سيرته مع شيعته
بسم الله نفتتح هذا الموضوع الذي يبين الأدب الرفيع الذي أدب أئمتنا عليهم السلام شيعتهم، و بما عناه سيدنا الامام الكاظم سلام الله عليه حين قال:
«كثيرا ما كنت أسمع أبي يقول: ليس من شيعتنا من لا تتحدث المخدرات بورعه في خدورهن؛ و ليس من أوليائنا من هو في قرية فيها عشرة آلاف رجل فيهم خلق لله أورع منه» [1] .
فأئمتنا عليهم السلام مربون ماهرون.
و قد فطرهم الله تعالي علي القول الذي يذهب مثلا في كل زمان و مكان، و يبقي دستور قويما، و صراطا مستقيما.
و كلماتهم الشريفة تنفذ الي أعماق القلوب في الصدور... و تطوي العصور و الدهور و تبقي حقائق ثابتة لا يأتيها الباطل...و لم أر في فلاسفة العالم، و لا في علماء البشر، أحدا يقول قولا لا جدال فيه غيرهم، لأنهم
[ صفحه 301]
يصدرون بقولهم عن رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم، و عن كتاب الله المجيد... و عن الهام رباني... و لا تبديل لكلمات الله عزوجل.
فعن ابراهيم بن عبدالحميد، عن أبيه، عن امامنا أبي الحسن عليه السلام، قال:سمعته يقول: خلق الله الأنبياء و الأوصياء يوم الجمعة؛ و هو اليوم الذي أخذ الله فيه ميثاقهم.
و قال: خلقنا نحن و شيعتنا من طينة مخزونة، لا يشذ منها شاذ الي يوم القيامة» [2] .
فالحمدلله الذي جعلنا من طينتهم الشريفة، و من المجبولين علي محبتهم، و من المنعقدة قلوبنا علي ولايتهم. و نسأله سبحانه أن يحشرنا في زمرتهم، و تحت لوائهم، لننال شفاعتهم يوم لا ينفع مال و لا بنون.
و كذلك قال امامنا عليه السلام: «ليس كل من قال بولايتنا مؤمنا، ولكن جعلو انسا للمؤمنين» [3] .
أي أنه تعالي جعل القائلين بولايتهم - من غير العاملين بأوامرهم و نواهيهم - حصنا للؤمنين الصادقي الايمان، يحامون عنهم، و يدفعون كل أذي و انتقاد ليكونوا مرهوبين، أو علي الأقل ليكونوا محفوظين لا تنالهم يد و لا لسان. فالشيعي العالم العارف الورع، يدافع عنه كل شيعي عامل أو متهاون، و عن كل مسلم مؤمن.
[ صفحه 302]
و قال علي بن جعفر، رواية عن أخيه الكاظم عليه السلام:
«انما شيعتنا المعادن و الأشراف، و أهل البيوتات، و من مولده طيب!.
قال علي بن جعفر: فسألته عن تفسير ذلك؟.
فقال: المعادن من قريش، و الأشراف من العرب، و أهل البيوتات من الموالي، و من مولده طيب من أهل السواد» [4] .
فما أجمل هذا التفصيل الذي يدل علي أن شيعتهم خلاصة الناس و أصفياؤهم.
و مثل هذا التفصيل ما يلي:
روي صالح بن عقبة، عنه عليه السلام، أنه قال:
«الناس ثلاثة: عربي، و مولي، و علج، فأما العرب فنحن، و أما الموالي فمن والانا، و أما العلج فمن تبرأ منا و ناصبنا» [5] .
و هكذا نري أن كل امام يضع الخطوط الكبري لمنهج تربيته للشيعة، و يشرف علي تطبيقه ليري الموالي صافيا مصفي، طاهر الذات، منسجما في قوله و عمله، صادقا في سره و علنه. فاستمع الي قول امامنا هذا عليه السلام الذي قال:
«ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فان عمل خيرا استزاد الله، و حمدالله عليه، و ان عمل شرا استغفرالله منه، و تاب اليه» [6] .
