واد في جهنم.

و الكتاب طويل، و أنا قائم أقرأ، و هو ساكت.

فرفع رأسه و قال: قد اكتفيت بما قرأت، تكلم بحجتك بما قرأته.

قلت: يا أميرالمؤمنين، والذي بعث محمدا صلي الله عليه و اله و سلم بالنبوة، ما حمل الي قط أحد درهما و لا دينارا من طريق الخراج. لكنا معاشر أبي طالب، نقبل الهدية التي أحلها الله عزوجل لنبيه صلي الله عليه و اله و سلم في قوله: لو أهدي الي كراع لقبلته، ولو دعيت الي ذراع لأجبت و قد علم أميرالمؤمنين ضيق ما نحن فيه، و كثرة عدونا، و ما منعنا السلف من الخمس، فاضطررنا الي قبول الهدية. وكل ذلك مما علمه أميرالمؤمنين.

فلما تم كلامي سكت.

ثم قلت: ان رأي أميرالمؤمنين أن يأذن لابن عمه في حديث عن آبائه، عن النبي صلي الله عليه و اله و سلم؟.

فكأنه اغتنمها، فقال: مأذون لك، هاته.

فقلت: حدثني أبي، عن جدي، يرفعه الي النبي صلي الله عليه و اله و سلم، أن الرحم اذا مست رحما تحركت و اضطربت فان رأيت أن تناولني يدك.



[ صفحه 192]



فأشار بيده الي، ثم قال: أدن...

فدنوت، فصافحني، و جذبني الي نفسه مليا، ثم فارقني و قد دمعت عيناه.

فقال لي: اجلس يا موسي، فليس عليك بأس، صدقت، و صدق جدك، و صدق النبي صلي الله عليه و اله و سلم، لقد تحرك دمي و اضطربت عروقي، و اعلم أنك لحمي و دمي، و أن الذي حدثتني به صحيح. و اني أريد أن أسألك عن مسألة، فان أجبتني أعلم أنك قد صدقتني، و خليت عنك، و وصلتك و لم أصدق ما قيل فيك.

فقلت: ما كان علمه عندي، أجبتك فيه.

فقال: لم لا تنهون شيعتكم عن قولهم لكم: يابن رسول الله، و أنتم ولد علي و فاطمة؟!. انما هي وعاء، والولد ينسب الي الأب، لا الأم!.

فقلت: ان رأي أميرالمؤمنين أن يعفيني من هذه المسألة، فعل.

فقال: لست أفعل، أو أجبت.

فقلت: فأنا في أمانك ألا تصيبني من آفة السلطان شيئا؟.

فقال: لك الأمان.

قلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (و وهبنا له اسحاق و يعقوب كلا هدينا و نوحا هدينا من قبل و من ذريته داود و سليمان و أيوب و يوسف و موسي و هارون و كذلك نجزي المحسنين (84) و زكريا و يحيي و عيسي) [18] فمن أبوعيسي؟.

فقال: ليس له أب، انما خلق من كلام الله عزوجل، و روح القدس.



[ صفحه 193]



فقلت: انما لحق عيسي بذراري الأنبياء صلوات الله و سلامه عليهم، من قبل مريم؛ و ألحقنا بذراري الأنبياء من قبل فاطمة عليهاالسلام، و من قبل علي عليه السلام.

فقال: أحسنت يا موسي، زدني من مثله.

فقلت: اجتمعت الأمة، برها و فاجرها، أن حديث النجراني حين دعاه النبي صلي الله عليه و آله و سلم الي المباهلة، لم يكن في الكساء الا النبي صلي الله عليه و سلم، و علي، و فاطمة، و الحسن، و الحسين عليهم السلام، فقال الله تبارك و تعالي: (فمن حآجك فيه من بعد ما جآءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا و أبنآءكم نسآءنا و نسآءكم و أنفسنا...) [19] فكان تأويل: (أبنآءنا): الحسن و الحسين، (نسآءنا): فاطمة، (و أنفسنا): علي بن أبي طالب عليهم السلام.

فقال: أحسنت. ثم قال: أخبرني عن قولكم: ليس للعم مع ولد الصلب ميراث؟.

فقلت: أسألك يا أميرالمؤمنين بحق الله، و بحق رسوله صلي الله عليه و سلم، أن تعفيني من تأويل الآية و كشفها، و هي عند العلماء مستورة.

فقال لي: انك ضمنت لي أن تجيب فيما أسألك، و لست أعفيك.

فقلت: فجدد لي الأمان.

فقال: قد أمنتك.

فقلت: ان النبي صلي الله عليه و سلم، لم يورث من قدر علي الهجرة فلم يهاجر. و ان عمي العباس قدر علي الهجرة فلم يهاجر، و انما كان في عدد الأساري عند النبي صلي الله عليه و سلم، و جحد أن يكون له الفداء... فأنزل الله تبارك و تعالي علي



[ صفحه 194]



النبي صلي الله عليه و آله و سلم يخبره بدفين له من ذهب، فبعث عليا عليه السلام، فأخرجه من عند أم الفضل، و أخبر العباس بما أخبره جبرائيل عن الله تبارك و تعالي، فأذن لعلي و أعطاه علامة الموضع الذي دفن فيه؛ فقال العباس عند ذلك: يابن أخي، ما فاتني منك أكثر. و أشهد أنك رسول رب العالمين.

فلما أحضر علي الذهب، فقال العباس: أفقرتني يابن أخي، فأنزل الله تبارك و تعالي: (يأيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسري ان يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم و يغفر لكم والله غفور رحيم (70)) [20] و قوله: (والذين ءامنوا و لم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شي ء حتي يهاجروا) [21] ثم قال: (و ان استنصروكم في الدين فعليكم النصر) [22] .

فرأيته قد اغتم.

ثم قال: أخبرني من أين قلتم ان الانسان يدخله الفساد من قبل النساء لحال الخمس الذي لم يدفع الي أهله؟!.

فقلت: أخبرك يا أميرالمؤمنين بشرط أن لا تكشف هذا الباب لأحد ما دمت حيا، و عن قريب يعرف الله بيننا و بين من ظلمنا. و هذه المسألة لم يسألها أحد من السلاطين غير أميرالمؤمنين.

قال: ولا تيم، و لا عدي، و لا بنوأمية، و لا أحد من آبائنا؟!.

قلت: ما سئلت، و لا سئل أبوعبدالله، جعفر بن محمد عنها.

قال: الله!.

قلت: الله.



[ صفحه 195]



قال: فان بلغني عنك، أو عن أحد من أهل بيتك كشف ما أخبرتني به، رجعت عما أمنتك به.

فقلت: لك علي ذلك.

فقال: أحب أن تكتب لي كلاما موجزا، له أصول و فروع، يفهم تفسيره، و يكون ذلك سماعك من أبي عبدالله عليه السلام.

فقلت: نعم، و علي عيني، يا أميرالمؤمنين.

قال: فاذا فرغت فارفع حوائجك.

قال [الامام عليه السلام]: و وكل بي من يحفظني، و بعث الي في كل يوم مائدة سرية، فكتبت:

بسم الله الرحمن الرحيم

جميع أمور الدنيا أمران:

أمر لا اختلاف فيه، و هو اجماع الأمة علي الضرورة التي يضطرون اليها، و أخبار المجمع عليها، المعروض عليها كل شبهة، و المستنبط منها علي كل حادثة. و أمر يحتمل الشك و الانكار، و سبيله استيضاح أهل الحجة عليه. فما ثبت لمنتحليه من كتاب مستجمع علي تأويله، أو سنة عن النبي صلي الله عليه و آله و سلم لا اختلاف فيها، أو قياس تعرف العقول عدله، ضاق علي من استوضح تلك الحجة ردها، و وجب عليه قبولها والاقرار والديانة بها. و ما لم تثبت لمنتحليه به حجة من كتاب مستجمع علي تأويله، أو سنة عن النبي صلي الله عليه و آله و سلم لا اختلاف فيها، أو قياس تعرف العقول عدله، و يسع خاص الأمة و عامها الشك فيه و الانكار له.

كذلك هذان الأمران من أمر التوحيد فما دونه، الي أرش الخدش فما



[ صفحه 196]



دونه. فهذا المعروض الذي يعرض عليه أمر الدين، فما ثبت لك برهانه اصطفيته، و ما غمض عنك ضوؤه نفيته.

و لا قوة الا بالله، و حسبنا الله، و نعم الوكيل.

فأخبرت الموكل بي أني قد فرغت من حاجته.

فأخبره. فخرج. و عرضت عليه، فقال: أحسنت، هو كلام موجز جامع، فارفع حوائجك يا موسي.

فقلت: يا أميرالمؤمنين، أول حاجتي اليك أن تأذن لي في الانصراف الي أهلي، فاني تركتهم باكين آيسين من أن يروني.

فقال: مأذون لك. ازدد.

فقال: يبقي الله لنا أميرالمؤمنين معاشر بني عمه.

