بازگشت

عبادته و كرمه


قال الشيخ المفيد رحمه الله: «كان أبوالحسن، موسي عليه السلام، أعبد أهل زمانه، و أفقههم، و أسخاهم كفا، و أكرمهم نفسا.

و روي أنه كان يصلي نوافل الليل و يصلها بصلاة الصبح، ثم يعقب حتي تطلع الشمس، و يخر لله ساجدا، فلا يرفع رأسه من الدعاء و التحميد حتي يقرب زوال الشمس - ظهرا - و كان يدعو كثيرا، و يقول: اللهم اني أسألك الراحة بعد الموت، و العفو عند الحساب، و يكثر ذلك.

و كان من دعائه عليه السلام: عظم الذنب من عبدك، فليحسن العفو من عندك.

و كان يبكي من خشية الله حتي تخضل لحيته بالدموع - أي تبتل -.

و كان أوصل الناس لأهله و رحمه.

و كان يتفقد فقراء المدينة في الليل، فيحمل اليهم الزنبيل: فيه العين - أي مواد الغذاء و الألبسة - و الورق - يعني النقد - و الدقيق و التمر، فيوصل اليهم ذلك و لا يعلمون من أي جهة هو» [1] .



[ صفحه 90]



و قال رحمه الله أيضا: و قد روي الناس عن أبي الحسن، موسي عليه السلام، فأكثروا. و كان أفضل أهل زمانه، و أحفظهم لكتاب الله، و أحسنهم صوتا بالقرآن؛ و كان اذا قرأ يحزن، ويبكي، ويبكي السامعون لتلاوته. و كان الناس بالمدينة يسمونه زين المتهجدين، و سمي بالكاظم لما كظمه من الغيظ و صبر عليه من فعل الظالمين به، حتي مضي قتيلا في حبسهم و وثاقهم». [2] .

و وصفه حفص في حديث طويل قال في آخره:

«فما رأيت أحدا أشد خوفا علي نفسه من موسي بن جعفر، و لا أرجي للناس منه؛ و كانت قراءته حزنا، فاذا قرأ فكأنه يخاطب انسانا». [3] .

و قد كان عليه السلام حسن الصوت، و حسن القراءة. قال يوما من الأيام: ان علي بن الحسين عليه السلام، كان يقرأ القرآن، فربما مر المار فصعق من حسن صوته!. و ان الامام لو أظهر من ذلك شيئا لما احتمله الناس.

و قيل له: ألم يكن رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم يصلي بالناس و يرفع صوته بالقرآن؟.

فقال: ان رسول الله كان يحمل من خلفه ما يطيقون». [4] .

«و قال بعض عيونه - من الذين كانوا يراقبونه في السجون -: كنت



[ صفحه 91]



أسمعه كثيرا يقول في دعائه: «اللهم اني كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك، اللهم و قد فعلت، فلك الحمد» [5] .

و امامنا - و كل امام من سلفه و خلفه عليهم السلام جميعا - معصوم عن الذنوب قطعا، و بعيد عن ارتكاب المعاصي صغيرها و كبيرها، و لا يفعل خلاف الأولي و الأحسن، ولكنه قيل: ان حسنات الأبرار سيئات المقربين، فهو يعتبر أن تركه للأولي و المستحب ذنبا عظيما في جنب عظمة الله عزوجل؛ و هذا الذي كان يصدر عنه و عن الأئمة عليهم السلام من التواضع في الدعاء و التذلل في الاستغفار، و الخوف من العقاب، ان هو الا تعليم لنا، و تأديب بأدب الخضوع و الخشوع بين يدي الخالق العظيم عز و علا.

و قد روي أنه دخل مسجد رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم، فسجد سجدة في أول الليل فسمع و هو يقول: عظم الذنب من عبدك، فليحسن العفو من عندك، يا أهل التقوي، و يا أهل المغفرة... فجعل يرددها حتي أصبح». [6] .

و قال بعض أصحابنا: «كان أبوالحسن عليه السلام: اذا رفع رأسه من آخر ركعة الوتر قال: هذا مقام من حسناته نعمة منك، و شكره ضعيف، و ذنبه عظيم، و ليس لذلك الا رفقك و رحمتك، فانك قلت في كتابك المنزل علي نبيك المرسل:(كانوا قليلا من اليل ما يهجعون (17) و بالأسحار هم يستغفرون (18)) [7] .

طال هجوعي، و قل قيامي، و هذا السحر و أنا أستغفرك لذنبي استغفار من لا يملك لنفسه ضرا و لا نفعا، و لا موتا و لا حياة و لا نشورا... ثم يخر ساجدا صلوات الله عليه» [8] .