نعم، و ان كل عاقل يحاسب نفسه قبل أن يحاسب، و يصلح نفسه يوما
[ صفحه 303]
بعد يوم، ليأتي وقت يرضي فيه عن نفسه حين يضمن رضي الله تعالي عليه، و هذه قواعد راسخة يبني أئمتنا عليهم السلام تربيتهم للشيعة عليها ليكونوا من أكمل الخلق. و هم أساتذه ماهرون، و مربون فاخرون، يمسكون بقلوب شيعتهم كيلا يضلوا و لا يزلوا.
«و قد روي السيد ابن طاووس أنه كان جماعة من خاصة أبي الحسن، موسي عليه السلام، من أهل بيته و شيعته، يحضرون مجلسه و في كمامهم ألواح آبنوس لطاف، و أميال، فاذا نطق أبوالحسن عليه السلام، بكلمة، و أفتي في نازلة، أثبت القوم ما سمعوا منه في ذلك» [7] .
و هذا هو شأن طالب المعرفة بين يدي أستاذ معصوم ينقل عن أبيه، عن جده، عن رسول الله، عن جبرئيل، عن اللوح، عن القلم، عن الله تبارك و تعالي، و لا يغير حرفا، و لا يبدل كلمة، و لا يقول من عند نفسه شيئا.
و قد صدق سيدنا أبوالحسن عليه السلام فيما نقله عنه ابراهيم بن عبدالحميد الذي قال:
«محادثة العالم علي المزابل، خير من محادثة الجاهل علي الزرابي» [8] .
و الزرابي هو شبه المسند الذي يتكأ عليه من الفراش الناعم. و ليس أشرف من هذا القول في ميزان التقدير و الاعتبار، لأن محادثة العالم ذات فائدة دائما، في حين أن محادثة الجاهل اما أنها لا تجر نفعا، أو أنها توقع في الاثم.
[ صفحه 304]
قال علي بن يقطين:
«قال أبوالحسن عليه السلام:مر أصحابك أن يكفوا من ألسنتهم، و يدعوا الخصومة في الدين، و يجتهدوا في عبادة الله عزوجل» [9] .
ذلك أنه صلوات الله عليه يريد أن يصرفهم عن الجدل الذي لا يغني فتيلا و يشهرهم و يلحق بهم الأذي، الي عبادة الله التي تجعلهم دائما في عين الله سبحانه و في رعايته، فلا يعملون لما يلفت اليهم نظر السلطان فيفتك بهم، اذ لا يفيدهم الخلاف في قدم القرآن أو حدوثه مثلا، و لا هل هو مخلوق أم أزلي، بمقدار ما تفيدهم طاعة من طاعات ربهم جل و علا.
و روي عنه عليه السلام، أنه قال:
«فقيه واحد ينقذ يتيما من أيتامنا المنقطعين عن مشاهدتنا، يتعلم ما هو محتاج اليه، أشد علي ابليس من ألف عابد، لأن العابد همه ذات نفسه فقط، و هذا همه مع ذات نفسه ذات عباد الله و امائه لينقذهم من يد ابليس و مردته. و كذلك هو أفضل عندالله من ألف عابد، و ألف ألف عابد» [10] .
و هكذا كان يحث علي العلم و التعلم، و يشجع أصحابه علي ارشاد الضالين، و يعلم الجاهلين. و قد سئل عليه السلام:
«هل يسع الناس ترك المسألة عما يحتاجون اليه؟.
فقال: لا» [11] .
ذلك أنهم اذا تركوا المسألة عما لا يعرفون حكمه، ظلوا علي جهلهم في كثير من الأمور، و عاشوا في شبه ظلام مطبق. و قد قال عليه السلام:
[ صفحه 305]
«دخل رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم الي المسجد، فاذا جماعة قد أطافوا برجل.
فقال: ما هذا؟!.
فقيل: علامة.
فقال: و ما العلامة؟.