فقال: ازدد.

فقلت: علي عيال كثير، و أعيننا بعد الله ممدودة الي فضل أميرالؤمنين و عادته.

فأمر لي بمائة ألف درهم، و كسوة، و حملي و ردني الي أهلي مكرما» [23] .

و هكذا يري قارئي الكريم أن هذا الخليفة لم ينقص فهما و لا علما بمركز الامام الرباني، و لا بكونه الامام الحق، و الحجة علي الخلق؛ ولكن لا ينقضي العجب من أنه كان يحرجه في كل سؤال يلقيه عليه، و يتعنت في



[ صفحه 197]



أسئلته و يضايقه مضايقة مفتعلة ليأخذ عليه جوابا لا يعجبه فينتقم منه!.

و لماذا هذا يا خليفة الزمان؟.

نعم، لماذا لا يصفو قلبك لامام منصب من الله، فتقربه و تدنيه، و تجعله مستشارك الأمين، و المفتي لك بالحق و بشريعة سيد المرسلين، و حينئذ يصفو قلبه عليك، و يدعو لك بالتوفيق، و يكون مرجعك في أمور دنياك و دينك؟!.

أجل، لماذا تبعد ابن عم لك صادق أمين، و تقرب الترك و الديلم، و تسلك مسلك الظلمة الجائرين الخارجين من ربقة الدين، المناصبين العداء لما ينزل من رب العالمين؟!.

من العار الشنيع علي الدين أن تتسمي بأميرالمؤمنين، و أن تكون خليفة للمسلمين، ما زلت تفعل و تفعل مع امام الهدي و الحجة علي الوري.

أما في تحف العقول، فورد ذكر المجلس هكذا:

«دخل علي الرشيد و قد عمد علي القبض عليه لأشياء كذبت عليه عنده. فأعطاه طومارا طويلا فيه مذاهب و شنعة نسبها الي شيعته.

فقرأه، ثم قال: يا أميرالمؤمنين، نحن أهل بيت منينا بالتقول علينا، و ربنا غفور ستور، أبي أن يكشف أسرار عباده الا في وقت محاسبته (يوم لا ينفع مال و لا بنون (88) الا من أتي الله بقلب سليم (89)) [24] .

ثم قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن علي، عن النبي صلوات الله عليهم: الرحم اذا مست الرحم اضطربت، ثم سكنت. فان رأي أميرالمؤمنين أن تمس رحمي رحمه و يصافحني فعل.



[ صفحه 198]



فتحول عند ذلك عن سريره، و مد يده الي موسي عليه السلام فأخذ بيمينه، ثم ضمه الي صدره فاعتنقه و أقعده عن يمينه و قال: أشهد أنك صادق، و أبوك صادق، و جدك صادق، و رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم صادق!. و لقد دخلت و أنا أشد الناس عليك حنقا و غضبا لما رقي الي فيك. فلما تكلمت بما تكلمت و صافحتني سري عني، و تحول غضبي عليك رضي.

و سكت ساعة، ثم قال له: أريد أن أسألك عن العباس و علي، بم صار علي أولي بميراث رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم من العباس، و العباس عم رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و صنو أبيه؟!.

فقال له موسي بن جعفر عليه السلام: اعفني.

قال: والله لا أعفيك، فأجبني.

قال: ان لم تعفني فأمني.

قال: آمنتك.

قال موسي عليه السلام: ان النبي صلي الله عليه و آله و سلم لا يورث من قدر علي الهجرة و لم يهاجر. ان أباك العباس آمن و لم يهاجر. و ان عليا عليه السلام آمن و هاجر، و قال الله: (و الذين ءامنوا و لم يهاجروا و ما لكم من ولايتهم من شي ء حتي يهاجروا). [25] .

فالتمع لون الرشيد و تغير، و قال: مالكم لا تنسبون الي علي و هو أبوكم، و تنسبون الي رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، و هو جدكم؟!.

فقال موسي عليه السلام: ان الله نسب المسيح عيسي بن مريم عليه السلام الي خليله ابراهيم عليه السلام بأمه مريم البكر البتول التي لم يمسسها بشر بقوله: (و من ذريته داود و سليمان و أيوب و يوسف و موسي و هارون و كذلك نجزي



[ صفحه 199]



المحسنين (84) و زكريا و يحيي و عيسي و الياس كل من الصالحين (85)... ( [26] فنسبه بأمه وحدها الي خليله ابراهيم عليه السلام، كما نسب داود، و سليمان، و أيوب، و موسي، و هارون عليهم السلام بآبائهم و أمهاتهم، فضيلة لعيسي عليه السلام، و منزلة رفيعة بأمه وحدها؛ وذلك قوله في قصة مريم عليهاالسلام: (ان الله اصطفاك و طهرك و اصطفاك علي نساء العالمين (42)) [27] بالمسيح من غير بشر. و كذلك اصطفي ربنا فاطمة عليهاالسلام، و طهرها و فضلها علي نساء العالمين بالحسن و الحسين سيدي شباب أهل الجنة.

فقال له هارون: - و قد اضطرب و ساءه ما سمع -: من أين قلتم: الانسان يدخله الفساد من قبل النساء، و من قبل الآباء، لحال الخمس الذي لم يدفع الي أهله؟!.

فقال موسي عليه السلام: هذه مسألة ما سألها أحد من السلاطين غيرك - يا أميرالمؤمنين - و لا تيم، و لا عدي، و لا بنوأمية، و لا سئل عنها أحد من آبائي؛ فلا تكشفني عنها.

قال: فان بلغني عنك كشف هذا، رجعت عما آمنتك.

فقال موسي عليه السلام: لك ذلك.

قال: فان الزندقة قد كثرت في الاسلام، و هؤلاء الزنادقة الذين يرفعون الينا، في الأخيار هم المنسوبون اليكم، فما الزنديق عندكم أهل البيت؟!.

فقال عليه السلام: الزنديق هو الراد علي الله و رسوله. و هم الذين يحادون الله و رسوله، قال الله: (لا تجد قوما يؤمنون بالله و اليوم الأخر يوآدون من



[ صفحه 200]



حاد الله و رسوله و لو كانوا ءاباءهم أو أبناءهم أو اخوانهم أو عشيرتهم... آخر آخر الآية) [28] و هم الملحدون، عدلوا عن التوحيد الي الالحاد.

فقال هارون: أخبرني عن أول من ألحد و تزندق.

فقال موسي عليه السلام: أول من ألحد و تزندق في السماء ابليس اللعين، فاستكبر و افتخر علي صفي الله و نجيه آدم عليه السلام، فقال اللعين: (أنا خير منه خلقتني من نار و خلقته من طين (12)) [29] فعتا عن أمر ربه و ألحد، فتوارث الالحاد ذريته الي أن تقوم الساعة.

فقال: و لا بليس ذرية؟!.

فقال عليه السلام: نعم، ألم تسمع الي قول الله: (و اذ قلنا للملائكة اسجدوا لأدم فسجدوا الا ابليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه و ذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا (50) ما أشهدتهم خلق السموات و الأرض و لا خلق أنفسهم و ما كنت متخذ المضلين عضدا (51) [30] لأنهم يضلون ذرية آدم يزخارفهم و كذبهم، و يشهدون أن لا اله الا الله كما وصفهم الله في قوله: (و لئن سألتهم من خلق السموات و الأرض ليقولن الله قل الحمدلله بل أكثرهم لا يعلمون (25)) [31] أي أنهم لا يقولون ذلك الا تلقينا، و تأديبا، و تسمية و من لم يعلم، و ان شهد، كان شاكا حاسدا معاندا، و لذلك قالت العرب: من جهل أمرا عاداه، و من قصر عنه عابه و ألحد فيه، لأنه جاهل، غير عالم» [32] .



[ صفحه 201]



و اذا لم نقف قليلا مع ما جري في هذا المجلس، لا نكون قد أنصفنا حقيقة البحث و التحليل، لأنه قد جرت فيه محاورة، بل محاجة هامة للغاية؛ و قد ظهر علي أثر ذلك بعض الحقائق التي تستحق الوقوف.

فمن ذلك أن الخليفة علي المسلمين، لم يتأدب بأدب الاسلام، اذ لم يرد التحية علي الامام عندما دخل و سلم عليه، مع أن الله سبحانه و تعالي أمر برد التحية كأقل الواجب فقال عز من قائل:(و اذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها...) [33] و قد أمر بذلك أمرا و جوبيا... لم يسمع به خليفة المسلمين!!! فاضطر الامام عليه السلام لا يراد حديث الرحم اذا مست الرحم.

و منها - أيضا - مفاجأته للامام بقوله: يا موسي بن جعفر، خليفتان يجبي اليهما الخراج؟!.

و منها دموع التمساح التي انحدرت من عيني هارون... أو قارون.

و مثلها هجمته علي الامام ليحتضنه و يثبت أن عرق القرابة قد تحرك و أصابته رقة الممثلين علي خشبة المسرح!.

