بازگشت

علمه الموهوب و عظمته


الأئمة من أهل بيت النبوة عليهم السلام، علماء، حكماء، فقهاء قد زقوا العلم زقا. فلا تجد عند كبيرهم ما لا تجده عند صغيرهم، لأنهم خلقوا معلمين مفهمين، و علمهم موهوب غير مكسوب؛ و هو من جملة عطايا الله السنية لهم. و لن تستريح الي فهمهم علي بعض حقيقتهم، الا اذا أيقنت بأنهم منتجبون، مختارون، و مميزون عن سائر العالمين؛ لأنهم معدون لأمر الله تبارك و تعالي الذي انتدبهم سفراء في أرضه، و أمناء علي وحيه، و خلفاء علي خلقه، يحملون أعباء خلافته، و يتصرفون عن أمره و نهيه. و قد وهبهم سبحانه علم ما كان و علم ما يكون حتي لا يعيوا بجواب، و لا يترددوا في فتوي. ثم أعطاهم آلة السفارة و امامة الناس كاملة، ورفدهم بملائكة مؤيدين و مسددين يعملون بين أيديهم، و يفعلون ما يؤمرون. ولذلك كان علي الباحث عن كفاءاتهم العلمية، و طاقاتهم الفكرية، و مبلغ قدراتهم في مختلف الشؤون، كان عليه أن يقف عند نقطة هامة تريح فكره و تختصر بحثه، و هي أن علمهم لدني من علم الله عزوجل، و أنهم يعملون في عين ربهم الذي يرعاهم في سائر تقلباتهم أكثر مما ترعي الدولة الكبري سفيرها



[ صفحه 111]



و مندوبها و هم - أيضا - ذوو حصانة ربانية لا يرفعها عنهم الا مانحها لهم.

و لذا لا تجد لهم ذاما عبر التاريخ، و لا تقف علي قائل منهم كلمة سوء حتي ممن لا يتولاهم كأئمة و خلفاء لرسول الله صلي الله عليه و اله و سلم.

و نحن حين نتكلم عن علمهم الموهوب، نطلق عليهم اسمه دون أن نتجرأ علي الخوض في التفاصيل، فانه من كلمات الله عزوجل التي لو كان البحر مدادا لها لنفذ البحر قبل أن تنفد. فقد منحهم سبحانه من علمه بقدر ما يحتاجون في حياتهم، و أطلعهم علي كثير من خفايا الكون و أسراره، و جعلهم عارفين بكثير من أمور السماء و أهلها و الأرض و ما فيها، و قد برهنت علي ذلك سيرتهم مع معاصريهم من مؤالفين و مخالفين...

أجل، اننا حين نتكلم عن علم الامام، نذكر بعض الأمثلة التي لا تصدر عن سائر الناس، و لا عن الأفذاذ من البشر، فنقف عاجزين عن معرفة ماهية علمه الالهي الذي لا حدود له، و لا نعرف له تحديدا، لأنه صادر عمن هو بكل شي ء محيط...

و الي قارئي العزيز بعض تلك الأمثلة:

«فقد قيل ان رجلا افتض جارية مقصرا - اي مدركة - لم تطمث - يعني لم تر العادة الطبيعية للنساء- فسال الدم نحوا من عشرة أيام. فاختلف القوابل أنه دم الحيض أم دم العذرة، و سألوا أباحنيفة عن ذلك فقال: هذا شي ء قد أشكل فلتتوضأ و لتصل، و ليمسك عنها زوجها حتي تري البياض.

فسأل خلف بن حماد موسي بن جعفر، فقال عليه السلام:

تستدخل القطنة ثم تتركها مليا. ثم تخرجها اخراجا رفيقا:

فان كان الدم مطوقا في القطنة فهو من العذرة.

و ان كان مستنقعا في القطنة فهو من الحيض.



[ صفحه 112]



فبكي خلف و قال: جعلت فداك، من يحسن هذا غيرك؟!.

قال: فرفع يده الي السماء و قال: اني والله ما أخبرك الا عن رسول الله، عن جبرائيل، عن الله تعالي» [1] .

فما هو اعتراض من يحاول رد هذا السند الرباني، و هذه السلسلة الذهبية: عن رسول الله، عن جبرائيل، عن الله؟!!

و هل يخطي ء من يرقي بهذا الاسناد؟!!

و هل تطرح روايته و يرد عليها؟!!

و ماذا تقول بفتوي خريج جامعة السماء، يا خريج فقهاء الأرض؟.

و من علم هذا الحجازي الذي أودع بطون السجون في عهد الظلم، و لو حق و هو في العشرين من عمره فعاش حياة صعبة مراقبة في اقامات جبرية، قضي أكثرها في العبادة و الصوم ليلا و نهارا؟!.

و من أين له هذا العلم التشريحي، و هذا التمييز الدقيق بين دم العذرة الممزقة و الباقية أطرافها بشكل دائرة، و بين دم الحيض الذي يتدفق بسعة الأنبوب؟.

و كيف اهتدي الي هذا الجواب الذي لا تعرفه القابلة، و لا يعرفه أمهر الأطباء و المشرحون؟.