فقالوا له: أعلم الناس بأنساب العرب و وقائعها، و أيام الجاهلية و الأشعار العربية.
فقال النبي صلي الله عليه و اله و سلم: ذاك علم لا يضر من جهله، و لا ينفع من علمه. ثم قال النبي صلي الله عليه و اله و سلم: انما العلم ثلاثة: آية محكمة، أو فريضة عادلة، أو سنة قائمة و ما خلاهن فهو فضل» [12] .
و ليس بعد قول رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم قول لأحد.
و قال عليه السلام: «لتأمرن بالمعروف، و لتنهن عن المنكر، أو ليستعملن عليكم شراركم، فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم» [13] .
و نحن اليوم علي موعد مع حكم الأشرار، اذ انقطع الأمر بالمعروف، و بطل النهي عن المنكر، و قد أخذ لا يستجاب دعاء خير و لا شرير.
و قال علي بن أبي حمزة:
«سمعت أباالحسن، موسي بن جعفر عليه السلام يقول:
اذا مات المؤمن بكت عليه الملائكة، و بقاع الأرض التي كان يعبد الله
[ صفحه 306]
عليها، و أبواب السماء التي كان يصعد فيها بأعماله؛ و ثلم في الاسلام ثلمة لا يسدها شي ء، لأن المؤمنين الفقهاء حصون الاسلام، كحصن سور المدينة لها» [14] .
و يكفي بهذا القول الكريم لأن يكون حافزا علي التفقه في الدين، و باعثا علي الايمان و اليقين الذي تشده عناية الله تبارك و تعالي، و ترفده هدايته. و ليس أجمل من اللحظات اللاذة التي يقفها العبد المؤمن بين يدي ربه - في كل طاعة من طاعاته - فان جزاءها يوم القيامة يكون جزاء موفورا، و قد قال صفوان بن يحيي لأبي الحسن، موسي بن جعفر عليه السلام: بلغني أن المؤمن - بعد موته - اذا أتاه الزائر أنس به، و اذا انصرف عنه استوحش؟.
قال: لا يستوحش» [15] .
أجل، و كيف يستوحش من ذكرنا حاله من النعيم المقيم؟!.
و حرض امامنا عليه السلام شيعته علي عمل الخير و الاحسان الي الآخرين، فقال عليه السلام:
«ان الله عبادا يسعون في حوائج الناس، هم الآمنون يوم القيامة. و من أدخل علي مؤمن سرورا فرج الله عنه يوم القيامة» [16] .
و اعتني سلام الله عليه كثيرا بحسن علاقة المؤمنين فيما بينهم، و قال:
«من قبل للرحم ذا قرابة فليس عليه شي ء. و قبلة الأخ علي الخد، و قبلة الامام بين عينيه» [17] .
[ صفحه 307]
و ليس أبرع من أئمتنا عليهم السلام في التربية الصالحة التي تضمن سعادة الانسان في الدارين و لقد قال علي بن يقطين:
«قال لي أبوالحسن عليه السلام: الشيعة تربي بالأماني منذ مائتي سنة.
و قال يقطين لابنه علي بن يقطين: ما بالنا قيل لنا فكان، و قيل لكم فلم يكن؟!.
فقال له علي: ان الذي قيل لنا ولكم من مخرج واحد، غير أن أمركم حضر فأعطيتم محضه فكان كما قيل لكم، و أن أمرنا لم يحضر، فعللنا بالأماني. فلو قيل لنا: ان هذا الأمر لا يكون الا الي مائتي سنة، أو ثلاثمائة سنة، لقست القلوب، و لرجع عامة الناس عن الاسلام. ولكن قالوا- أي الأئمة عليهم السلام -: ما أسرعه و ما أقربه تألفا لقلوب الناس، و تقريبا للفرج» [18] .
و علي بن يقطين كان شيعيا كما هو معلوم، و أبوه لم يكن كذلك.