[ صفحه 92]



فهل ذلك الاستغفار كان من ذنب جناه؟.

لا، ولكنه يزيد في درجاته العليا في الآخرة، و يكون لنا مثلا يحتذي في أدبنا التعبدي.

و روي محمد بن سليمان ما سمعه عن أبيه، فقال:

«خرجنا مع أبي الحسن، موسي بن جعفر عليه السلام الي بعض أمواله - أي ممتلكاته - فقام الي صلاة الظهر. فلما فرغ خر لله ساجدا، فسمعته يقول بصوت حزين و تغرغر دموعه: عصيتك بلساني و لو شئت و عزتك لأخرستني، و عصيتك ببصري و لو شئت و عزتك لأكمهتني - أي أعميتني - و عصيتك بسمعي و لو شئت و عزتك لأصممتني - أي جعلتني أصم، لا أسمع - و عصيتك بيدي و لو شئت و عزتك لكنعتني - أي لكسرت يدي، أو شللتها- و عصيتك برجلي ولو شئت و عزتك لجذمتني - أي ابتليتني بالجذام - و عصيتك بفرجي و لو شئت و عزتك لأعقمتني - أي جعلتني عقيما - و عصيتك بجميع جوارحي التي أنعمت بها علي، و ليس هذا جزاؤك مني» [9] .

«قال: ثم أحصيت له ألف مرة و هو يقول: العفو العفو! ثم ألصق خده الأيمن بالأرض فسمعته يقول بصوت حزين: بؤت اليك بذنبي، عملت سوءا و ظلمت نفسي، فاغفر لي فانه لا يغفر الذنوب غيرك يا مولاي - ثلاث مرات -. ثم ألصق خده الأيسر بالأرض و هو يقول: ارحم من أساء و اقترف، و استكان و اعترف - ثلاث مرات -. ثم رفع رأسه» [10] .



[ صفحه 93]



و من مظاهر خضوعه بين يدي الله تعالي نورد ما رواه محمد بن اسماعيل بن بزيع الذي قال:

«رأيت أباالحسن عليه السلام ركع ركوعا أخفض من ركوع كل من رأيته يركع، فكان اذا ركع جنح بيديه» [11] .

و هذا من زيادة الخضوع لله عزت قدرته. ثم قال الراوي نفسه:

«رأيت أباالحسن عليه السلام اذا سجد يحرك ثلاث أصابع من أصابعه، واحدة بعد واحدة، تحريكا خفيفا كأنه يعد التسبيح، ثم رفع رأسه» [12] .

و مما يظهر شدة تواضعه و تذلله أمام خالقه ما رواه جعفر بن علي الذي قال:

«رأيت أباالحسن عليه السلام، و قد سجد بعد الصلاة، فبسط ذراعيه علي الأرض، و ألصق جؤجؤه - أي صدره - بالأرض في دعائه» [13] .

فهو عبد داخر لله عزوجل، تصله بالسماء تأملات، و تشده الي ربه لحظات لا سبيل لنا الي تصورها و التعبير عنها، لأنها من سمات الأصفياء الذين تفني ذواتهم اذا وقفوا بين يدي بارئهم و تصوروا قدرته في خلوات لهم، و تستعصي علينا الألفاظ و التعابير اذا شئنا تقريبها الي الأذهان.

و قد روي علي بن جعفر أن أخاه الامام موسي بن جعفر عليه السلام، قال:

«ألتبتل أن تقلب كفيك في الدعاء اذا دعوت.



[ صفحه 94]



و الابتهال أن تبسطهما، و تقدمهما.

و الرغبة أن تستقبل براحتيك السماء، و تستقبل بهما وجهك.

و التضرع أن تحرك اصبعيك و تشير بهما.

و في حديث آخر: البصبصة أن ترفع سبابتيك الي السماء و تحركهما، و تدعو». [14] .

فهل يتيسر تحديد هذه المواقف من الخشوع لرب الأرباب، الا لمن مارسها و دأب عليها، و أدرك الفروقات الدقيقة بينها؟.

لا، و أيم الحق... و لقد قال هشام بن أحمر - أحمد-:

«كنت أسير مع أبي الحسن عليه السلام في بعض أطراف المدينة، اذ ثني رجله من دابته فخر ساجدا، و أطال و أطال!.

ثم رفع رأسه، و ركب دابته؛ فقلت: جعلت فداك، قد أطلت السجود!.

فقال: اني ذكرت نعمة أنهم الله بها علي، فأحببت أن أشكر ربي». [15] .