هذا من عطاء ربه سبحانه الذي (علم الانسان ما لم يعلم (5)) [2] و هو من جملة مواهبه عزوعلا، و من أقل عطاءاته لأهل بيت النبي الذي أخرج أئمة



[ صفحه 113]



الحق و هداة الخلق. و أن هذه المسألة لمن أبسط ما عندهم من علم، ولو أنت طالعت شيئا من علمهم في المواضيع النسائية فقط، و في كتب الأخبار الفقهية، لرأيت عجبا، و لو قفت وقفة اكبار و اجلال لعلمهم الذي لا ينفد، لأنك ستجد نفسك أمام طبيب نسائي قضي حياته في الدرس و التشريح، و كأنه لم يشتغل في حياته الا في هذا الموضوع. و هم هكذا في مختلف العلوم و الفنون، و في سائر فتاوي الدين في حلال الله تعالي و حرامه، بحيث تقطع فتاواهم كل كلام و جدل و خصام.

قال داود بن قبيصة:

«سمعت الرضا يقول: سئل أبي عليه السلام: هل منع الله عما أمر به، و هل نهي عما أراد، و هل أعان علي ما لم يرد؟!.

فقال عليه السلام: أما ما سألت: هل منع الله عما أمر به؟. فلا يجوز ذلك. و لو جاز ذلك لكان قد منع ابليس عن السجود لآدم!. و لو منع ابليس لعذره و لم يلعنه.

و أما ما سألت: هل نهي عما أراد؟. فلا يجوز ذلك. و لو جاز ذلك لكان حيث نهي آدم عن أكل الشجرة، أراد منه أكلها. و لو أراد منه أكلها لما نادي عليه صبيان الكتاتيب: (و عصي ءادم ربه فغوي (121)) [3] والله تعالي لا يجوز عليه أن يأمر بشي ء و يريد غيره.

و أما ما سألت عنه من قولك: هل أعان علي ما لم يرد؟. و لا يجوز ذلك. و جل الله تعالي عن أن يعين علي قتل الانبياء و تكذيبهم، و قتل الحسين عليه السلام، و الفضلاء من ولده. و كيف يعين علي ما لم يرد، و قد أعد



[ صفحه 114]



جهنم لمخالفيه و لعنهم علي تكذيبهم لطاعته، و ارتكابهم لمخالفته؟!. و لو جاز أن يعين علي ما لم يرد، لكان أعان فرعون علي كفره و ادعائه أنه رب العالمين!. أفتري أراد الله من فرعون أن يدعي الربوبية؟!.

يستتاب قائل هذا القول، فان تاب من كذبه علي الله، و الا ضربت عنقه» [4] .

فما أروع هذه الأمثلة الحسية التي ضربها الامام عليه السلام لسائله!.

فغير الامام يقصر عن التمثيل بها كما لا يخفي علي القاري ء الكريم...

ولكن، ما أقل السامعين من العالمين.

«قال هشام بن سالم: كنا بالمدينة بعد وفاء أبي عبدالله عليه السلام، أنا و محمد بن النعمان، و الناس يجتمعون علي عبدالله بن جعفر علي أنه صاحب الأمر بعد أبيه. فدخلنا و الناس عنده فسألناه عن الزكاة في كم تجب؟.

فقال: في مائتي درهم خمسة دراهم.

قلنا: ففي مائة؟.

قال: درهمان و نصف.

قلنا: والله ما يقول المرجئة هذا!.

قال: والله ما أدري ما يقول المرجئة.

فخرجنا ضلالا لا ندري الي أين نتوجه أنا و أبوجعفر الأحول، فقعدنا في بعض أزقة المدينة باكين لا ندري الي أين نتوجه و الي من نقصد. نقول: الي المرجئة؟. الي المعتزلة؟. الي الزيدية؟.



[ صفحه 115]



فنحن كذلك اذ رأيت رجلا شيخا لا أعرفه يومي ء الي بيده. فخفت أن يكون عينا من عيون أبي جعفر المنصور، و ذلك أنه كان له في المدينة جواسيس علي من يجتمع بعد جعفر الصادق عليه السلام اليه الناس، فيؤخذ فيضرب عنقه.

فخفت أن يكون منهم، فقلت للأحول: تنح فاني خائف علي نفسي و عليك و انما يريدني، ليس يريدك. فتنح حتي لا تهلك فتعين علي نفسك.

فتنحي عني بعيدا، و تبعت الشيخ؛ و ذلك أني ظننت أني لا أقدر علي التخلص منه. فما زلت أتبعه و قد عزمت علي الموت، حتي ورد بن علي باب أبي الحسن، موسي عليه السلام. ثم خلاني و مضي. فاذا خادم بالباب فقال لي: أدخل رحمك الله.

فدخلت، فاذا أبوالحسن، موسي عليه السلام، فقال لي ابتداء منه: الي الي، لا الي المرجئة، و لا الي القدرية، و لا الي المعتزلة، و لا الي الزيدية.

قلت: جعلت فداك، مضي أبوك؟.

قال: نعم.

قلت: مضي موتا؟.

قال: نعم.

قلت: فمن لنا بعده؟.

قال: ان شاءالله أن يهديك هداك.

قلت: جعلت فداك، ان أخاك عبدالله يزعم أنه الامام من بعد أبيه.

فقال: عبدالله يريد أن لا يعبد الله.

قلت: جعلت فداك، فمن لنا من بعده؟.



[ صفحه 116]



فقال: ان شاءالله أن يهديك هداك.

قلت: جعلت فداك، فأنت هو؟.

قال: لا أقول ذلك.

قلت في نفسي: لم أصب طريق المسألة. ثم قلت له: جعلت فداك، أعليك امام؟.

قال: لا.