و لذلك قال له: كان أمرنا و حكمنا، و تأخر أمركم فلم يكن. فبين له ابنه كيف يثبت علي الأمر و علي الحق الممحصون خاصة، و كيف يتعلل به المؤمنون عامة، ثم لا تمضي السنون الا و قد جاء أمر ربك و وقع الفرج المنتظر، و جاء الحكم الذي يملأ الأرض قسطا و عدلا علي يد ثاني عشر الأئمة عجل الله تعالي فرجه... فاليقطيني كان عباسي الهوي، في حين كان ابنه علويا مواليا شديد الولاء، و قد أجابه بما أجاب به بعض أئمتنا عليهم السلام حرفا بحرف. و أمر العباسيين كان كما وعد رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم، و أمر الهاشميين مؤجل الي آخر الزمان كما وعد صلوات الله و سلامه عليه و علي أهل بيته الأطهار.
قال محمد بن عبيدة:
[ صفحه 308]
«قال لي أبوالحسن عليه السلام: يا محمد؛ أنتم أشد تقليدا أم المرجئة؟.
قلت: قلدنا، و قلدوا.
فقال: لم أسألك عن هذا؟.
فلم يكن عندي جواب أكثر من الجواب الأول.
فقال أبوالحسن عليه السلام: ان المرجئة نصبت رجلا لم تفرض طاعته و قلدوه.
و أنتم نصبتم رجلا و فرضتم طاعته، ثم لم تقلدوه. فهم أشد منكم تقليدا» [19] .
ذاك أن هؤلاء نصبوا عباسيا لولاية أميرالمؤمنين، و بايعوه علي ذلك، من دون أن يقلدوه أو يعملوا بعمله، لأنهم لا يعتبرونه امام حق، بل واليا زمنيا، فكانوا علي عكس المرجئة الذين ينصبون رجلا لم تفرض طاعته و يقلدونه و يعملون بأوامره و نواهيه.
و في مجال التعامل بالمال و التجارة، تكلم امامنا عليه السلام كثيرا، و لا يسعنا نقل جميع أخباره في الموضوع و لا في غيره، لأن ذلك يقتضي دورة فقهية كاملة الي جانب كثير من الأخلاقيات و الاجتماعيات و غيرها. ولكننا سنذكر نموذجا من فتاواه سلام الله عليه في بعض المواضيع المالية؛ فقد قال اسحاق بن عمار:
«سألته عن الرجل يكون له مع الرجل مال قرضا، فيعطيه من ربحه مخافة أن يقطع ذلك عنه فيأخذ ماله، من غير أن يكون شرط عليه؟.
[ صفحه 309]
قال: لا بأس به، ما لم يكن شرطا» [20] .
و فتواه تبعد شيعته عن الربا الذي غرق فيه الناس اليوم الي شحوم آذانهم...
و لاصلاح حال التجار قال عليه السلام:
«ثلاثة لا ينظر الله اليهم يوم القيامة: أحدهم اتخذ الله بضاعة، لا يبيع الا بيمين، و لا يشتري الا بيمين» [21] .
ثم قال عليه السلام:
«ان البيع في الظلال غش، و ان الغش لا يحل» [22] .
و هذا من أعظم الحث علي الأمانة في التجارة، لأن الظل يخفي كثيرا من عيوب المعروضات للبيع.
و في الصحيح عنه عليه السلام: «أنه سئل عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبة فراء لا يدري أذكية هي أم غير ذكية. أيصلي فيها؟.
قال: ليس عليهم المسألة. ان أباجعفر عليه السلام كان يقول: ان الخوارج ضيقوا علي أنفسهم بجهالتهم. و ان الدين أوسع من ذلك» [23] .
و هذا منتهي التوسعة علي الناس، فقد قال النبي صلي الله عليه و اله و سلم: جئتكم بالشريعة السهلة السمحة.
و قال أخوه الثقة الجليل علي بن جعفر:
[ صفحه 310]
«سألته عن الرجل يأكل من مال ولده؟.