و كذلك أسئلة التعجيز التي اختارها. و هي ان دلت فانما تدل علي اللؤم الحاقد، لأنها كانت منتقاة لمضايقة الامام عليه السلام، فهي عملية احراج للامام، و اخراج للخليفة... جاءت فاشلة و الحمدلله، اذ نسي الخليفة أنه بين يدي امام انتدبته السماء، فلا يرتج عليه، و لا يتلعثم و لا يصعب عليه جواب.

و من ذلك - أخيرا - أن امامنا العظيم سلام الله عليه، قد أذل كبرياء هذا القارون المتربب علي الناس، المتأله عليهم بقرابته من



[ صفحه 202]



رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم، فبين للناس أنه أبعد منه عن النبي صلي الله عليه و اله و سلم في النسب و في الحق.... ثم كشف عن جهل الخليفة بالقرآن و بالايمان، و عن بطلان دعواه و ادعاءاته.

ثم يلاحظ أن الخليفة قد تنقل مع امامنا عليه السلام بين جملة مواضيع هامة للغاية، و أنه كان يذعن لقول الامام البليغ في كل مسألة، ثم يقفز الي مسألة ثانية مشابهة... و سلم بكل جواب، ثم ختم ذلك باعترافه الذي أفضي به لولده المأمون، الذي لم يكن مأمونا علي أهل هذا البيت الذي طهره الله تعالي في كتابه العزيز.

... أفأنت هارون الرشيد كما لقبت نفسك، أم أنت قارون العنيد كما هي حقيقتك و واقعك؟!. لقد غشك في دنياك أنك أثناء تربعك علي العرش كنت تقول للغمامة: أمطري أني شئت فان خراجك سيعود الي... ثم نسيت أن لك موقفا يوم الحساب تسأل فيه عما أسرفت في حياتك!. ذلك أنك لم تكن من المؤمنين بالموقف و بالحساب، و اذا ادعيت أنك مؤمن بذلك، فنحن نحكم بسفهك حين ترضي بلذة زائلة، و ترضي - أيضا - بالخلود في العذاب و تكون من (أولئك الذين اشتروا الحيوة الدنيا بالأخرة فلا يخفف عنهم العذاب و لا هم ينصرون (86)) [34] .

فلم تكن رشيدا بالحقيقة بمقدار ما كنت عنيدا، و لم يكن رأيك سديدا، بل كنت - كأسلافك - جبارا عنيدا.

و الشي ء الأكيد أن هذا الخليفة الغافل عما يراد به، كان ذكيا، ولكنه استثمر ذكاءه لتأثيل ملك دنيوي، و غابت عن ذهنه آخرته باعها بدار الغرور،



[ صفحه 203]



و لم يحمل اليها الا الأوزار و الآثام... مع أنه لم يكن غبيا قطعا، و لا فاته العلم بأن الامام سفير من ربه الي خلقه، و لا خفيت عليه امامته و جدارته، ولكن حب التسلط علي الرقاب ألقي هذا الحبل في عنقه، ليكون في الآخرة سلسلة ذرعها سبعون ذراعا...

فلا شك أن جرم هذا الخليفة مزدوج لأن مجالسه مع الامام قد سجلها عليه التاريخ، و ظهرت فيها معرفته بالحق معرفة تامة، و اتضح حربه للحق اتضاحا أتم، اذا استغرقت الدنيا جميع تفكيره و أنسته أن الامام الذي تقلب في سجونه أربعة أعوأم، سيكون جزاؤه هو - بمقابل ذلك - أن يتقلب في عذاب الله الشديد أحقابا...

ولنتصور الفرق بين هذا الخليفة الظالم للامام الكاظم عليه السلام، و بين عفو الامام عنه في مواطن القدرة عليه - مع قدرة الامام عليه في كل لحظة باذن الله - أقول: لتتصور الفرق العظيم نعرض أمام ناظريك الرواية التالية:

فقد قيل:«و لما أمر هارون موسي بن جعفر عليه السلام أن يحمل اليه - من البصرة الي بغداد بعد أن رفض الوالي أن يقتله - أدخل عليه و علي بن يقطين علي رأسه، متوكي ء علي سيفه، فجعل يلاحظ موسي عليه السلام ليأمره فيضرب به هارون - لأن ابن يقطين متشيع متشدد-.

ففطن هارون، فقال: قد رأيت ذلك.

فقال - ابن يقطين -: يا أميرالمؤمنين، سللت من سيفي شبرا رجاء أن تأمرني فيه بأمرك.

فنجا - ابن يقطين - منه بهذه المقالة» [35] .



[ صفحه 204]



فلو أن الامام عليه السلام أشار لعلي بن يقطين ليغتال الرشيد، لكان خلط لحمه بدمه. ولكن ما أبعد الامام عن الغدر، و هو أمين الله في أرضه؟!.

و علي بن يقطين هو من هو في تشيعه و حبه للامام، و في اخلاصه و ولائه لجميع أئمة هذا البيت المطهر عليهم السلام. و قد دفعه ذلك الولاء الي أن يطمع في جز عنق هارون الرشيد الذي يرعب امامه مرة بعد مرة، و لم يأسف لوظيفته و لا للوزارة و المنصب بعد أن يطهر سيفه بدم هذا الغاصب الناصب!. و قد خلصه الله سبحانه و تعالي حين أطلق لسانه بأن قال للخليفة لما عرف أنه أراد قتله: سللت من سيفي شبرا رجاء أن تأمرني فيه بأمرك. يعني أنه قال عكس ما أضمر فأبقي علي نفسه و نجا من فتك الخليفة.

ولكننا نؤاخذ علي بن يقطين لأنه نسي أن الأئمة عليهم السلام لا يغدرون بخصومهم، و لا يهتمون بشؤون الدنيا التي تشغل غيرهم بسلطانها الذاهب كما تذهب الشمس مهما طال نهار الصيف.

«و في كتاب الأنوار قال العامري:

ان هارون الرشيد أنفذ الي موسي بن جعفر جارية حصيفة لها جمال و رضاءة - أي نظيفة، مشرقة الوجه، بالغة الحسن - لتخدمه في السجن.

فقال - الامام عليه السلام -: قل له: (بل أنتم بهديتكم تفرحون (36)) [36] لا حاجة لي في هذه، و لا في أمثالها.

قال: فاستشاط هارون غضبا، و قال: ارجع اليه، و قل له: ليس برضاك حبسناك، و لا برضاك خدمناك. و اترك الجارية عنده و انصرف.



[ صفحه 205]



قال: فمضي و رجع.

ثم قام هارون من مجلسه، و أنفذ الخادم اليه ليتفحص له عن حالها.

فرآها ساجدة لربها، لا ترفع رأسها، تقول: قدوس سبحانك سبحانك.

فقال هارون الرشيد: سحرها والله موسي بن جعفر بسحره!. علي بها.

فأتي بها و هي ترتعد شاخصة نحو السماء بصرها!.

فقال: ما شأنك؟!.

قالت: شأني الشأن البديع!. كنت عنده واقفة، و هو قائم يصلي ليله و نهاره. فلما انصرف من صلاته بوجهه و هو يسبح الله و بقدسه، قلت: يا سيدي هل لك حاجة أعطيكها؟.

قال: و ما حاجتي اليك؟!.

قلت: اني أدخلت اليك لحوائجك.

قال: فما بال هؤلاء؟!.

قالت: فالتفت فاذا روضة مزهرة لا أبلغ آخرها من أولها بنظري، و لا أولها من آخرها. فيها مجالس مفروشة بالوشي و الديباج، عليها و صفاء و وصائف و خدام، لم أر مثل وجوههم حسنا، و لا مثل لباسهم لباسا، عليهم الحرير، الأخضر، و الأكاليل، والدر، و الياقوت، و في أيديهم الأباريق و المناديل، و من كل الطعام!. فخررت ساجدة حتي أقامني هذا الخادم فرأيت نفسي حيث كنت.

قال هارون الرشيد: يا خبيثه لعلك سجدت فنمت، فرأيت هذا في منامك.

قالت: لا والله يا سيدي، الا قبل سجودي. رأيت، فسجدت من أجل ذلك.



[ صفحه 206]



فقال الرشيد: اقبض هذه الخبيثة اليك، فلا يسمع هذا منها أحد.

فأقبلت في الصلاة. فاذا قيل لها في ذلك قالت: هكذا رأيت العبد الصالح.

فسئلت عن قولها؟. قالت: اني لما عاينت من الأمر، نادتني الجواري: يا فلانة، ابعدي عن العبد الصالح حتي ندخل عليه، فنحن له دونك!.

فما زالت كذلك حتي ماتت؛ و ذلك قبل موسي بأيام يسيرة» [37] .

و لا يبعد أن يكون الخليفة قد أمر بأن يدس لها السم في الطعام.

فالخليفة الذي يدعي أنه مسلم، يقول لمعاجز السماء: هذا سحر مفتري!.