فدخلني شي ء لا يعلمه الا الله تعالي اعظاما له وهيبة. ثم قلت له: جعلت فداك، أسألك عما كنت أسأل أباك؟.

قال: سئل تخبر، و لا تذع، فان أذعت فهو الذبح.

فسألته، فاذا هو بحر لا ينزف.

قلت: جعلت فداك، فشيعة أبيك ضلال، فألقي اليهم هذا الأمر و أدعوهم اليك فقد أخذت علي الكتمان؟!.

قال: من آنست منه رشدا فألق اليه و خذ عليه الكتمان، فان أذاع فهو الذبح - و أشار بيده الي حلقه -.

فخرجت من عنده، فلقيت أباجعفر الأحول، فقال لي: ما وراءك؟.

قلت: الهدي؛ و حدثته القصة.

ثم لقينا زرارة و أبابصير، فدخلا عليه، وسمعا كلامه، وسألاه، و قطعا عليه.

ثم لقينا الناس أفواجا؛ فكل من دخل عليه قطع عليه الا طائفة عمار الساباطي. و بقي عبدالله لا يدخل عليه من الناس الا القليل» [5] .



[ صفحه 117]



و أول ما يطالعنا في هذه القصة قول عبدالله بن جعفر: والله ما أدري ما يقول المرجئة. مقسما علي جهله بحقيقة الامامة التي ليس في قاموسها كلمة: لا أدري، لأن الامام لا يجهل شيئا مطلقا باذن ربه عزوجل فعلمه مخلوق معه..

ثم يطالعنا بعد ذلك بقليل قول أخيه الامام موسي بن جعفر عليه السلام ابتداء و دون أن يعلمه أحد عما قاله أخوه لهشام بن سالم: الي الي، لا الي المرجئة، و لا الي القدرية، و لا الي المعتزلة، و لا الي الزيدية!. مرددا قول هشام الذي لم يسمعه منه سوي رفيقه الأحول، و قد قاله بتمام السرية و الخوف...

فكيف علم الامام عليه السلام ما قاله هشام لرفيقه؟.

و كيف استطاع أن يكرر عبارته بلفظها، و بنفس الترتيب؟!.

و كيف علم بمكان وجوده، فأرسل الشيخ ليدعوه اليه؟!. و كيف؟ و كيف؟ و كيف؟!.

لا تسأل بكيف؟ و لا بلماذا؟ و لا تتعب نفسك. فعلي العاقل أن يذعن لمشيئة الله و حسن اختياره و منتهي حكمته، و أن يؤمن بقدرته، و يسلم بأنه سبحانه كما يجعل لنا عينين، و لسانا و شفتين وو... فكذلك يجعل للامام الذي يختاره علما ينقشه له في ذاكرته، فلا يزول و لا ينمحي...

و عن علي بن راشد، و غيره، في خبر طويل، قال:



[ صفحه 118]



«انه اجتمعت العصابة الشيعية بنيسابور، واختاروا محمد بن علي النيسابوري فدفعوا اليه ثلاثين ألف دينار، و خمسين ألف درهم، و ألفي شقة من الثياب؛ و أتت شطيطة بدرهم صحيح و شقة خام من غزل يدها تساوي أربعة دراهم فقالت: ان الله لا يستحي من الحق. (أي أنها لا تخجل بدفع الحق الشرعي و لو كان قليلا).

قال: فثنيت درهمها.

و جاؤوا بجزء فيه مسائل مل ء سبعين ورقة، في كل ورقة مسألة. و باقي الورق بياض ليكتب الجواب تحتها؛ و قد حزمت كل ورقتين بثلاث حزم. (أي شدت في وسطها بخيط - و ختم عليها بثلاثة خواتيم، علي كل جزام خاتم. و قالوا: ادفع الي الامام ليلة - ليلا- و خذ منه في غد. فان وجدت الجزء الصحيح الخواتيم، فاكسر منها خمسة و انظر هل أجاب عن المسائل، و ان لم تنكسر الخواتيم فهو الامام المستحق للمال فادفع اليه، و الا فرد الينا أموالنا.

فدخل علي الأفطح، عبدالله بن جعفر، و جربه فخرج عنه قائلا: رب اهدني الي سواء الصراط.

قال: بينما أنا واقف اذا أنا بغلام يقول: أجب من تريد.

فأتي بي دار موسي بن جعفر.

فلما رآني قال: لم تقنط يا أباجعفر، و لم تفزع الي اليهود و النصاري، فأنا حجة الله و وليه.

ألم يعرفك أبوحمزة علي باب مسجد جدي؟. و قد أجبتك علي ما في الجزء من المسائل بجميع ما تحتاج اليه منذ أمس، فجئني به - أي بالمال - و بدرهم شطيطة الذي وزنه درهم و دانقان، الذي في الكيس الذي فيه



[ صفحه 119]



أربعمائة درهم للوازوازي - هو اسم رجل - و الشقة التي في رزمة الأخوين البلخيين.

قال: فطار عقلي من مقاله!. و أتيته بما أمرني، و وضعت ذلك قبله.

فأخذ درهم شطيطة و ازارها، ثم استقبلني و قال: ان الله لا يستحي من الحق؛ يا أباجعفر، أبلغ شطيطة سلامي، و أعطها هذه الصرة - و كانت أربعين درهما. ثم قال: و أهديت لك شقة من أكفاني من قطن قريتنا صيداء، قرية فاطمة عليهاالسلام، و غزل أختي حليمة ابنة أبي عبدالله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام، ثم قال: و قل لها ستعيشين تسعة عشر يوما من وصول أبي جعفر و وصول الشقة و الدراهم. فأنفقي علي نفسك منها ستة عشر درهما، واجعلي أربعة و عشرين صدقة منك و ما يلزم عنك، و أنا أتولي الصلاة عليك.