(... و قليل من عبادي الشكور (13)) [16] يا سيدي، كما قال ربك... ولكنكم أنتم علي رأس لائحة الشاكرين لأنعم الله تبارك و تعالي؛ و نحن نشكر الله سبحانه أن من علينا بتوليكم و الائتمار بأمركم.

و لقد قيل عن هذا الامام العظيم:«و كان عليه السلام يقول: اني أستغفرالله في كل يوم خمسة آلاف مرة» [17] .



[ صفحه 95]



فنسأل المولي القدير أن يغفر لنا - بحقه - ما تقدم من ذنوبنا و ما تأخر.

و لن ننسي أن ننقل للقاري ء الكريم وصفه علي لسان عدوه اللدود و عدو بني علي جميعا، و هو المأمون العباسي الذي وصفه حين ذكر وروده علي أبيه هارون الرشيد، فقال:

«رأيت موسي بن جعفر، دخل علي أبي بالمدينة، اذ هو شيخ مسجد - أي له سجادة بين عينيه من أثر سجوده الطويل - قد أنهكته العبادة و كأنه شن بال، قد كلم السجود وجهه و أنفه - أي جرحهما-» [18] .

ثم روي عن الفضل بن الربيع الذي تولي سجنه في بيته مدة طويلة، أنه قال:

«أرسلني الرشيد الي موسي بن جعفر عليه السلام فقلت لغلامه: استأذن لي الي مولاك يرحمك الله.

فقال لي: لج - أي ادخل - ليس له حاجب و لا بواب.

فولجت اليه فاذا بغلام أسود بيده مقص، يأخذ اللحم من جبينه و عرنين أنفه من كثرة سجوده». [19] .

فمثل هذا العابد الزاهد يخاصم يا مأمون؛ قلها لأبيك هارون، و قل لمن سبقه و من لحقه: اذا وقفتم بين يدي الله بماذا تجيبون؟!.

هذا، و قد «روي أنه توفي - صلوات الله عليه - في حال سجوده لله تعالي» [20] .



[ صفحه 96]



و كفي بذلك استكانه و تواضعا لله عزوجل.

و روي الصدوق، ورواه ابن بابويه في عيون الأخبار، أن الثوباني قال: «انه كانت لأبي الحسن، موسي بن جعفر - عليه السلام - بضع عشرة سنة كل يوم سجدة بعد ابيضاض الشمس الي نصف الزوال.

قال: فكان هارون ربما صعد سطحا يشرف منه علي الحبس الذي حبس فيه أباالحسن - عليه السلام - فكان يري أباالحسن - عليه السلام - ساجدا، فقال للربيع:

ما ذاك الثوب الذي أراه كل يوم في ذلك الموضع؟.

قال: يا أميرالمؤمنين، ما ذاك بثوب، و انما هو موسي بن جعفر، له كل يوم سجدة بعد طلوع الشمس الي وقت الزوال.

فقال له هارون: أما ان هذا من رهبان بني هاشم!أ

قلت: فما بالك قد ضيقت عليه في الحبس؟!.

قال: هيهات... لابد من ذلك» [21] .

و أنا أقول لهذا الخليفة الظالم: (هيهات هيهات لما توعدون (36)) [22] .

من عذاب الله الأليم، بعد الوقوف بعد يدي الحاكم العادل أمام رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم!.

فان هذا الخصم سيرديك في النار خالدا مخلدا.



[ صفحه 97]



قد قلت: «لا بد من ذلك»... و يقول لك: لا بد لك من ندم و حسرة... ولات ساعة مندم!.

و أنت من خلفاء ما كان ينقصهم الفهم، و لا غاب عن علمهم أنهم يفتكون، بآل الله و رسوله، الذين هم أبناء عمومتهم من جهة، و أعظم أهل عصورهم عندالله تعالي من جهة ثانية...

فيا ويلكم!.... وانتظروا (يوما يجعل الولدان شيبا (17)) [23] .

أما سجود الامام عليه السلام، فقد كان مضرب المثل عند الخاص و العام، حتي أن ذلك الخليفة التعيس سماه من رهبان بني هاشم، و مع ذلك رأي أنه لابد من التضييق عليه ليستقيم له الحكم بغير ما أنزل الله!.

و رويت القصة السابقة عن علي بن ابراهيم عن اليقطيني، عن أحمد بن عبدالله القزويني، عن أبيه، - هكذا - قال:

«دخلت علي الفضل بن الربيع و هو جالس علي سطح، فقال لي: أدن مني.

فدنوت حتي حاذيته، ثم قال لي: أشرف الي البيت في الدار.