هو يعترف بأن الامام امام حق مرارا و تكرارا، و أمام الغريب من أصحابه، و القريب من أولاده، ثم يتهمه بالسحر!. فلماذا هذا؟!.

انه من (الذين ءامنوا ثم كفروا ثم ءامنوا ثم كفروا...) [38] من جهة، ثم ثبت علي الكفر.

و هو يفعل ذلك ليقول الناس بقوله، و يشتهر عند النصاب أن الامام ساحر... فيتهم بالسحر كما اتهم جده رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم بالسحر من قبل الكفرة و المشركين، مع علمهم بنبوته، ولكن لتشتهر هذه الصفة و تمشي علي ألسنة الناس.

فما باله - و هو يعتبر الدين خرافة، و المعجزة سحرا - ما باله يجلس علي منبر رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم، و يحكم باسم دينه؟!.



[ صفحه 207]



لقد اتبع قول من سبقه في النبي: (اذ يقول الظالمون ان تتبعون الا رجلا مسحورا(47)) [39] فما باله هو و الكافرون؟!. (أتواصوا به...) [40] بهذا القول الذي قابل الظالمون به كل نبوة...

ان هذه الوصيفة قد أبانت شيئا من أسرار أنباء هذا البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا؛ و أبانته بعد أن رأته رأي العين، و آمنت به، و أيقنت بعظمة الامام عليه السلام، و برفيع منزلته عند خالقه... فكفر الخليفة بقولها... و سمي ما رأته سحرا.

فسحقا لخلافة اسلامية تري معاجز السماء سحرا بسحر!.

و تعسا له حين يأمر خادمه بأن لا يسمع قولها أحد... (يريدون أن يطفؤا نور الله بأفواههم و يأبي الله الا أن يتم نوره و لو كره الكافرون (32)) [41] .

قال الفضل بن الربيع، و رجل آخر - لم يذكر اسمه -:

«حج هارون الرشيد، و ابتدا بالطواف و منعت العامة من ذلك لينفرد وحده.

فبينما هو كذلك اذ ابتدر أعرابي البيت، و جعل يطوف معه.

و قال الحجاب: تنح يا هذا من وجه الخليفة.

فانتهرهم الأعرابي و قال: ان الله ساوي بين الناس في هذا الموضع فقال: (سوآء العاكف فيه و الباد...) [42] .



[ صفحه 208]



فأمر الحاجب بالكف عنه.

فلما طاف الرشيد، طاف الأعرابي أمامه؛ فنهض الي الحجر الأسود ليقبله، فسبقه الأعرابي و التثمه.

ثم صار الرشيد الي المقام ليصلي فيه، فصلي الأعرابي أمامه.

فلما خرج الرشيد من صلاته استدعي الأعرابي؛ فقال الحجاب: أجب أميرالمؤمنين.

فقال: ما لي اليه حاجة فأقوم اليه. بل ان كانت الحاجة له، فهو بالقيام الي أولي.

قال - أي الرشيد -: صدق.

فمشي اليه، و سلم عليه، فرد عليه السلام.

فقال هارون الرشيد: أجلس يا أعرابي؟.

فقال: ما الموضع لي فتستأذنني فيه بالجلوس. انما هو بيت الله نصبه لعباده، فان أحببت أن تجلس فاجلس، و ان أحببت أن تنصرف انصرف.

فجلس هارون و قال: ويحك يا أعرابي، مثلك من يزاحم الملوك؟!.

قال: نعم، و في مستمع.

قال: فاني سائلك، فان عجزت آذيتك.

قال: سؤالك هذا، سؤال متعلم، أو سؤال متعنت؟!.

قال: بل متعلم.

قال: اجلس مكان السائل من المسؤول، وسل. و أنت مسؤول.

فقال - أي الرشيد -: أخبرني ما فرضك؟.



[ صفحه 209]



قال: ان الفرض، رحمك الله، واحد، و خمسة، و سبعة عشر، و أربع و ثلاثون، و أربع و تسعون، و مائة و ثلاثة و خمسون علي سبعة عشر، و في اثني عشر واحد، و في أربعين واحد.

قال: فضحك الرشيد و قال: ويحك، أسألك عن فرضك و أنت تعد علي الحساب؟!.

قال: أما علمت أن الدين كله حساب؟!. و لو لم يكن الدين حسابا لما اتخذ الله للخلائق حسابا. ثم قرأ: (و ان كان مثقال حبة من خردل أتينا بها و كفي بنا حاسبين (47)) [43] .

قال: فبين لي ما قلت، و الا أمرت بقتلك بين الصفا و المروة.

فقال الحاجب: تهبه لله، و لهذا المقام.

قال: فضحك الأعرابي من قوله.

فقال الرشيد: مم ضحكت يا أعرابي؟.

فقال: تعجبا منكما، اذ لا أدري من الأجهل منكما: الذي يستوهب أجلا قد حضر، أو الذي استعجل أجلا لم يحضر؟!.

فقال الرشيد: فسر ما قلت.

قال: أما قولي: الفرض واحد، فدين الاسلام كله واحد. و عليه خمس صلوات في سبع عشرة ركعة. و أربع و ثلاثون سجدة، و أربع و تسعون تكبيرة، و مائة و ثلاث و خمسون تسبيحة.

و أما قولي: من اثني عشر واحد، فصيام شهر رمضان، من اثني عشر شهرا.



[ صفحه 210]



و أما قولي: من الأربعين واحد، من ملك أربعين دينارا، أوجب الله عليه دينارا.

و أما قولي: من مائتين خمسة، فمن ملك مائتي درهم؛ أوجب الله عليه خمسة دراهم.

و أما قولي: فمن الدهر كله واحد، فحجة الاسلام.

و أما قولي: من واحد واحد، فمن أهرق دما في غير حق، وجب اهراق دمه. قال الله تعالي: (النفس بالنفس...) [44] .

فقال الرشيد: لله درك!. و أعطاه بدرة.

فقال: بم أستوجب منك هذه البدرة يا هارون؟. بالكلام أو بالمسألة؟.

قال: بلا بالكلام.

قال: فاني سائلك عن مسألة، فان أنت أتيت بها، كانت البدرة لك، تصدق بها في هذا الموضع الشريف. فان لم تجبني عنها، أضفت الي البدرة بدرة أحري، لأتصدق بها علي فقراء الحي من قومي.

فأمر بايراد أخري، و قال: سل عما بدالك.

فقال: أخبرني عن الخنفساء، تزق، أم ترضع ولدها؟!.

فخرد هارون - أي طال سكوته - و قال: ويحك يا أعرابي، مثلي من يسأل عن هذه المسألة؟.

فقال: سمعت ممن سمع من رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم، يقول: من ولي أقواما وهب من العقل كعقولهم. و أنت امام هذه الأمة يجب أن لا تسأل عن شي ء



[ صفحه 211]



من أمر دينك و من الفرائض، الا و أجبت عنها. فهل عندك له جواب؟!.

قال هارون: رحمك الله، لا. فبين لي ما قلته و خذ البدرتين.

فقال: ان الله تعالي لما خلق الأرض، خلق دبابات الأرض من غير فرث و لا دم؛ خلقها من التراب، و جعل رزقها و عيشها منه. فاذا فارق الجنين أمه، لم تزقه، و لم ترضعه، و كان عيشها من التراب.

فقال هارون: والله ما ابتلي أحد بمثل هذه المسألة.

و أخذ الأعرابي البدرتين و خرج. فتبعه بعض الناس و سأله عن اسمه، فاذا هو موسي بن جعفر بن محمد، عليهم السلام.

و أخبر هارون بذلك، فقال: والله قد ركنت أن تكون هذه الورقة من تلك الشجرة!» [45] .

فيابن الحلال الذي يعرف الورقة و شجرتها!.

ما بالك تريد أن تعري هذه الشجرة من ورقها؟!.

ولكن ثق أنها شجرة أصلها ثابت و فرعها في السماء.

و هي تؤتي أكلها كل حين باذن ربها.

و حصرمة الملك أعمت عينك، و أعمت بصيرتك.

... و هذا الأعرابي العظيم يزاحم الملوك و يلوي أعناقها!.

و مذ زاحمته في اغتصاب حقه، بؤت بسخط الله و رسوله، و ستتبوأ المقعد الذي يليق بك في الآخرة.



[ صفحه 212]



قال علي بن حمزة:

«كان يتقدم الرشيد الي خدمه اذا خرج موسي بن جعفر من عنده أن يقتلوه!.

فكانوا يهمون به فيتداخلهم من الهيبة و الزمع. - أي الدهشة و الرهبة -.

فلما طال ذلك أمر بتمثال من خشب، و جعل له وجها مثل موسي بن جعفر، و كانوا اذا سكروا أمرهم أن يذبحوه بالسكاكين، فكانوا يفعلون ذلك أبدا.