فاذا رأيتني يا أباجعفر، فاكتم علي فانه أبقي علي نفسك.

ثم قال: واردد الأموال الي أصحابها، و افكك هذه الخواتيم، عن الجزء، و انظر هل أجبناك عن المسائل أم لا، من قبل أن تجيئنا بالجزء.

فوجدت الخواتيم صحيحة، ففتحت منها واحدا من وسطها، فوجدت فيه مكتوبا: ما يقول العالم عليه السلام في رجل قال: نذرت لله لأعتقن كل مملوك كان في رقي قديما، و كان له جماعة من العبيد؟.

الجواب بخطه: ليعتقن من كان في رقه من قبل ستة أشهر؛ و الدليل علي صحة ذلك قوله تعالي: (والقمر قدرناه منازل...) [6] الآية، و الحديث: من ليس له أقل من ستة أشهر...



[ صفحه 120]



و فككت الختم الثاني، فوجدت ما تحته: ما يقول العالم في رجل قال: والله لأتصدقن بمال كثير. فبما يتصدق؟.

الجواب تحته بخطه: ان كان الذي حلف من أرباب شياه - غنم - فليتصدق بأربع و ثمانين شاة، و ان كان من أصحاب النعم فليتصدق بأربعة و ثمانين بعيرا، و ان كان من أرباب الدرهم، فليتصدق بأربعة و ثمانين درهما. والدليل عليه قوله تعالي: (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة) [7] فعددت مواطن رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم قبل نزول تلك الآية فكانت أربعة و ثمانين موطنا.

فكسرت الختم الثالث فوجدت تحته مكتوبا: ما يقول العالم في رجل نبش قبر ميت، و قطع رأس الميت، و أخذ الكفن؟.

الجواب بخطه: يقطع السارق لأخذ الكفن من وراء الجزر، و يلزم مائة دينار لقطع رأس الميت، لأنا جعلناه بمنزلة الجنين في بطن أمه قبل أن ينفخ فيه الروح، فجعلنا في النطفة عشرين دينارا... (المسألة الي آخرها).

و لما وافي خراسان وجد الذين رد عليهم أموالهم ارتدوا الي الفطيحة، و شطيطة علي الحق، فبلغها سلامه، و أعطاها صرته و شقته، فعاشت كما قال عليه السلام.فلما توفيت شطيطة جاء الامام علي بعير له. فلما فرغ من تجهيزها ركب بعيره وانثني نحو البرية و قال: عرف أصحابك و أقرئهم مني السلام، و قل لهم: اني و من يجري مجراي من الأئمة عليهم السلام لا بد لنا من حضور جنائزكم في أي بلد كنتم. فاتقوا الله في أنفسكم». [8] .



[ صفحه 121]



و قد سمع القاري ء الكريم أن هذه الفرقة من الشيعة قد اجتمعت بنيسابور، أي علي بعد شاسع و مسافة طويلة من مركز اقامة الامام عليه السلام.

فمن أين سمع هذا الامام العظيم قول المرأة المؤمنة، شطيطة حين قالت: ان الله لا يستحي من الحق؟!. حيث بعثت بدرهم واحد و قطعة قماش متواضعة، فقد استقبل الامام الرسول بأن طلب منه درهمها و ازارها - أي هديتها البسيطة من الحق الشرعي - ثم قال: ان الله لا يستحي من الحق...

هذه واحدة، و الثانية أنه من دله علي المسائل المكتوبة، و من أوصلها اليه فأجاب عليها، ثم ردها الي طومار حاملها دون أن يشعر أحد بذلك؟!.

و كيف لم تنكسر الخواتيم؟!.

و الثالثة أنه من دله علي مكان درهم شطيطة و شقة القماش التي بعثت بها اليه؟. و من عرفه أن شطيطة ستعيش تسعة عشر يوما بعد عودته من السفر؟.

و كيف قسم الدراهم التي بعث بها اليها، و علم أنها ستصرف منها ستة عشر درهما، و ستبقي أربعة و عشرين صدقة و بقية لوازم، ثم تكفل بأن يصلي عليها يوم وفاتها. و لم يخطي ء في التوقيت بالدقائق، بل كان حاضرا حين حمل جنازتها و في الوقت المناسب للصلاة عليها؟!.

و الأعجب من الثلاث التي ذكرنا، هو أنه عليه السلام قد أمره برد الاموال الي أصحابها، رافضا قبولها، لأنه علم - مسبقا - أن اصحابها قد رجعوا الي الفطحية - امامة عبدالله بن جعفر - و ارتدوا عن القول بامامته صلوات الله عليه.

ثم انه عليه السلام، ختم معاجزه هذه بأن حضر دفن شطيطة المرأة



[ صفحه 122]



المسكينة التي هي في الشرق الأقصي و هو في الشرق الأوسط، و علي بعير طوي المسافات باذن الله طيا، ثم أوصي مواليه بتقوي الله و بالالتفات الي سلامة أنفسهم في الدنيا و الآخرة.

و من أعاد قراءة الوقائع، و أعادها و أعادها أكثر من مرة، يخرج منها مطمئنا الي عقيدة راسخة تزيده معرفة بأئمة أهل البيت عليهم السلام.