قال: لا، الا أن يضطر اليه فيأكل بالمعروف. و لا يصلح للولد أن يأخذ من مال والده شيئا، الا باذن والده» [24] .
فما من باب تهذيب خلقي فيه حكم شرعي أو انساني - اجتماعي الا و كان الأئمة عليهم السلام يطرقونه و ينبهون شيعتهم اليه.
قال علي بن يقطين: «سألت أباالحسن عليه السلام يمر بالثمرة من الزرع و النخل و الكرم و الشجر و المباطح و غير ذلك من الثمر، أيحل له أن يتناول منه شيئا و يأكل بغير اذن من صاحبه؟. و كيف حاله ان نهاه صاحب الثمرة أو أمره القيم، فليس له؟. و كم الحد الذي يسعه أن يتناول منه؟.
قال: لا يحل له أن يأخذ منه شيئا» [25] .
و قد قال الشيخ في التهذيب: قوله عليه السلام: لا يحل له أن يأخذ منه شيئا، محمول علي ما يحمله معه. فأما ما يأكله في الحال من الثمرة فمباح. و هذا هو الواقع، فقد نبه الامام عليه السلام الي ما يحمل، لا الي ما يؤكل.
و قال عليه السلام: «قال عيسي عليه السلام: ان صاحب الشر يعدي، و قرين السوء يردي، فانظر من يقارون» [26] .
و اذا لم يحسن المرء اختيار قرينه، فانه يرتكب خطأ بحق نفسه... فكل قرين بالمقارون يقتدي. ففي الكافي، عن الجعفري، قال: «سمعت أباالحسن عليه السلام يقول:
[ صفحه 311]
مالي رأيتك عند عبد الرحمن بن يعقوب؟.
فقال: انه خالي.
فقال: انه يقول في الله قولا عظيما، يصف الله و لا يوصف!. فاما جلست معه و تركتنا، و اما جلست معنا و تركته.
فقلت: هو يقول ما شاء. أي شي ء علي منه اذا لم أقل ما يقول؟.
فقال أبوالحسن عليه السلام: أما تخاف أن تنزل به نقمة فتصيبكم جميعا؟!. أما علمت بالذي كان من أحد أصحاب موسي عليه السلام، و كان أبوه من أصحاب فرعون، فلما لحقت خيل فرعون موسي، تخلف عنهم ليعظ أباه فيلحقه بموسي، فمضي أبوه و هو يراغمه - يعارضه و يبطل حجته - حتي بلغا طرفا من البحر فغرقا جميعا. و أتي موسي عليه السلام الخبر، فقال: هو في رحمة الله، ولكن النقمة اذا نزلت لم يكن لها عمن قارب المذنب دفاع» [27] .
فالتأديب عندهم صلوات الله عليهم يتناول كل ناحية من نواحي حياة الانسان، لأنه يرمي الي صفاء السيرة و تصفية السريرة، بتجنب عشراء السوء ولو كانوا من أقرب الأقرباء.
قال معتب: «كان أبوالحسن عليه السلام يأمرنا اذا أدركت الثمرة أن تخرجها و نبيعها، و نشتري مع المسلمين يوما بيوم» [28] .
و ذلك من أجل أن يتساوي الناس في مأكلهم و مشربهم، و بمثل هذه الطريقة الفذة كان عليه السلام - يربي شيعته و مواليه علي عدم الاحتكار و الطمع في غلو الأسعار بعد أن تقل الثمار. فهل للمحتكرين آذان يسمعون بها
[ صفحه 312]
و يعودون عن الجشع و التجارة بأرزاق العباد للغني بخراب البلاد و انتزاع اللقمة من أفواه المساكين؟!.
قال عبدالله بن مصعب الزبيري:
سمعت أباالحسن، موسي بن جعفر عليه السلام، و جلسنا اليه في مسجد رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم، فتذاكرنا أمر النساء فأكثرنا الخوض و هو ساكت لا يدخل في حديثنا بحرف. فلما سكتنا قال:
أما الحرائر فلا تذكروهن، ولكن خير الجواري ما كان لك فيها هوي، و كان لها عقل و أدب، فلست تحتاج الي أن تأمر و تنهي.