فأشرفت، فقال: ما تري في البيت؟.

قلت: ثوبا مطروحا.

فقال: أنظر حسنا.

فتأملت و نظرت، فتبينت، فقلت: رجل ساجد.

فقال لي: تعرفه؟.



[ صفحه 98]



قلت: لا.

قال: هذا مولاك... تتجاهل علي؟!.

فقلت: ما أتجاهل، ولكني لا أعرف لي مولي.

فقال: هذا أبوالحسن، موسي بن جعفر - عليه السلام - اني أتفقده في الليل و النهار، فلم أجده في وقت من الأوقات الا علي الحال التي أخبرك بها.

انه يصلي الفجر، فيقف ساعة في دبر صلاته الي أن تطلع الشمس، ثم يسجد سجدة فلا يزال ساجدا حتي تزول الشمس. و قد و كل من يترصد له الزوال. فلست أدري متي يقول الغلام: قد زالت الشمس، اذ يثب فيبتدي ءبالصلاة من غير أن يجدد وضوءه، فأعلم أنه لم ينم في سجوده و لا أغفي، فلا يزال كذلك حتي يفرغ من صلاة العصر. فاذا صلي العصر سجد سجدة فلا يزال ساجدا الي أن تغيب الشمس. فاذا غابت الشمس و ثب من سجدته فصلي المغرب من غير أن يحدث حدثا، و لا يزال في صلاته و تعقيبه الي أن يصلي العتمة - أي صلاة العشاء - فاذا صلي العتمة أفطر علي شوي يؤتي به، ثم يجدد الوضوء، ثم يسجد، ثم يرفع رأسه فينام نومة خفيفة، ثم يقوم فيجدد الوضوء، ثم يقوم فلا يزال يصلي في جوف الليل حتي يطلع الفجر!.

فلا أدري متي يقول الغلام: ان الفجر قد طلع، اذ قد وثب هو لصلاة الفجر... فهذا دابه منذ حول الي!.

[و زاد في حلية الأبرار]:

فقلت له: اتق الله، و لا تحدث في أمره حدثا يكون فيه زوال النعمة فقد تعلم أنه لم يفعل أحد بأحد منهم سوءا، الا كانت نعمته زائلة.

فقال: قد أرسلوا الي في غير مرة يأمروني بقتله، فلم أجبهم الي ذلك،



[ صفحه 99]



و أعلمتهم أني لا أفعل ذلك، و لو قتلوني ما أجبتهم الي ما سألوني» [24] .

و أمام هذه الصورة الشمسية يقف المرء متعجبا من جلد هذا السيد الكبير علي التعبد ليل نهار، دون ملل و لا فتور، الي جانب صيامه و قلة نومه و اخلاده الي الراحة.

أما كرم بني هاشم فهو مضرب المثل حتي أيامنا هذه. و قد أطنب التاريخ في الحديث عن نداوة أكفهم، و ذكر ما يكاد لا يصدقه الانسان.

لقد كانوا يعطون أكثر مما ينتظر منهم المؤملون، و لا يفضلون بذلك. وليا علي عدو، بل كان خيرهم مبذولا لجميع أصحاب الحاجات بدون تمايز و لا تمييز.

و امامنا الكاظم عليه السلام كان من أسخي أسخيائهم، فقد كان يعطي كل محتاج و يعم بره القاصي و الداني، فتحدث بعطائه الناس و تعجبوا من عطائه و بذله. فمن المشهور عنه أنه كان يتفقد فقراء المدينة في كل ليلة كما ذكرنا، و كان يصل بالمائة دينار، و بالمائتي دينار، و بالثلاثمائة دينار، و كانت صرار موسي مثلا. [25] .

«و ذكر أنه عليه السلام بعث الي رجل يؤذيه صرة فيها ألف دينار». [26] .

و قال عنه الشيخ عباس القمي رحمه الله:



[ صفحه 100]



«و كان كريما، بهيا، فأعتق ألف مملوك». [27] .

و نحن في هذا الموضوع نورد للقاري ء بعض الحوادث التي ذكرها المؤرخون مع بخلهم العجيب بذكر شي ء يلفت النظر الي أهل هذا البيت الكريم صلوات الله و سلامه عليهم، مضافا الي ضغوظ السلاطين الظالمين الذي كانوا يهزون السوط لكل من يقول كلمة حق تعارض سلطتهم و جبروتهم.

في تفسير الامام أبي محمد العسكري عليه السلام، قال:

«و قد حضره - أي الكاظم عليه السلام - فقير مؤمن فسأله سد فاقته.