في حديث طويل [9] لهشام بن الحكم مع بريهة كبير النصاري، أنهما بعد جدال طويل ارتحلا حتي أتيا المدينة، و المرأة معهما، يريدان أباعبدالله،- الصادق - عليه السلام، فلقيا موسي بن جعفر عليه السلام، فحكي له هشام الحكاية؛ فلما فرغ قال له موسي بن جعفر عليه السلام:

يا بريهة، كيف علمك بكتابك؟.

قال: أنا به عالم.

قال: كيف ثقتك بتأويله؟.

قال: ما أوثقني بعلمي فيه.

فابتدأ موسي بن جعفر عليه السلام يقرأ الانجيل.

قال بريهة: و المسيح، لقد كان يقرأ هكذا.. و ما قرأ هذه القراءة الا المسيح!.

ثم قال: اياك كنت أطلب منذ خمسين سنة، أو مثلك.

فآمن و حسن ايمانه، و آمنت المرأة و حسن ايمانها.

فدخل هشام و بريهة و المرأة علي أبي عبدالله عليه السلام. و حكي هشام الحكاية و الكلام الذي جري بين موسي عليه السلام و بريهة.



[ صفحه 123]



فقال أبوعبدالله عليه السلام: (ذرية بعضها من بعض) [10] .

فقال بريهة: جعلت فداك، أني لكم التوراة و الانجيل، و كتب الأنبياء؟.

قال: هي عندنا وراثة من عندهم، نقرأها كما قرأوها، و نقولها كما قالوها. ان الله لا يجعل حجة في أرضه يسأل عن شي ء، فيقول: لا أدري.

فلزم بريهة أباعبدالله عليه السلام حتي مات أبوعبدالله، ثم لزم موسي بن جعفر عليه السلام حتي مات في حياته، فغسله بيده، و كفنه بيده، و لحده بيده، و قال: هذا حواري من حواريي المسيح يعرف حق الله عليه. فتمني أكثر أصحابه أن يكونوا مثله». [11] .

و مثل هذا الحديث، نذكر للقاري ء الكريم حديثا آخر مفصلا هو هذا:

قال يعقوب بن جعفر بن ابراهيم:

«كنت عند أبي الحسن موسي عليه السلام، اذ أتاه رجل نصراني و نحن معه بالعريض - واد في المدينة -.

فقال له النصراني: أتيتك من بلد بعيد و سفر شاق، وسألت ربي منذ ثلاثين سنة أن يرشدني الي خير الأديان، و الي خير العباد و أعلمهم.

و أتاني آت في النوم، فوصف لي رجلا بعليا دمشق. فانطلقت حتي أتيته فكلمته، فقال: أنا أعلم أهل ديني، و غيري أعلم مني.

قلت: أرشدني الي من هو أعلم منك، فاني لا أستعظم السفر، و لا



[ صفحه 124]



تبعد علي الشقة. و لقد قرأت الانجيل، و مزامير داود، و قرأت أربعة أسفار من التوراة، و قرأت ظاهر القرآن حتي استوعبته كله.

فقال لي العالم: ان كنت تريد علم النصرانية، فأنا أعلم العرب و العجم بها، و ان كنت تريد علم اليهود فباطي بن شرحبيل السامري أعلم الناس بها اليوم، و ان كنت تريد علم الاسلام، و علم التوراة، و علم الانجيل، و علم الزبور، و كتاب هود، و كل ما أنزل علي نبي من الأنبياء، في دهرك و دهر غيرك، و ما أنزل من السماء من خبر فعلمه أحد أو لم يعلم به أحد، فيه تبيان لكل شي ء و شفاء للعالمين، و روح لمن استروح اليه، و بصيرة لمن أراد الله به خيرا، و أنس الي الحق، فأرشدك اليه فأته و لو مشيا علي رجليك، فان لم تقدر فحبوا علي ركبتيك، فان لم تقدر فزحفا علي استك، فان لم تقدر فعلي وجهك!.

فقلت: لا، بل أقدر علي المسير في البدن و المال.

قال: فانطلق من فورك حتي تأتي يثرب.

فقلت: لا أعرف يثرب.

قال: فانطلق حتي تأتي مدينة النبي صلي الله عليه و اله و سلم، الذي بعث في العرب؛ و هو النبي العربي الهاشمي. فاذا دخلتها فسل عن بني غنم بن مالك بن النجار. و هو عند باب مسجدها. و أظهر بزة - هيئة النصرانية و حليتها، فان و اليها يتشدد عليهم، و الخليفة أشد. ثم تسأل عن بني عمرو بن مبذول، و هو ببقيع الزبير، ثم تسأل عن موسي بن جعفر و أين منزله، و أين هو، مسافر أم حاضر. فان كان مسافرا فالحقه فان سفره أقرب مما ضربت اليه، ثم أعلمه أن مطران عليا الغوطة - غوطة دمشق - هو الذي أرشدني اليك، و هو يقرئك السلام كثيرا و يقول لك: اني لأكثر مناجاة ربي أن يجعل اسلامي علي يديك.



[ صفحه 125]



فقص هذه القصة و هو قائم معتمد علي عصاه، ثم قال:

ان أذنت لي يا سيدي كفرت لك - أي وضعت يدي علي صدري خضوعا - و جلست.

فقال: آذن لك أن تجلس، و لا آذن لك أن تكفر.

فجلس ثم ألقي عنه برنسه، ثم قال: جعلت فداك، تأذن لي في الكلام.