ودون ذلك ما كان لك فيها هوي، و ليس لها عقل و أدب، فأنت تحتاج الي الأمر و النهي.
و دونها ما كان لك فيها هوي، وليس لها عقل و لا أدب، فتصبر عليها لمكان هواك فيها.
و جارية ليس لك فيها هوي، ليس لها عقل و لا أدب، فتجعل فيما بينك و بينها البحر الأخضر.
قال عبدالله: فأخذت بلحيتي أريد أن أبصق فيها لكثرة خوضنا بما لم نقم فيه علي شي ء، ولجمعه الكلام.
فقال: مه، ان فعلت لم أجالسك» [29] .
فما أدق التعبير في هذا التقرير عن الأنواع الأربعة من الجواري!. فانه لا يمكن أن يزاد فيه حرف و لا ينقص منه حرف، لبلاغته و صدقه و حسن سبكه.
[ صفحه 313]
و قد قال الحسن بن الجهم:
«دخلت علي أبي الحسن موسي بن جعفر عليه السلام، و قد اختضب بالسواد. فقلت: أراك قد اختضبت بالسواد؟.
فقال: ان في الخضاب أجرا. و الخضاب و التهيئة مما يزيد الله عزوجل في عفة النساء. و لقد ترك نساء العفة بترك أزواجهن لهن التهيئة» [30] .
فكما أن الرجل يحب أن يري زوجته مرتبة مهيأة و في أحسن حال، فكذلك هذه الزوجة تحب أن تري زوجها نظيفا مرتبا مهيأ و لا تمجه نفسها و ترغب في غيره.
و قد علم شيعته علي الالتزام التام بقضايا الحلال و الحرام، و ضرب لهم أمثلة حسية، منها قوله الذي رواه ابراهيم بن أبي البلاد الذي قال:
«أوصي اسحاق بن عمر عند وفاته بجوار له مغنيات، أن يبعن و يحمل ثمنهن الي أبي الحسن عليه السلام.
قال ابراهيم: فبعت الجواري بثلاثمائة ألف درهم، و حملت الثمن اليه، فقلت: ان مولي لك يقال له اسحاق بن عمر، قد أوصي عند وفاته ببيع جوار له مغنيات، و حمل الثمن اليك. و قد فعلت و بعتهن، و هذا الثمن ثلاثمائة ألف درهم.
فقال: لا حاجة لي فيه. ان هذا سحت. و تعليمهن كفر، و الاستماع منهن نفاق، و ثمنهن سحت» [31] .
[ صفحه 314]
و في قوله الشريف هذا، انذار لشيعته بالامتناع عن استماع الغناء، و عن تعلمه و تعليمه و أجرته التي هي سحت و حرام...
و عنا لأمر شبابنا و شاباتنا، الذين أصبحوا من هواه الغناء و اعتلاء خشبات المسرح لرفع أصواتهم بما يرضي الشيطان و يغضب الرحمان.
و كذلك روي عبد الحميد بن سعيد مايلي:
«بعث أبوالحسن عليه السلام غلاما يشتري له بيضا. فأخذ الغلام بيضة أو بيضتين، فقامر بها.
فلما أتي به أكله. فقال له مولي له: ان فيه من القمار.
قال: فدعا بطشت فقاءه، فتقيأه» [32] .
و أنا علي يقين بأن الامام عليه السلام لم تخف عليه لعبة الغلام الذي قامر بالبيضة، و لا كون البيض الذي جاء به قد اختلط بالحرام، بل فعل ما فعل و عاد ليتقيأه أمام خدمه لينقلوا لشيعته هذه الحادثة فيتخذها الشيعة دستورا لحياتهم في ممارسة الحلال و الحرام، و ليروا أن المتدين الملتزم يلفظ الحرام و لو كان في فمه أو بين أحشائه، لئلا يفعل ما يتنافي مع التزامه بأوامر الله تعالي و نواهيه.