فلما كان في بعض الأيام، جمعهم في الموضع و هم سكاري، و أخرج سيدي اليهم؛ فلما بصروا به هموا به علي رسم الصورة. فلما علم منهم ما يريدون، كلمهم بالخزرية و التركية، فرموا من أيديهم السكاكين، و وثبوا الي قدميه فقبلوهما، و تضرعوا اليه، و تبعوه الي أن شيعوه الي المنزل الذي كان ينزل فيه.

فسألهم الترجمان عن حالهم، فقالوا: ان هذا الرجل يصير الينا في كل عام، فيقضي أحكامنا، و يرضي بعضنا من بعض، و نستسقي به اذا قحط بلدنا، و اذا نزلت بها نازلة فزعنا اليه.

فعاهدهم أن لا يأمرهم بذلك، فرجعوا» [46] .

فلماذا هذا الكيد لبني المصطفي صلي الله عليه و اله و سلم؟. لم يفعل مثله مشركو قريش، و لا كفار الأرض يا صانع التمثال!.



[ صفحه 213]



هل صدقت نفسك الأمارة بالسوء حين سولت لك هذا هذا التمثال الخشبي لتحارب به ابن النبي؟!. بل لتحارب به مشيئة الرب العلي.

لا بد أنك صدقتها، كما صدقت المتزلفين و الكذابين حين سموك أميرالمؤمنين، و أنت في قصر تفوح منه روائح البغي و الجور، و الفسق و الفجور، و جميع الموبقات التي حاربها الرسول و رب الرسول.

ان الوقت الذي صرفته بالتفكير و بصنع التمثال، كان يغنيك عنه اقامة حد من حدود الشرع ترضي به الله عز اسمه و ترضي به الامام الذي تحاربه. و ستحمل وزر ذلك و تبعته الثقيلة الي يوم القيامة، و ستتحمل ذلك الي جانب التبعات الأخري الكبري، لأن ذنوبك كلها كبائر: بدءا من جلوسك علي منبر رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم بغير حق، و انتهاء بالجرائم النكراء التي كانت ترتكب داخل قصرك و خارجه في أنحاء البلاد، و بأمرك وحدك...

هذا، و قد كان هذا الخليفة الجبار يعتقل الامام و يشرده عن أهله و دياره ظلما و عدوانا كما رأينا، في حين كان الامام عليه السلام يقضي حوائج المحتاجين من العباسيين، و يمشي في مصالح المضطرين منهم؛ فقد روي أن محمد بن سليمان قال:

«لما حمل سيدي موسي بن جعفر عليه السلام الي هارون الرشيد، جاء اليه هشام بن ابراهيم العباسي و قال له: يا سيدي، تركب الي الفضل بن يونس تسأله أن يروج أمري. - ذلك أنه يحمل صكا عليه بدين له عنده -.

فركب اليه أبوالحسن عليه السلام، فدخل حاجبه فقال: يا سيدي، أبوالحسن، موسي عليه السلام، بالباب.

فقال: ان كنت صادقا، فأنت حر، ولك كذا و كذا.



[ صفحه 214]



فخرج الفضل بن يونس حافيا يعدو، حتي خرج اليه فوقع علي قدميه يقبلهما؛ ثم سأله أن يدخل.

فدخل، فقال له: اقض حاجة هشام بن ابراهيم.

فقضاها؛ و طلب الي الامام عليه السلام أن يكرمه بالغداء عنده، فتغدي عنده» [47] .

فهو عليه السلام يحسن لبني عمه العباس، و يصل بذلك رحمهم، و هم يسيئون اليه، و يقطعون به رحم رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم، و لذلك قطع الله نسلهم عن وجه الأرض، و كثر نسله فملأ الدنيا فلا تجد فيها الا سيدا موسويا، و الحمدلله.

... أما خليفة الزمان، فقد كان يتلهي مع الامام بأسئلة تافهة أحيانا ليغطي علي جوهر حبسه و تشريده. فاستمع الي ما رواه هاني بن محمد بن محمود العبدي، عن أبيه باسناده، حيث قال:

«ان موسي بن جعفر عليه السلام، دخل علي الرشيد، فقال له الرشيد: يابن رسول الله، أخبرني عن الطبائع الأربع.

فقال موسي عليه السلام: أما الريح فانه ملك يداري. و أما الدم فانه عبد غارم، و ربما قتل العبد مولاه. و أما البلغم فانه خصم جدل، ان سدد من جانب انفتح من جانب آخر. و أما المرة، فانها أرض اذا اهتزت رجفت بما فوقها.

فقال هارون: يابن رسول الله، تنفق علي الناس من كنوز الله تعالي و رسوله صلي الله عليه و اله و سلم» [48] .



[ صفحه 215]



و قارئي الكريم، و أنا، نري أن الامام عليه السلام يرمز في تعريفه للطبائع الأربع الي شي ء خفي علينا. ولكن ذلك الشي ء الذي عناه لم يخف علي الرشيد قطعا... فلربما كان قد أجري له ذلك التحليل الرمزي ليبين له أنه ربما قتل العبد مولاه!. أو أنه عني غير ذلك. فالمهم أن الرشيد فهم ما أراد الامام. ولكن الا هم هو أن نفهم نحن لماذا كان الرشيد يحور و يدور علي أسئلة كهذه، و لا يسأل الامام عن أشياء جوهرية لها مساس بحكمه الظالم؟!. و بأسباب حبس الامام و وضعه في قفص الاتهام دون ذنب أو جرم؟!.

«و روي الشريف المرتضي في «الغرر» عن أبي عبدالله عليه السلام، باسناده عن أيوب بن الحسين الهاشمي، أنه حضر باب الرشيد رجل يقال له: نفيع الأنصاري، و حضر موسي بن جعفر علي حمار له، فتلقاه الحاجب بالاكرام، و عجل له بالاذن.

فسأل نفيع عبدالعزيز بن عمر: من هذا الشيخ؟.

قال: شيخ آل أبي طالب، شيخ آل محمد؛ هذا موسي بن جعفر.

قال: ما رأيت أعجز من هؤلاء القوم - أي العباسيين - يفعلون هذا برجل يقدر أن يزيلهم عن السرير. أما ان خرج لأسوأه.

فقال عبدالعزيز: لا تفعل: فان هولاء أهل بيت قلما تعرض لهم أحد في الخطاب، الا و سموه في الجواب سمة يبقي عارها عليه مدي الدهر.

قال: و خرج موسي، و أخذ نفيع بلجام حماره و قال: من أنت يا هذا؟!.

قال: يا هذا، ان كنت تريد النسب أنا ابن محمد حبيب الله، ابن



[ صفحه 216]



اسماعيل ذبيح الله، ابن ابراهيم خليل الله. و ان كنت تريد البلد، فهو الذي فرض الله علي المسلمين، ان كنت منهم، الحج اليه. و ان كنت تريد المفاخرة فوالله ما رضي مشركو قومي مسلمي قومك أكفاءهم حتي قالوا: يا محمد، أخرج الينا أكفاءنا من قريش!. و ان كنت تريد الصيت والاسم، فنحن الذين أمر الله بالصلاة علينا في الصلوات المفروضة، تقول: اللهم صل علي محمد و آل محمد، فنحن آل محمد.

خل عن الحمار.

فخلي عنه ويده ترقعد، و انصرف مخزيا.

فقال له عبدالعزيز: ألم أقل لك؟!» [49] .

و نعيما يا نفيع، و ما نفعك غرورك!.

بل نعيما يا ضرير، يا أعمي البصر و البصيرة... ورثاء لسوء حالك بعد أن أردت الاساءة الي الامام عليه السلام، فأيبس يدك علي لجام حماره. يا حمار!.

و سحقا لأمثالك من أهل العناد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد، فصب عليهم ربك سوط عذاب...

و من تعرض لما لا يعنيه، أصيب بما لا يرضيه... يا نفيع... يا وضيع!.

قال محمد بن علي بن ماجيلويه:



[ صفحه 217]



«لما حبس هارون الكاظم عليه السلام، جن عليه الليل، فجدد موسي طهوره فاستقبل بوجهه القبلة، و صلي أربع ركعات، ثم دعا فقال:

يا سيدي نجني من حبس هارون، و خلصني من يده يا مخلص الشجر من بين رمل و طين، و يا مخلص النار من بين الحديد و الحجر، و يا مخلص اللبن من بين فرث و دم، و يا مخلص الولد من بين مشيمة و رحم، و يا مخلص الروح من بين الأحشاء و الأمعاء، خلصني من يد هارون الرشيد.

قال: فرأي هارون رجلا أسود بيده سيف قد سله، واقفا علي رأس هارون و هو يقول: يا هارون، أطلق عن موسي بن جعفر، و الا ضربت علاوتك - أي عنقك - بسيفي هذا!.

فخاف من هيبته ثم دعا بحاجبه.

فجاء الحاجب فقال له: اذهب الي السجن، و أطلق موسي بن جعفر». [50] .