قال: نعم، ما جئت الا له.

فقال له النصراني: اردد علي صاحبي السلام - أي علي مطران دمشق - أو ما ترد السلام؟.

فقال أبوالحسن عليه السلام: علي صاحبك ان هداه الله. فأما التسليم، فذاك اذا صار في ديننا.

فقال النصراني: اني أسألك، أصلحك الله.

قال: سل.

قال: أخبرني عن كتاب الله تعالي، الذي أنزل علي محمد و نطق به، ثم وصفه بما وصفه به.

فقال: (حم (1) و الكتاب المبين (2) انا أنزلناه في ليلة مباركة انا كنا منذرين (3) فيها يفرق كل أمر حكيم (4)) [12] .

قال: ما تفسيرها في الباطن؟.

فقال: أما (حم (1)) فهو محمد صلي الله عليه و اله و سلم، و هو في كتاب هود الذي



[ صفحه 126]



أنزل عليه، و هو منقوص الحروف. و أما (و الكتاب المبين (2)) فهو أميرالمؤمنين علي عليه السلام. و أما (ليلة) ففاطمة. و أما قوله: (فيها يفرق كل أمر حكيم (4)) يقول: يخرج منها خير كثير: فرجل حكيم، و رجل حكيم، و رجل حكيم.

فقال الرجل: صف لي الأول و الآخر من هؤلاء الرجال.

فقال: ان الصفات تشتبه، ولكن الثالث من القوم أصف لك ما يخرج من نسله. و انه عندكم لفي الكتب التي نزلت عليكم ان لم تغيروا و لم تحرفوا و تكفروا؛ و قديما ما فعلتم.

قال له النصراني: اني لا أستر عنك ما علمت و لا أكذبك؛ و أنت تعلم ما أقول في صدق ما أقول و كذبه. والله قد أعطاك من فضله، و قسم عليك من نعمه ما لا يخطره الخاطرون، و لا يستره الساترون، و لا يكذب فيه من كذب. فقولي في ذلك: الحق فيما ذكرت، فهو كما ذكرت.

فقال له أبوابراهيم عليه السلام: أعجلك خبرا لا يعرفه الا قليل ممن قرأ الكتب:

أخبرني ما اسم أم مريم؟. و أي يوم نفخت فيه مريم؟. ولكم ساعة من النهار؟فقال النصراني: لا أدري.

فقال أبوابراهيم عليه السلام: أما أم مريم فاسمها مرتا، و هي وهيبة بالعربية، و أما اليوم الذين حملت فيه مريم، فهو يوم الجمعة للزوال، و هو اليوم الذي هبط فيه الروح الأمين. و ليس للمسلمين عيد كان أولي منه. عظمه الله تبارك و تعالي، و عظمه محمد صلي الله عليه و اله و سلم، فأمر أن يجعله عيدا، فهو يوم الجمعة. و أما اليوم الذي ولدت فيه مريم، فهو يوم الثلاثاء لأربع



[ صفحه 127]



ساعات و نصف من النهار. و النهر الذي ولدت عليه مريم عيسي عليه السلام، هل تعرفه؟.

قال: لا.

قال: هو الفرات، و عليه شجر النخل و الكرم، و ليس يساوي بالفرات شي ء للكروم و النخيل.

و أما اليوم الذي حجبت فيه لسانها، و نادي قيدوس ولده و أشياعه فأعانوه و أخرجوا آل عمران لينظروا الي مريم، فقالوا لها ما قص الله عليك في كتابه، و علينا في كتابه، فهل فهمته؟.

قال: نعم: و قرأته اليوم الأحدث.

قال: اذن، لا تقوم من مجلسك حتي يهديك الله.

قال النصراني: ما كان اسم أمي بالسريانية، و العربية؟.

فقال: كان اسم أمك بالسريانية عنقالية، و عنقورة كان اسم جدتك لأبيك، و أما اسم أمك بالعربية فهو مية - أي مي - و أما اسم أبيك فعبد المسيح، و هو عبدالله بالعربية، و ليس للمسيح عبد.

قال: صدقت و بررت، فما كان اسم جدي؟

قال: كان اسم جدك جبرئيل، و هو عبدالرحمان. سميته في مجلسي هذا.

قال: أما انه كان مسلما.

قال أبوابراهيم عليه السلام: نعم، و قتل شهيدا. دخلت عليه أجناد و قتلوه في منزله غيلة، و الأجناد من أهل الشام.

قال: فما كان اسمي قبل كنيتي؟.



[ صفحه 128]



قال: كان اسمك عبد الصليب.

قال: فما تسميني؟.

قال: اسمك عبدالله.

قال: فاني آمنت بالله العظيم، و شهدت أن لا اله الا الله وحده لا شريك له، فردا صمدا، ليس كما تصفه النصاري، و ليس كما تصفه اليهود، و لا جنس من اجناس الشرك. و أشهد أن محمدا عبده و رسوله، أرسله بالحق، و أبان به لأهله، وعمي المبطلون. و أنه كان رسول الله الي الناس كافة، الي الأحمر و الأسود، كل فيه مشترك. فأبصر من أبصر، و اهتدي من اهتدي، و عمي المبطلون، و ضل عنهم ما كانوا يدعون. و أشهد أن وليه نطق بحكمته، و أن من كان قبله من الأنبياء نطقوا بالحكمة البالغة، و توازروا علي الطاعة لله، و فارقوا الباطل و أهله، و الرجس و أهله، و هجروا سبيل الضلالة، و نصرهم الله بالطاعة له، و عصمهم من المعصية له، فهم لله أولياء، و للدين أنصار، يحثون علي الخير و يأمرون به؛ آمنت بالصغير منهم و الكبير، و من ذكرت منهم و من لم أذكر، و آمنت بالله تبارك و تعالي رب العالمين.