فضحك عليه السلام في وجهه و قال: أسألك مسألة، فان أصبتها أعطيتك عشرة أضعاف ما طلبت. و كان قد طلب منه مائة درهم يجعلها في بضاعة يتعيش بها.

فقال الرجل: سل.

فقال موسي - عليه السلام - لو جعل اليك التمني لنفسك في الدنيا، ماذا كنت تتمني؟.

قال: كنت أتمني أن أزرق التقية في ديني، و قضاء حقوق اخواني.

قال - عليه السلام -: و ما لك ما تسأل الولاية لنا أهل البيت؟.

قال: ذلك قد أعطيته، و هذا لم أعطة. فأنا أشكر علي ما أعطيت، و أسأل ربي ما منعت.

فقال: أحسنت. أعطوه ألفي درهم. و قال: اصرفها في كذا و كذا



[ صفحه 101]



- يعني العفص فانه متاع بائر، و سيقبل بعدما أدبر. فانتظر به سنة، و اختلف الي دارنا، و خذ الأجر في كل يوم.

ففعل. فلما تمت له سنة اذ قد زاد في ثمن العفص للواحد خمسة عشر.

فباع ما كان اشتري بألفي درهم بثلاثين ألف درهم. [28] .

و أنت يا قارئي العزيز تري أن لطفه مع هذا السائل الفقير كان أجمل من عطائه و قضاء حاجته. بل ان اقتراحه عليه بأن يشتري العفص و ينتظر به عاما لأنه سيرتفع ثمنه و يقبل بعد ما أدبر، لهو اقتراح عجيب اذا تأملت به مليا...

و اذا رأينا أن هذا الرجل الطامع بمائة درهم قد استفاد في سنة ثلاثين ألف درهم، مع الأجر الذي كان يأخذه من الامام عليه السلام لقاء اختلافه الي داره في كل يوم للقيام ببعض الخدمات، أقول: اذ رأينا ذلك لحق لنا أن نسأل: من أين أوتي الامام هذا العلم بارتفاع ثمن العفص بعد بواره؟!.

و حدث عيسي بن محمد بن مغيث القرطبي، فقال:

«زرعت بطيخا و قثاء و قرعا في موضع بالجوانية، علي بئر يقال لها: أم عظام. فلما قرب الخير و استوي الزرع، بيتني الجراد و أتي علي الزرع كله!. و كنت عزمت علي الزرع ثمن جملين و مائة و عشرين دينارا.

فبينا أنا جالس اذ طلع موسي بن جعفر بن محمد، فسلم علي ثم قال: أيش حالك؟. - مخفف: أي شي ء حالك؟ -.

قلت: أصبحت كالصريم. بيتني الجراد و أكل زرعي.



[ صفحه 102]



قال: كم عزمت.

قلت: مائة و عشرين دينارا مع ثمن جملين.

فقال: يا عرفة، ان لأبي الغيث مائة و خمسين دينارا. فربحك ثلاثون دينارا و الجملان.

فقلت: يا مبارك، ادع لي فيها بالبركة:

فدخل فدعا لي، وحدثني أن رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم قال: تمسكوا ببقاء المصايب. - أي تمسكوا بالله عند بقاء المصايب -.

ثم علقت عليه الجملين، و سقيته - أي الزرع - و جعل الله فيه البركة، و زكت فبعت منها بعشرة آلاف» [29] .

و هكذا فانه عليه السلام، دخل علي هذا الرجل بعد أن أكل الجراد ورق زرعه و أغصانه، فوجده حزينا لما حل بزرعه. ولكنه سرعان ما أعطاه و طيب خاطره، و أمره باعادة سقاية الزرع، و وعده بعودة نجاح زرعه من جديد، و وعده بالربح أيضا، و قدر له ذلك بحزم.

و حين طلب منه الرجل أن يدعوا له بالبركة في زرعه، فعل فزكت غلتها، و حصل منها علي ربح وفير بعد أن كان يائسا من أن يجني منها درهما واحدا.

و عن الشريف أبي محمد، الحسن بن محمد، عن جده، عن غير واحد من أصحابه قال:

«ان رجلا من ولد عمر بن الخطاب، كان في المدينة يؤذي أباالحسن، موسي عليه السلام، و يسبه اذ رآه، و يشتم عليا عليه السلام.



[ صفحه 103]



فقال له أصحابه: دعنا نقتل هذا الفاجر.

فنهاهم عن ذلك، و زجرهم أشد الزجر.

و سأل عن العمري، فقيل بأنه خرج الي زرع له.