«و في رواية عن الفضل بن الربيع، أنه قال: سر الي حبسنا، و أخرج موسي بن جعفر، وادفع اليه ثلاثين ألف درهم، واخلع عليه خمس خلع، واحمله علي ثلاث مراكب. و خيره: اما المقام معنا، أو الرحيل الي أي البلاد أحب.

فلما عرض الخلع عليه أبي أن يقبلها». [51] .

و في رواية عن علي بن ابراهيم بن هاشم، عن أبيه، قال في نهايتها:

«فخرج الحاجب، فقرع باب السجن، فأجابه صاحب السجن، فقال: من ذا؟!.



[ صفحه 218]



قال: ان الخليفة يدعو موسي بن جعفر، فأخرجه من سجنك، و أطلق عنه.

فصاح السجان: يا موسي، ان الخليفة يدعوك.

فقام موسي مذعورا فزعا و هو يقول: لا يدعوني في جوف هذا الليل الا لشر يريده بي.

فجاء الي هارون، فقال: سلام علي هارون.

فرد عليه السلام، ثم قال له: ناشدتك الله، هل دعوت في جوف هذا الليل بدعوات؟.

فقال: نعم.

قال: و ما هن؟!.

فذكر له ما فعل و ما دعا.

فقال هارون: قد استجاب الله دعوتك. ثم دعا بخلع، فخلع عليه ثلاثا، و حمله علي فرسه و أكرمه. و بقي عند هارون كريما، شريفا، يدخل عليه في كل خميس، الي أن حبسه الثانية، و توفي في حبسه» [52] .

و ما كان الامام عليه السلام، ليفعل ذلك من الدعاء بالخلاص، الا ليعرف خليفة الزمان المزيف، أنه اذا دعا الله استجاب له، و أنه لم يدع علي الخليفة مطلقا، ليستكمل مدته من الظلم و الجور الذي هو عليه؛ و كذلك ليعرفنا - نحن أيضا - أنه يستطيع أن ينجو في كل لحظة من خطر هؤلاء الظلمة، و أن يزيلهم عن مراتبهم. ولكنه عليه السلام مأمور بالصبر كآبائه صلوات الله عليهم، و سكوته ينجيه ردحا من الزمن يقول فيه كلمة الحق بين الناس، في مجالس



[ صفحه 219]



الأمراء، و في قصورهم كما في سجونهم، ليلقي الحجة عليهم و علي أتباعهم. و هو يعمل بموجب الميثاق الذي بيده من جده سيد المرسلين و خاتم النبيين صلوات الله عليه و علي أهل بيته... فالامام مرصود لأمر خاص من الله تبارك و تعالي، و هو لا يحيد عن الخط المرسوم له قيد شعرة، فاذا انتهي ما هو مأمور به في عهد جده صلي الله عليه و اله و سلم ينتهي أمره و يلحق بآبائه الطاهرين عليهم السلام.

و قال المسعودي في (مروج الذهب) تحت هذا العنوان:

«رؤيا الرشيد يؤمر بالتخلية عن موسي بن جعفر - حين كان في حبسه -:

و ذكر عبدالله بن مالك الخزاعي - و كان علي دار الرشيد و شرطته - قال:

أتاني رسول الرشيد في وقت ما جاءني فيه قط، فانتزعني من موضعي، و منعني من تغيير ثيابي، فراعني ذلك منه.

فلما صرت الي الدار سبقني الخادم فعرف الرشيد خبري، فأذن لي في الدخول عليه.

فدخلت، فوجدته قاعدا علي فراشه، فسلمت.

فسكت ساعة، فطار عقلي و تضاعف الجزع علي، ثم قال لي:

يا عبدالله، أتدري لم طلبتك في هذا الوقت؟.

قلت: لا والله يا أميرالمؤمنين.

قال: اني رأيت الساعة في منامي كأن جيشا قد أتاني و معه حربة، فقال لي: ان لم تخل عن موسي بن جعفر الساعة، و الا نحرتك بهذه الحربة.



[ صفحه 220]



فاذهب، فخل عنه.

فقلت: يا أميرالمؤمنين، أطلق موسي بن جعفر؟!. ثلاثا.

قال: نعم، امض الساعة حتي تطلق موسي بن جعفر؛ و أعطه ثلاثين ألف درهم، و قل له: ان أحببت المقام قبلنا، فلك عندي ما تحب، و ان أحببت المضي - الانصراف - الي المدينة، فالاذن في ذلك اليك.

قال - عبدالله بن مالك الخزاعي -: فمضيت الي الحبس لأخرجه، فلما رآني موسي و ثب الي قائما، و ظن أني قد أمرت فيه بمكروه. فقلت: لا تخف، و قد أمرني أميرالمؤمنين باطلاقك، و أن أدفع لك ثلاثين ألف درهم. و هو يقول لك: ان أحببت المقام قبلنا فلك ما تحب، و ان أحببت الانصراف الي المدينة فالأمر في ذلك مطلق اليك.

و أعطيته الثلاثين ألف درهم، و خليت سبيه، و قلت: لقد رأيت في أمرك عجبا. قال: فاني أخبرك. بينما أنا نائم اذ أتاني النبي صلي الله عليه و اله و سلم، فقال:

يا موسي، حبست مظلوما، فقل هذه الكلمات: فانك لا تبيت هذه الليلة في الحبس.فقلت: بأبي و أمي، ما أقول؟.

فقال: قل: يا سامع كل صوت، و يا سابق الفوت، و يا كاسي العظام و منشرها بعد الموت، أسألك بأسمائك الحسني، و باسمك الأعظم الأكبر المخزون المكنون، الذي لم يطلع عليه أحد من المخلوقين، يا حليما ذا أناة لا يقوي علي أناته، يا ذا المعروف الذي لا ينقطع أبدا، و لا يحصي عددا، فرج عني.



[ صفحه 221]



فكان ما تري» [53] .

و كل هذه الروايات تؤدي الي نتيجة واحدة، هي أن الامام عليه السلام اذا أراد أن يفعل شيئا فعله بمشيئة ربه و اذنه، و أنه يفعل هذه المعاجز البسيطة لينبه الغافلين، و ليهز السوط للظالمين، و ليوضح للناس أجمعين أنه قادر - بقدرة ربه - علي فعل ما يريد، و لم يفكر يوما بملك الدنيا و سلطانها الزائل.

و نقل أبوجعفر بن جرير الطبري عن الأعمش أنه قال:

«رأيت كاظم الغيظ عليه السلام عند الرشيد و قد خضع له.

فقال له عيسي بن أبان: يا أميرالمؤمنين، لم تخضع له؟!.

قال: رأيت من ورائه أفعي تضرب بأنيابها و تقول: أجبه بالطاعة و الا بلعتك!. ففزعت منها، فأجبت» [54] .

نعم كان يري الرشيد و أسرته أكثر من ذلك من معاجز أهل هذا البيت المقدس صلوات الله عليهم، ولكنهم فراعنة كفرعون موسي الذي اتهمه بالسحر، و هو يعلم أنه ليس بسحر. ولجهلهم بالدين تمسكوا بسلطان ظالم قتل بعضهم أباه من أجله، و قتل غيره أخاه أو ابن عمه، و ما رعوا فيه لمؤمن كرامة و لا فضلا.



[ صفحه 222]



و اذا كنت تعجب مما ذكرناه، فاستمع الي ما هو أعجب. فعن أبي محمد، عبدالله - بن الفضل بن الربيع - عن الفضل، أنه قال:

«كنت أحجب الرشيد، فأقبل علي يوما غضبانا، و بيده سيف يقلبه. فقال لي: يا فضل، بقرابتي من رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم، لئن كان لم تأتني يابن عمي الآن لأخذت الذي فيه عيناك.

فقلت: بمن أجيئك؟!.

فقال: بهذا الحجازي.

قلت: و أي حجازي؟!.

قال: موسي بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام.

قال الفضل: فخفت من الله عزوجل أن أجي ء به اليه. ثم فكرت بالنقمة فقلت له: أفعل.

فقال: ائتني بسوطين و سمارين، و جلادين..

فأتيته بذلك، و مضيت الي منزل أبي ابراهيم، موسي بن جعفر. فأتيت الي خربة فيها كوخ من جرائد النخل، فاذا أنا بغلام أسود فقلت له: استأذن لي علي مولاك، يرحمك الله.

فقال لي: لج، ليس له حاجب و لا بواب.

فولجت اليه، فاذا بغلام أسود بيده مقص يأخذ من جبينه و عرنين أنفه من كثرة سجوده. فقلت له: السلام عليك يابن رسول الله. أجب الرشيد.

فقال: ما للرشيد و ما لي؟! أما تشغله نعمته عني؟!.

ثم وثب مسرعا و هو يقول: لولا أني سمعت في خبر في جدي رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم أن طاعة السلطان للتقية واجبة، اذا ما جئت.



[ صفحه 223]



فقلت له: استعد للعقوبة يا أباابراهيم، رحمك الله.