و قال موسي بن بكر: «كنا عند أبي الحسن عليه السلام، فاذا دنانير مصبوبة بين يديه؛ فنظر الي دينار فأخذه بيده ثم فلقه نصفين ثم قال لي: ألقه في البالوعة حتي لا يباع شي ء فيه غش» [33] .
[ صفحه 315]
فقد عرف الدينار المغشوش و أتلفه بيده لئلا يبقي المغشوش بين أيدي الناس.
و روي عن هشام بن الحكم أنه قال:
«رأيت موسي بن جعفر عليه السلام، يعزي قبل الدفن و بعده» [34] .
و هذا من أدبه الرفيع الذي أدب الله تعالي به رسوله صلي الله عليه و اله و سلم، فقد حثنا علي ذلك بقوله:
«من عزي حزينا، كسي في الموقف حلة يحبر بها» [35] .
و نحن ان عزينا حزينا فانما نعزيه لرفع الملاحظة عنا، و لا يخطر في بالنا هذا المعني الرفيع من كرم الله تبارك و تعالي الذي يأجر علي مثقال الذرة، و ننسي أن تعزية المحزون تجبر خاطرة، و تخفف من مصابه.
و في الصحيح عن معمر بن خلاد، قال:
«سألت أباالحسن عليه السلام عن القيام للولاة؟.
فقال: قال أبوجعفر عليه السلام - أي جده -: التقية ديني و دين آبائي، و لا ايمان لمن لا تقية له» [36] .
و التقية ليست تدليسا كما يظن الجهال، بل هي احترام آراء الغير، و احترام المرء لنفسه. و لولا التقية لتنافرت القلوب، و حصلت الفرقة، و هذا ما لا يقره الاسلام و لا يدعو له.
[ صفحه 316]
و قد قال امامنا عليه السلام: «ان كان في يدك هذه شي ء، فان استطعت أن لا تعلم هذه، فافعل.
و كان عنده انسان فتذاكروا الاذاعة فقال: احفظ لسانك تعز، و لا تمكن الناس من قياد رقبتك فتذل» [37] .
فهو صلوات الله عليه يأمر بالتكتم فيما لا تنبغي معرفته، لأن اعلان الشي ء غير المرغوب فيه يجلب الخصومة و يؤدي الي الفتنة.
«قال اسحاق بن جعفر: سألت أخي موسي بن جعفر، فقلت: أصلحك الله، أيكون المؤمن بخيلا؟.
قال: نعم.
قلت: أيكون جبانا؟.
قال: نعم.
قلت: أفيكون خائنا؟.
قال: لا، ولا يكون كذابا، ثم قال: حدثني أبي جعفر بن محمد، عن آبائه، عن أبيه علي بن أبي طالب عليهم السلام، قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم يقول: علي كل خلة يطوي المؤمن، ليس الخيانة والكذب» [38] أي أنه يتصف بكل صفة - حسنة كانت أو قبيحة - الا الخيانة والكذب فان المؤمن لا يتصف بهما و لا يرتضيهما لنفسه.
[ صفحه 317]
روي سماعة بن مهران أنه قال له عليه السلام:
«أصلحك الله، انا نجتمع فنتذاكر ما عندنا، فلا يرد علينا شي ء الا و عندنا فيه شي ء مسطر - أي مكتوب و مروي عنكم - و ذلك مما أنعم الله علينا بكم. ثم يرد علينا الشي ء الصغير ليس عندنا فيه شي ء، فينظر بعضنا الي بعض. و عندنا ما يشبهه، فنقيس علي أحسنه؟.
فقال: و ما لكم و للقياس؟!. انما هلك من هلك من قبلكم بالقياس. اذا جاءكم ما تعلمون فقولوا به، و ان جاءكم ما لا تعلمون فها - و أهوي بيده الي فيه - لعن [الله] من يقول: قال علي و قلت، و قالت الصحابة و قلت.