فخرج اليه، و دخل المزرعة بحماره!. فصرح العمري: لا توطي ء زرعنا.

فتوطأه أبوالحسن عليه السلام بالحمار حتي وصل اليه. فنزل و جلس عنده، و باسطه و ضاحكه و قال: كم عزمت علي زرعك هذا؟.

فقال: مائتي دينار.

قال: فكم ترجوا أن يحصل منه؟.

قال: لست أعلم الغيب.

قال: انما قلت كم ترجوا أن يجيئك فيه؟.

قال: أرتجي فيه مائتي دينار.

فأخرج له أبوالحسن صرة فيها ثلاثمائة دينار، و قال: هذا زرعك علي حاله، و الله يرزقك ما ترجو.

فقام العمري فقبل رأسه، و سأله أن يصفح عن فارطه - أي ما سبق من السوء-.

فتبسم اليه أبوالحسن و انصرف.

و راح الي المسجد فرأي العمري جالسا. فلما نظر اليه قال: الله أعلم حيث يجعل رسالته.

فوثب اليه أصحابه فقالوا: ما قصتك؟. قد كنت تقول غير هذا!.

فقال لهم: قد سمعتم ما قلت الآن؛. و جعل يدعو لأبي الحسن عليه السلام، فخاصموه و خاصمهم.



[ صفحه 104]



فلما رجع أبوالحسن عليه السلام الي داره قال لأصحابه الذين أشاروا بقتل العمري: كيف رأيتم؟!. أصلحت أمره و كفيت شره». [30] .

فهذا هو ديدن أهل بيت الوحي صلوات الله عليهم مع القالي و الموالي. فلم يتصعنوا في تصرف، و لا داروا، و لا راءوا، و لا ماروا، و لا فعلوا شيئا الا في ضمن وظيفتهم الالهية التي كانوا بموجبها أفضل الناس و أكملهم. فان امامنا عليه السلام لم يبادل العمري شتما بشتم، و لا سبابا بسباب، بل أعطاه من لطفه و كرمه ما محي به الضغينة من قلبه، و جعله يعدل عما كان عليه من التعدي، و أصبح حسن الحال و امتنع عن أذية الامام بعد أن فهم حقيقة ما هو عليه من اللطف و العفو.

قال محمد بن عبدالله البكري: «قدمت المدينة أطلب دينا فأعياني. فقلت: لو ذهبت الي أبي الحسن، موسي عليه السلام، فشكوت اليه.

فأتيته بنقمي - موضع في ضاحية المدينة كن يملكه آل أبي طالب - في ضيعته.

فخرج الي و معه غلام، و معه نسف - غربال - فيه قديد مجزع - أي لحم مقطع مجفف - ليس معه غيره. فأكل و أكلت معه، و سألني عن حاجتي، فذكرت له قصتي.

فدخل و لم يقم الا يسيرا حتي خرج الي و قال لغلامه: اذهب. ثم مد



[ صفحه 105]



يده الي فدفع الي صرة فيها ثلاثمائة دينار، ثم قام فولي، فقمت فركبت دابتي و انصرفت» [31] .

فصلوات الله عليك يا سيدي ما أندي كفك، و ما أسعد من كان يتشرف برؤيتك، و يوفقه الله تعالي لخدمتك!.

و يلاحظ أنه لم يخجل الرجل، و لم يعطه الصرة أمام الغلام، بل أمره بالخروج قبل أن يناوله اياها، خلقا منه و حسن تصرف.

و عن معتب، قال: «كان أبوالحسن، موسي عليه السلام، بالحائط، يصرم النخل - فنظرت الي غلام له قد أخذ كارة من تمر - أي صرة - فرمي بها وراء الحائط. فأتيته، فأخذته و ذهبت به اليه فقلت له:

جعلت فداك، اني وجدت هذا و هذه الكارة.

فقال للغلام: فلان!.

قال: لبيك.

قال: أتجوع!.

قال: لا، يا سيدي.

قال: فتعري؟

قال: لا، يا سيدي.

قال: فلأي شي ء أخذت هذه؟!.

قال: اشتهيت ذلك.



[ صفحه 106]



قال: اذهب فهي لك... و قال: خلوا عنه». [32] .

و من المؤكد أنه لا ينتظر لهذا الغلام الا الاكرام، اذ لا يجري علي يد كاظم الغيط الا الاحسان لمن أساء اليه.