ثم قطع زناره، و قطع صليبا كان في عنقه من ذهب، ثم قال: مرني حتي أضع صدقتي حيث تأمرني.

فقال: هاهنا أخ لك كان علي مثل دينك، و هو رجل من قومك، من قيس بن ثعلبة، و هو في نعمة كنعمتك، فتواسيا و تجاورا، و لست أدع أن أورد عليكما حقكما في الاسلام - أي سهمكما من مال المسلمين -.

فقال: والله - أصلحك الله - أني لغني، و لقد تركت ثلاثمائة طروق - أي ما يصلح للضراب - بين فرس و فرسة، و تركت ألف بعير. فحقك فيها أوفر من حقي.



[ صفحه 129]



فقال له: أنت مولي الله و رسوله، و أنت في حد نسبك علي حالك.

فحسن اسلامه، و تزوج امرأة من بني فهر، و أصدقها أبوابراهيم عليه السلام خمسين دينارا من صدقة علي بن أبي طالب عليه السلام، و أخدمه، و بوأه، و أقام حتي أخرج أبوابراهيم عليه السلام الي بغداد بأمر الخليفة، فمات بعد مخرجه بثمان و عشرين ليلة» [13] .

و ورد الخبر عن يعقوب بن جعفر نفسه هكذا:

«كنت عند أبي ابراهيم عليه السلام، و أتاه رجل من أهل نجران اليمن، من الرهبان، و معه راهبة، فاستأذن لهما الفضل بن سوار.

فقال - عليه السلام - له: اذا كان غدا، فأت بهما عند بئر أم خير.

فوافينا من الغد فوجدنا القوم قد وافوا. فأتي بخصفة بواري - أي حصيرة من ورق النخل - ثم جلس و جلسوا.

فبدأت الراهبة بالمسائل، فسألت عن مسائل كثيرة. كل ذلك يجيبها، و يسألها أبوابراهيم عليه السلام عن أشياء لم يكن عندها فيها شي ء، ثم أسلمت.

ثم أقبل الراهب يسأله، فكان يجيبه في كل ما يسأله.

فقال الراهب: قد كنت قويا علي ديني، و ما خلفت أحدا من النصاري في الأرض يبلغ مبلغي في العلم. و لقد سمعت برجل في الهند اذا شاء حج الي بيت المقدس في يوم و ليلة، ثم يرجع الي منزله بأرض الهند. فسألت عنه بأي أرض هو؟. فقيل لي: انه بسبذان - و قيل بسندان -. و سألت الذي أخبرني فقال: هو علم الاسم الذي ظهر به آصف صاحب سليمان لما أتي



[ صفحه 130]



بعرش سبأ. و هو الذي ذكره الله لكم في كتابكم، و لنا معشر [لأهل] الأديان في كتبنا.

فقال له أبو ابراهيم عليه السلام: فكم لله من اسم لا يرد!.

فقال الراهب: الأسماء كثيرة، فأما المحتوم منها، الذي لا يرد سائله فسبعة. فقال له أبوالحسن عليه السلام: فأخبرني عما تحفظ منها.

فقال الراهب: لا والله الذي أنزل التوراة علي موسي، و جعل عيسي عبرة للعالمين، و فتنة لشكر أولي الألباب، و جعل محمدا بركة و رحمة، و جعل عليا عليه السلام عبرة و بصيرة، و جعل الأوصياء من نسله و نسل محمد، ما أدري؛ و لو دريت ما احتجت فيه الي كلامك، و لا جئتك، و لا سألتك.

فقال له أبوابراهيم عليه السلام: عد الي حديث الهندي.

فقال الراهب: سمعت هذه الأسماء و لا أدري ما بطانتها و لا شرايحها. و لا أدري ما هي، و لا كيف هي، و لا بدعائها. فانطلقت حتي قدمت سبذان الهند. فسألت عن الرجل فقيل لي: انه بني ديرا في جبل فصار لا يخرج و لا يري الا في كل سنة مرتين. و زعمت الهند أن الله فجر له عينا في ديره، و زعمت الهند أنه يزرع له من غير زرع يلقيه، و يحرث له من غير حرث يعمله!.

فانتهيت الي بابه، فأقمت ثلاثا لا أدق الباب، و لا أعالج الباب. فلما كان اليوم الرابع فتح الله الباب، و جاءت بقرة عليها حطب تجر ضرعها، يكاد يخرج ما في ضرعها من اللبن، فدفعت الباب فانفتح، فتبعتها و دخلت.

فوجدت الرجل قائما ينظر الي السماء فيبكي، و ينظر الي الأرض فيبكي، و ينظر الي الجبال فيبكي!.



[ صفحه 131]



فقلت: سبحان الله ما أقل ضربك - أي أمثالك - في دهرنا هذا!.

فقال لي: والله ما أنا سوي حسنة من حسنات رجل خلفته وراء ظهرك.

فقلت له: أخبرت أن عندك اسما من أسماء الله، تبلغ به في كل يوم و ليلة بيت المقدس و ترجع الي بيتك.

فقال لي: و هل تعرف بيت المقدس؟.