فقال عليه السلام: أليس معي من يملك الدنيا و الآخرة؟!. و لن يقدر اليوم علي سوء بي ان شاءالله تعالي.

قال الفضل بن ربيع: فرأيته و قد أدار يده يلوح بها رأسه ثلاث مرات.

فدخلت علي الرشيد، فاذا كأنه امرأة ثكلي، قائم حيران!. فلما رآني قال لي: يا فضل.

قلت: لبيك.

فقال: جئتني بابن عمي؟.

قلت: نعم.

قال: لا يكون أزعجته؟!.

فقلت: لا.

قال: لا يكون أعلمته أني عليه غضبان، و أني قد هيجت علي نفسي ما لم أرده... ائذن له بالدخول.

فاذنت له. فلما رآه وثب اليه قائما، و عانقه و قال له: مرحبا بابن عمي و أخي و وارث نعمتي!. ثم أجلسه علي فخذيه و قال له: ما الذي قطعك عن زيارتنا؟.

فقال: سعة مملكتك، و حبك للدنيا.

فقال: ائتوني بحقة الغالية - أي بالطيب - فأتي بها. فعلقه بيده، ثم أمر أن يحمل بين يديه خلع و بدرتا دنانير. - أي صرتان -.

فقال موسي بن جعفر عليه السلام: لولا أني أري أن أزوج بها من عزاب بني أبي طالب لئلا ينقطع نسله أبدا ما قبلتها.



[ صفحه 224]



ثم تولي عليه السلام، و هو يقول: الحمدلله رب العالمين.

فقال الفضل - للرشيد -: أردت أن تعاقبه، فخلعت عليه و أكرمته؟!.

فقال لي: يا فضل، انك لما مضيت لتجيئني به، رأيت أقواما قد أحدقوا بداري، بأيديهم حراب قد غرسوها في أصل الدار، يقولون: ان آذي ابن رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم خسفنا به، و ان أحسن اليه انصرفنا عنه و تركناه.

فتبعته فقلت له: ما الذي قلته حتي كفيت أمر الرشيد؟!.

قال: دعاء جدي علي بن أبي طالب عليه السلام. كان اذا دعا به ما برز الي عسكر الا هزمه، و لا الي فارس الا قهره، و هو دعاء كفاية البلاء.

فقلت: و ما هو؟.

قال: قل: اللهم بك أساور، و بك أطاول، و بك أحاور، و بك أصول، و بك أنتصر، و بك أموت، و بك أحيا، أسلمت نفسي اليك، و فوضت أمري اليك، لا حول و لا قوة الا بالله العلي العظيم.

اللهم انك خلقتني و رزقتني، و سترتني عن العباد بلطف ما خولتني و أغنيتني، و اذا هويت رددتني، و اذا عثرت قومتني و اذا مرضت شفيتني، و اذا دعوت أجبتني، يا سيدي ارض عني فقد أرضيتني» [55] .

و هذه من آياته التي آمن بها الخليفة حال حدوثها، ولكنه كفر بها كما كفر بغيرها من قبل كما هي عادة أهل العناد الذين اذا رأوا آية (وجحدوا بها و استيقنتها أنفسهم...) [56] .

و من آياته التي فجأ بها الناس يومئذ، و هو في آخر سجن حل فيه، ما قاله أبوالأزهر، ناصح بن علية البرجمي في حديث طويل:



[ صفحه 225]



«جمعني مسجد بازاء دار السندي بن شاهك، و ابن السكيت. فتفاوضنا - أي تذاكرنا - في العربية، و معنا رجل لا نعرفه، فقال: يا هؤلاء، أنتم الي اقامة دينكم أحوج منكم الي اقامة ألسنتكم، و ساق الكلام الي امام الوقت، و قال: ليس بينكم و بينه غير هذا الجدار.

قلنا: تعني هذا المحبوس، موسي؟!.

قال: نعم.

قلنا: سترنا عليك، فقم من عندنا مخافة أن يراك أحد جليسنا فنؤخذ بك.

قال: والله لا يفعلون ذلك أبدا!. والله ما قلت لكم الا بأمره، و انه ليرانا و يسمع كلامنا، ولو شاء أن يكون ثالثنا لكان.

قلنا: فقد شئنا، فادعه الينا.

فاذا قد أقبل رجل من باب المسجد داخلا، كادت لرؤيته العقول أن تذهل؟!. فعلمنا أنه موسي بن جعفر...

... ثم قال: أنا هذا الرجل، و تركنا.

و خرجنا من المسجد مبادرين، فسمعنا وجيبا شديدا. و اذا السندي بن شاهك يعدو داخلا الي المسجد معه جماعة. فقلنا: كان معنا رجل فدعانا الي كذا و كذا، و دخل هذا الرجل المصلي، و خرج ذلك الرجل و لم نره.

فأمر بنا فأمسكنا. ثم تقدم الي موسي و هو قائم في المحراب، فأتاه من قبل وجهه، و نحن نسمع، فقال: يا ويحك، كم تخرج بسحرك هذا وحيلتك من وراء الأبواب و الأغلاق و الأقفال، و أردك!. فلو كنت هربت كان أحب الي من وقوفك هاهنا... أتريد يا موسي أن يقتلني الخليفة.

قال: فقال موسي، و نحن والله نسمع كلامه: كيف أهرب، ولله في



[ صفحه 226]



أيديكم موقت لي يسوق اليها أقدارها، و كرامتي علي أيديكم... -في كلام له.

قال: فأخذ السندي بيده و مشي، ثم قال للقوم: دعوا هذين و اخرجوا الي الطريق فامنعوا أحدا يمر من الناس حتي أتم أنا و هذا الي الدار» [57] .

فيا رب (أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم ءاذان يسمعون بها...) [58] و أين يضيع الفهم، و يغيب العلم و الرشد؟! (فانها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور (46)) [59] .

قال محمد بن عباد المهلبي:

«لما حبس هارون الرشيد موسي بن جعفر، و أظهر الدلائل و المعجزات و هو في الحبس، دعا الرشيد يحيي بن خالد البرمكي و سأله تدبيرا في شأن موسي عليه السلام، فقال:

الذي أراه لك أن تمن عليه و تصل رحمه.

فقال الرشيد: انطلق اليه، وأطلق عنه الحديد، و أبلغه عني السلام، و قل له: يقول لك ابن عمك: انه قد سبق فيك مني يمين أن لا أخليك حتي تقر لي بالاساءة، و تسألني العفو عما سلف منك. و ليس عليك في اقرارك عار، و لا في مسألتك اياي منقصة. و هذا يحيي و هو ثقتي و وزيري، فله قدر ما أخرج من يميني، و انصرف راشدا.

فقال عليه السلام: يا أباعلي، أنا ميت، و انما بقي من أجلي أسبوع. فاكتم قولي، وائتني يوم الجمعة، و صل أنت و أوليائي علي فرادي. و انظر اذا سار



[ صفحه 227]



هذا الطاغية الي الرقة و عاد الي العراق لا يراك و لا تراه، واحتل لنفسك فاني رأيت في نجمك و نجم ولدك و نجمه أنه ياتي عليكم، فاحذروه!.

ثم قال له: يا أباعلي، أبلغه عني: يقول موسي بن جعفر: رسولي يأتيك يوم الجمعة، و يخبرك بما يري. و ستعلم غدا اذا جاثيتك بين يدي الله من الظالم و المعتدي علي صاحبه!.

فلما أخبره بجوابه قال هارون: ان لم يدع النبوة بعد أيام فما أحسن حالنا!.

فلما كان يوم الجمعة توفي أبوابراهيم عليه السلام» [60] .

و بوفاة الامام عليه السلام يوم الجمعة، كتب الله تعالي الخزي علي وجه الخليفة الذي سخر من قول الامام و قال: ان لم يدع النبوة بعد أيام فما أحسن حالنا!.

فان الامام عليه السلام قد أنبأ يحيي البرمكي بأن هذا السلطان الظالم سيفتك به و بأولاده، و حذره من ذلك، فلم يأخذ الحيطة لنفسه و لا لأولاده، فوقع هو و اياهم في الهلاك.

و الشي ء الهام الذي نريد ايضاحه، هو أن هارون الرشيد كان يموه علي الآخرين، و يريهم أنه يريد اطلاق سراح الامام في الأسبوع الذي عزم فيه علي سمه، و بذلك يصرف أفكارهم عن أنه يدبر المكيدة مع أعوانه لسم الامام و قتله. ولذلك نري الامام صلوات الله عليه لم يجبه بأكثر من أن تهدده بمحاكمته بين يدي الله تعالي، و كشف له عن علمه بتدبير الحيلة لقتله و هو يعلن أنه سيطلق سراحه، و بذلك ألقمه حجرا سد به فاه.



[ صفحه 228]



قال عبدالله بن ابراهيم الجعفري:

«كتب يحيي بن عبدالله بن الحسن، الي موسي بن جعفر عليه السلام:

أما بعد، فأوصي نفسي بتقوي الله، و بها أوصيك. فانها وصية الله في الأولين، و وصيته في الآخرين.