و عن بعض أصحابنا، قال: «أو لم أبوالحسن، موسي عليه السلام وليمة علي بعض ولده، فأطعم أهل المدينة ثلاثة أيام الفالوذجات في الجفان في المساجد و الأزقة. فعاتبه بذلك بعض أهل المدينة، فبلغه عليه السلام ذلك فقال:

ما آتي الله تعالي نبيا من أنبيائه شيئا الا و قد آتي محمدا صلي الله عليه و اله و سلم مثله وزاده ما لم يؤتهم. قال لسليمان عليه السلام: (هذا عطآؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب (39)) [33] و قال لمحمد صلي الله عليه و اله و سلم: (و ما ءاتكم الرسول فخذوه و ما نهاكم عنه فانتهوا) [34] .

طاش سهمك أيها العائب لأبناء رسول الله فهم لا يعابون علي بذل، و لا يلامون علي كرم، بل ان أعمالهم الخلقية مثل يحتذي عند أولي النهي؛ و لقد طهرهم رب الأرباب في أطهر كتاب، و من عابهم في قول أو فعل فقد دل علي جهله و غبائه و سوء اعتقاده بمحمد صلي الله عليه و اله و سلم و بأهل بيته الذين هم عيبة العلم و أولي الناس بمعرفة ما يجوز و ما لا يجوز.



[ صفحه 107]



و يحكي أن المنصور تقدم الي موسي بن جعفر في الجلوس للتهنئة في يوم النيروز و قبض ما يحمل اليه.

فقال عليه السلام: اني قد فتشت الأخبار عن جدي رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم، فلم أجد لهذا العيد خبرا، و انه سنة للفرس و محاها الاسلام.

فقال المنصور: انما نفعل هذا سياسة للجند، فسألتك بالله العظيم الا جلست.

فجلس و دخلت عليه الملوك و الأمراء و الأجناد يهنئونه و يحملون اليه الهدايا و التحف، و علي رأسه خادم المنصور يحصي ما يحمل. فدخل في آخر الناس شيخ كبير السن فقال له: يابن رسول الله، انني رجل صعلوك - أي فقير - لا مال لي، أتحفك بثلاثة أبيات قالها جدي في جدك الحسين بن علي عليه السلام:



عجبت لمصقول علاك فرنده

يوم الهياج، و قد علاك غبار [35] .



و لأسهم نفذتك دون حرائر

يدعون جدك، و الدموع غزار [36] .



ألا تقضقضت السهام، و دونها

عن جسمك الاجلال و الاكبار [37] .



قال [عليه السلام]: قبلت هديتك، اجلس، بارك الله فيك.

و رفع رأسه الي الخادم و قال: امض الي أميرالمؤمنين و عرفه بهذا المال و ما يصنع به؟.



[ صفحه 108]



فمضي الخادم، و عاد و هو يقول: كله هبة مني له، يفعل ما أراد.

فقال موسي [عليه السلام] للشيخ: اقبض جميع هذا المال فهو هبة مني لك» [38] .

و المال هذا هو مجموع عطايا المهنئين من عليه القوم لسلطان الزمان.

فهي عطايا جزيلة لا تقدر بثمن. و معني ذلك أنها أموال كثيرة لأنها هدايا نفيسة، و تحف ثمينة، لم يتردد الامام عليه السلام عن دفعها بكاملها للشيخ الذي قال الشعر في جده الحسين عليه السلام، بحيث جعلها هبة منه اليه علي حسن مقاله و حسن نيته.

و أنت تشعر و أنت تقرأ هذه القصة أن الامام عليه السلام لم تستوقف نظرة تحف، و لا مال قلبه الي هدايا و نفائس، بل بادر الشيخ بقوله: اقبض جميع هذا بطيبة نفس هاشمية لا تجدها عند غير أئمتنا الكرام عليهم الصلاة والسلام.

و أخيرا قال ابراهيم بن عبدالحميد:

«سمعت أباالحسن عليه السلام يقول في سجوده: يا من علا فلا شي ء فوقه، يا من دنا فلا شي ء دونه، اغفرلي و لأصحابي» [39] .

أما أصحابه المقربون رضوان الله عليهم - لا علي الحصر الدقيق - فهم:

1- بابه المفضل بن عمر الجعفي.



[ صفحه 109]



2- و في اختيار الرجال عن الطوسي: أنه اجتمع أصحابنا علي تصديق ستة نفر من فقهاء الكاظم و الرضا عليه السلام، و هم: يونس بن عبدالرحمان، و صفوان بن يحيي بياع السابري، و محمد بن عمير، و عبدالله بن المغيرة، و الحسن بن محبوب السراد، و أحمد بن محمد بن نصر» [40] .