فقلت: أصلحك الله، أتي رسول الله الناس بما يكتفون به في عهده؟.
قال: نعم، و ما يحتاجون اليه الي يوم القيامة.
فقلت: فضاع من ذلك شي ء؟.
فقال: لا، هو عند أهله» [39] .
أجل، ان ذلك كله عند ورثة الكتاب، و هم الأئمة الطاهرون الذين أخذ آخرهم عن أولهم، عن أميرالمؤمنين عليه السلام، عن جدهم رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم، عن الله عزوجل؛ و يكفي بهذه السلسلة الذهبية سندا شريفا.
و كذلك قد جاء عن سماعة بن مهران قوله:
«قلت له: أكل شي ء في كتاب الله و سنة نبيه صلي الله عليه و اله و سلم أو تقولون فيه؟.
[ صفحه 318]
قال: بل كل شي ء في كتاب الله و سنة نبيه صلي الله عليه و اله و سلم» [40] .
نعم... ولكن هات من يعرف كتاب الله و سنة النبي صلي الله عليه و اله و سلم معرفة حقة سوي الأئمة من أهل البيت صلوات الله عليهم، لأنهم هم الراسخون في العلم.
[ صفحه 319]
پاورقي
[1] المحجة البيضاء ج 4 ص 356 و الكافي م 2 ص 79.
[2] بصائر الدرجات ج 1 ص 17.
[3] المحجة البيضاء ج 4 ص 268-267 و الكافي م 2 ص 245.
[4] معاني الأخبار ص 158.
[5] المصدر السابق ص 403.
[6] الاختصاص ص 243.
[7] الأنوار البهية ص 185.
[8] الكافي م 1 ص 39.
[9] التوحيد ص 460.
[10] الاحتجاج ج 2 ص 395.
[11] الكافي م 1 ص 30 و ص 32.
[12] الكافي م 1 ص 30 و ص 32.
[13] المحجة البيضاء ج 4 ص 103 نقلا عن الكافي م 1 ص 56 رقم 3.
[14] الكافي م 1 ص 38.
[15] المحجة البيضاء ج 3 ص 419 نقلا عن كتاب من لا يحضره الفقيه ص 47.
[16] المحجة البيضاء ج 3 ص 381.
[17] المحجة البيضاء ج 3 ص 389.
[18] الكافي م 1 ص 369.
[19] الكافي م 1 ص 53.
[20] المحجة البيضاء ج 3 ص 161 نقلا عن من لايحضره الفقيه ص 386 رقم 37، و هو مكرر في التهذيب، و في الوسائل و غيرها.
[21] المحجة البيضاء ج 3 ص 174 و ص 175.
[22] المصدر السابق.
[23] المصدر السابق ص 232-231.
[24] المصدر السابق ص 279 نقلا عن الكافي.
[25] المحجة البيضاء ج 3 ص 281 نقلا عن التهذيب ج 2 ص 143.
[26] المصدر السابق ص 311 نقلا عن الكافي ج 2 ص 640.
[27] المحجة البيضاء ج 3 ص 313 و حلية الأبرار ج 2 ص 278-277.
[28] حلية الأبرار ج 2 ص 281.
[29] حلية الأبرار ج 2 ص 279-278.
[30] المصدر السابق ص 286.
[31] حلية الأبرار ج 2 ص 280-279.
[32] المصدر السابق ص 280.
[33] المصدر السابق نفس الصفحة.
[34] المحجة البيضاء ج 3 ص 415 نقلا عن كتاب من لا يحضره الفقيه ص 45.
[35] المصدر السابق.
[36] المصدر السابق ص 399 نقلا عن الكافي م 2 ص 219.
[37] المصدر السابق ص 402- 401 عن الكافي م 2 ص 226.
[38] كشف الغمة ج 3 ص 7 و 8.
[39] الكافي م 1 ص 57 و ص 62.
[40] المصدر السابق.