خبرني من ورد علي من أعوان الله علي دينه و نشر طاعته، بما كان من تحننك من خذلانك، و قد شاورت في الدعوة للرضا من آل محمد صلي الله عليه و اله و سلم، و قد احتجبتها و احتجبها أبوك من قبلك. - أي احتجبا المشورة -. و قديما ادعيتم ما ليس لكم، و بسطتم آمالكم الي ما لم يعطكم الله، فاستهويتم و أضللتم؛ و أنا محذرك ما حذرك الله من نفسه.

فكتب اليه أبوالحسن، موسي بن جعفر عليه السلام:

من موسي بن أبي عبدالله: جعفر، و علي، مشتركين في التذلل الله و طاعته؛ الي يحيي بن عبدالله بن حسن.

أما بعد، فاني محذرك الله و نفسي، و أعلمك أليم عذابه، و شديد عقابه، و تكامل نقماته!... و أوصيك و نفسي بتقوي الله، فانها زين الكلام و تثبيت النعم.

أتاني كتابك تذكر فيه أني مدع، و أبي من قبل، و ما سمعت ذلك مني!. (ستكتب شهادتهم و يسئلون (19)) [61] .

لم يدع حرص الدنيا و مطالبها لأهلها مطلبا لآخرتهم، حتي يفسد عليهم مطلب آخرتهم في دنياهم.

و ذكرت أني ثبطت الناس عنك لرغبتي فيما في يديك، و ما منعني من



[ صفحه 229]



مدخلك الذي أنت فيه لو كنت راغبا، ضعف عن سنة، و لا قلة بصيرة بحجة. ولكن الله تبارك و تعالي خلق الناس أمشاجا و غرائب و غرائز.

فأخبرني عن حرفين أسألك عنهما: ما العترف في بدنك؟. و ما الصهلج في الانسان؟. ثم اكتب الي بخبر ذلك.

و أنا متقدم اليك أحذرك معصية الخليفة، و أحثك علي بره و طاعته، و أن تطلب لنفسك أمانا قبل أن تأخذك الأظفار، و يلزمك الخناق من كل مكان، فتروح الي النفس من كل مكان تجده حتي يمن الله عليك بمنه و فضله، ورقة الخليفة أبقاه الله، فيؤمنك و يرحمك، و يحفظ فيك أرحام رسول الله، والسلام علي من اتبع الهدي، (انا قد أوحي الينا أن العذاب علي من كذب و تولي (48)) [62] .

قال الجعفري: فبلغني أن كتاب موسي بن جعفر عليه السلام، وقع في يدي هارون (الرشيد) فلما قرأه قال: الناس يحملوني علي موسي بن جعفر، و هو بري ء مما يرمي به» [63] .

فلم تأخذ البري ء بغير ذنب يا عنق البعير الذي جلس علي مقعد الخلافة ليقيم العدل بين الناس؟!.

و كيف يجوز لك أن تتهم بريئا، و تحبس بريئا، و تسم بريئا، و تقتل بريئا.

اذا وقفت و اياه بين يدي الله، و جاثاك أمام الحكم العدل، فستبوء بالخسران في ساعة لا ينفع فيها الندم لمن ندم و تاب.

أيام شقاء الامام في ظل حكمك انتهت... بأن راح الي ربه شهيدا مظلوما، و لحق بآبائه الأبرار الأطهار... الي جنة الله و رضوانه.



[ صفحه 230]



و أيام سعادتك ولهوك و غفلتك قد انقضت... ورحت حكما ظلما قد تقمص غير سرباله، و ورد علي ربه يدا بيد مع فراعنة العصور، و مع ابن ملجم و قتلة الحسن و الحسين و أبنائه عليهم السلام... و كنتم جبارين، و وقعتم بين يدي جبار السماوات و الأرض... الحاكم بالعدل...



[ صفحه 231]




پاورقي

[1] الكافي م 1 ص 476.

[2] الارشاد ص 279- 278 و اعلام الوري ص 297 -296 و حلية الأبرار ج 2 ص 274 و كشف الغمة ج 3 ص 20-19 و الاحتجاج ج 2 ص 393 و هو في مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 320 باختصار.

[3] الكامل لابن الأثير ج 6 ص 54 و في تاريخ الأمم و الملوك ج 11 ص 70 ذكر وفاته فقط، و هو في مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 320 باختصار، و في تذكرة الخواص ص 314 بكامله، نقلا عن الزمخشري و المدائني. و هو في حلية الأبرار ج 2 ص 274- 273 و آخره في كشف الغمة ج 3 ص 8 و ص 40 أورده فيما ذكره الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد نقلا عن أحمد بن اسماعيل.

[4] المصدر نفسه.

[5] سورة العشراء: 227.

[6] في رجال المامقاني ج 3 ص 290 نقل الوحيد رواية الصدوق عنه مترضيا عليه، و هو دليل علي وثاقته.

[7] سورة الأنفال: 72.

[8] سورة الأنعام: 38.

[9] سورة الأنعام: 84 و 85 و هذا النقاش موجود في ينابيع المودة ج 3 ص 10.

[10] سورة آل عمران: 61 و هذا النقاش و ما سبقه موجودان في كشف الغمة ج 3 ص 42-41.

[11] سورة الأنبياء: 60.

[12] الاحتجاج ج 2 من ص 387 الي ص 393.

[13] حلية الأبرار ج 2 ص 269 الي 272 في حديث طويل تركنا آخره لما فيه من خزي يظهر في تصرف هذا الخليفة. و هو في وفاة الامام موسي الكاظم ص 18 الي ص 22.

[14] سورة الحجر: 21.

[15] مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 360 و هو في حلية الأبرار ج 2 ص 273 - 272.

[16] الطومار: كتاب طويل يستعمله القدماء.

[17] سورة مريم: 59.

[18] سورة الأنعام: 84 و 85.

[19] سورة آل عمران: 55.

[20] سورة الانفال: 70.

[21] سورة الأنفال: 72.

[22] سورة الانفال: 72.

[23] الاختصاص من ص 54 الي ص 58 و أشار الي رواية تحف العقول من 298 الي 300 و الاختلاف اللفظي، و الي رواية المجلسي في بحارالأنورا م 11 ص 268 و هو في وفاة الامام موسي الكاظم من ص 9 الي ص 18.

[24] سورة الشعراء: 89-88.

[25] سورة الأنفال: 72.

[26] سورة الانعام: 84 و 85.

[27] سورة آل عمران: 42.

[28] سورة المجادلة: 52.

[29] سورة الأعراف: 12 و سورة ص: 76.

[30] سورة الكهف: 51-50.

[31] سورة لقمان: 25.

[32] تحت العقول ص 2.

[33] سورة النساء: 86.

[34] سورة البقرة: 86.

[35] مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 308.

[36] سورة النمل: 36.

[37] مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 298-297 و هو في الأنوار البهية ص 363 باختصار.

[38] سورة النساء: 137.

[39] سورة الأسرار: 47.

[40] سورة الذاريات: 53.

[41] سورة التوبة: 32.

[42] سورة الحج: 25.

[43] سورة الأنبياء: 47.

[44] سورة المائدة: 45.

[45] مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 313-312.

[46] مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 301-300 و هو في حلية الأبرار ج 2 من ص 267 الي ص 269 بتفصيل أوفي.

[47] حلية الأبرار ج 2 ص 284.

[48] الاختصاص ص 198.

[49] مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 316 و هو في اعلام الوري ص 297 باختلاف يسير في اللفظ، و هو في حلية الأبرار ج 2 ص 275- 274.

[50] مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 306-305 و وفاة الامام موسي الكاظم من ص 23 الي ص 25.

[51] المصدر السابق.

[52] حلية الأبرار ج 4 ص 267- 266 و وفاة الامام موسي الكاظم ص 27.

[53] مروج الذهب ج 3 ص 347-346 و في بنابيع المودة ج 3 ص 11 ذكر أن هارون الرشيد رأي عليا رضي الله عنه في المنام و معه حربة و هو يقول: خلص الكاظم و الا قتلتك بهذه الحربة. و هو في ينابيع المودة ج 3 ص 32 و ص 37 و أن الرشيد رأي في منامه الامام الحسن المجتبي عليه السلام. و هو أيضا في حلية الأبرار ج 2 ص 264- 263 و في الاختصاص ص 60 - 59 و قال: رواه الصدوق في «العيون» و المجلسي في بحارالأنوار م 11 ص 399.

[54] حلية الأبرار ج 2 ص 260.

[55] حلية الأبرار ج 2 من ص 261 الي ص 264.

[56] سورة النمل: 14.

[57] مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 297-296.

[58] سورة الأعراف: 195.

[59] سورة الحج: 46.

[60] مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 290.

[61] سورة الزخرف: 19.

[62] سورة طه: 48.

[63] الكافي م 1 ص 267-266.