3- و من ثقاته: الحسن بن علي بن فضال الكوفي - مولي لتيم الرباب - و عثمان بن عيسي، و داود بن كثير الرقي - مولي بني أسد - و علي بن جعفر الصادق عليه السلام» [41] .

4- و من خواص أصحابه: علي بن يقطين - مولي بني أسد- و أبوالصلت عبدالسلام بن صالح الهروي، و اسماعيل بن مهران، و علي بن مهزيار، من قري فارس ثم سكن الأهواز- و الريان بن الصلت الخراساني، و أحمد بن محمد الحلبي، و موسي بن بكير الواسطي، و ابراهيم بن أبي البلاد الكوفي» [42] .



[ صفحه 110]




پاورقي

[1] الارشاد ص 278- 277 و المحجة البيضاء ج 4 ص 267 و كشف الغمة ج 3 ص 18 و الأنوار البهية ص 162 و في ينابيع المودة ج 3 ص 32 ذكر طول سجوده، و كثرة عبادته، و هو في حلية الأبرار ج 2 ص 253.

[2] كشف الغمة ج 3 ص 20 و المحجة البيضاء ج 4 ص 268 و مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 215 و ص 323 و الأنوار البهية ص 260 و حلية الأبرار ج 2 ص 253 -252.

[3] حلية الأبرار ج 2 ص 277.

[4] الاحتجاج ج 2 ص 359.

[5] مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 318 و الأنوار البهية ص 159 و اعلام الوري ص 296.

[6] الأنوار البهية ص 162.

[7] سورة الذاريات: 17 و 18.

[8] حلية الأبرار ج 2 ص 281.

[9] الي هنا في كشف الغمة ج 3 ص 43- 42.

[10] الحديث بكامله في حلية الأبرار ج 2 ص 282 - 281.

[11] حلية الأبرار ج 2 ص 281.

[12] المصدر السابق.

[13] المصدر السابق.

[14] معاني الأخبار ص 370.

[15] حلية الأبرار ج 2 ص 253.

[16] سورة سبأ: 13.

[17] الأنوار البهية ص 162.

[18] مناقب آل أبي طالب ج 323 و حلية الأبرار ج 2 ص 253 و الأنوار البهية ص 160.

[19] المصدر السابق.

[20] الأنوار البهية ص 162.

[21] الأنوار البهية ص 160 و مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 118 رواه عن اليوناني، و هو في حلية الأبرار ج 2 ص 220 و وفاة الامام موسي الكاظم ص 26.

[22] سورة المؤمنون: 36.

[23] سورة المزمل: 17.

[24] الأنوار البهية ص 161 و مناقب آل أبي طالب ج 2 ص 318 و هو في حلية الأبرار ج 2 ص 251 - 250 عن محمد بن عيسي اليقطيني، عن أحمد بن عبدالله القروي، عن أبيه، و هو في وفاة الامام موسي الكاظم من ص 26 الي ص 28.

[25] أنظر مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 318 و الارشاد ص 278 و المحجة البيضاء ج 4 ص 268 و اعلام الوري ص 286.

[26] ينابيع المودة ج 3 ص 32.

[27] الأنوار البهية ص 160.

[28] الأنوار البهية ص 160 و حلية الأبرار ج 1 ص 159.

[29] كشف الغمة ج 3 ص 8-7.

[30] الارشاد ص 278 و كشف الغمة ج 3 ص 19-18 و المحجة البيضاء ج 4 ص 268- 267 و هو في مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 319 باختلاف يسير في اللفظ، و هو كذلك في اعلام الوري ص 296 و حلية الأبرار ج 2 ص 276-275.

[31] كشف الغمة ج 3 ص 18 و المحجة البيضاء ج 4 ص 267 و الارشاد ص 277 و حلية الأبرار ج 2 ص 260 و مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 318 باختصار.

[32] حلية الأبرار ج 2 ص 276.

[33] سورة ص: 39 و الخبر في المحجة البيضاء ج 4 ص 43 و ص 95 و حلية الأبرار ج 2 ص 283-282.

[34] سورة الحشر: 7.

[35] المصقول:السيف المسنون، و الفرند: جوهر السيف و ريشته، يوم الهياج: يوم الحرب الثائرة.

[36] الأسهم: هنا هي السهام التي تستعمل في الحرب. نفذتك:أصابتك. و الحرائر: النساء يستغثن بجدك و دموعهن تسيل بغزارة.

[37] تقضقضت السهام: تفرقت عنك اجلالا لك، و هيبة منك، و احتراما لك.

[38] مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 319-318.

[39] التوحيد ص 67.

[40] مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 325.

[41] المصدر السابق.

[42] المصدر السابق.