قلت: لا أعرف الا بيت المقدس الذي بالشام.

قال: ليس بيت المقدس، ولكنه البيت المقدس، و هو بيت آل محمد صلي الله عليه و اله و سلم.

فقلت له: أما ما سمعت به الي يومي هذا، فهو بيت المقدس.

فقال لي: تلك محاريب الأنبياء، و انما كان يقال لها: حظيرة المحاريب، حتي جاءت الفترة التي كانت بين محمد و عيسي صلي الله عليهما، و قرب البلاد من أهل الشرك و حلت النقمات في دور الشياطين، فحولوا، و بدلوا، و نقلوا تلك الأسماء، و هو قول الله تبارك و تعالي: - البطن لآل محمد، و الظهر مثل -: (ان هي الا أسماء سميتموها أنتم و ءاباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان) [14] .

فقلت له: اني قد ضربت اليك من بلد بعيد، تعرضت لك بحارا، و غموما، و هموما، و خوفا، و أصبحت و أمسيت مؤيسا ألا أكون ظفرت بحاجتي.

فقال لي: ما أري أمك حملت بك، الا و قد حضرها ملك كريم، و لا



[ صفحه 132]



أعلم أن أباك حين أراد الوقوع بأمك، الا و قد اغتسل و جاءها علي طهر، و لا أزعم الا أنه قد كان درس السفر الرابع من سحره ذلك فختم له بخير.

ارجع من حيث جئت، فانطلق حتي تنزل مدينة محمد صلي الله عليه و اله و سلم، التي يقال لها: طيبة، و قد كان في الجاهلية يثرب، ثم اعمد الي موضع منها يقال له: البقيع، ثم سل عن دار يقال لها: دار مروان، فانزلها و أقم ثلاثا. ثم سل عن [الشيخ] الأسود الذي يكون علي بابها يعمل البواري، و هي في بلادهم اسمها: الخصف. فالطف بالشيخ و قل له: بعثني نزيلك الذي كان ينزل في الزواية في البيت الذي فيه الخشيبات الأربع. ثم سله عن فلان بن فلان الفلاني، و سله أين ناديه، و سله أي ساعة يمر فيها فليركه، أو يصفه لك فتعرفه بالصفة، و سأصفه لك.

قلت: فاذا لقيته، فأصنع ماذا؟

قال: سله عما كان، و عما هو كائن!. و سله عن معالم دين من مضي و من بقي.

فقال له أبوابراهيم عليه السلام: قد نصحك صاحبك الذي لقيت.

فقال الراهب: ما اسمه جعلت فداك؟.

قال: هو متمم بن فيروز، و هو من أبناء الفرس، و هو ممن آمن بالله وحده لا شريك له، و عبده بالاخلاص و الايقان، و فر من قومه لما خافهم، فوهب له ربه حكما، و هداه لسبيل الرشاد، و جعله من المتقين، و عرف بينه و بين عباده المخلصين. و ما من سنة الا و هو يزور فيها مكة حاجا، و يعتمر في رأس كل شهر مرة، و يجي ء من موضعة من الهند الي مكة فضلا من الله و عونا، و كذلك يجزي الله الشاكرين.

ثم سأله الراهب عن مسائل كثيرة، كل ذلك يجيبه فيها.



[ صفحه 133]



و سأله الراهب عن أشياء لم يكن عند الراهب فيها شي ء، فأخبره بها.

ثم ان الراهب قال: أخبرني عن ثمانية أحرف نزلت فتبين في الأرض منها أربعة، و بقي في الهواء منها أربعة. علي من نزلت تلك الأربعة التي في الهواء، و من يفسرها؟.

قال: ذاك قائمنا، ينزله الله عليه فيفسره. و ينزل عليه ما لم ينزل علي الصديقين و الرسل و المهتدين.

ثم قال الراهب: فأخبرني عن الاثنين من تلك الأربعة التي في الأرض ما هي؟.

قال: أخبرك بالأربعة كلها:

أما أولاهن، فلا اله الا الله وحده لا شريك له باقيا.

و الثانية: محمد رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم مخلصا.

و الثالثة: نحن، أهل البيت.

و الرابعة: شيعتنا منا، و نحن من رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم، و رسول الله من الله.

فقال له الراهب: أشهد أن لا اله الا الله، و أن محمدا رسول الله، و أن ما جاء به من عند الله حق، و أنكم صفوة الله من خلقه، و أن شيعتكم المطهرون المستبدلون - المستدلون - فلهم عاقبة الله، والحمدلله رب العالمين.

فدعا أبوابراهيم عليه السلام بجبة خز، و قميص قوهي - ضرب من الثياب - و طيلسان، و خف و قلنسوة فأعطاه اياها. و صلي الظهر، و قال له: اختتن.



[ صفحه 134]



فقال: قد اختتنت في سابعي - أي اليوم السابع من ولادته» [15] .

و لو أطلقنا للقلم عنانه، لبدا عاجزا في ميدان بيان علم الأئمة بما كان، و بما هو كائن الي يوم القيامة!. فانهم علماء غير معلمين، و هكذا خلقهم رب العالمين... و بمقدار ما يحاول الانسان البحث في علمهم و من أين كان، و كيف أتاهم، و كيف استوعبوه، بمقدار ما يظهر جهله بحالهم التي تفرق كثيرا عن حال سائر العالمين.

و كما أنه سبحانه خلق الطويل و القصير، و الأبيض و الأسود، و الذكي و الأحمق، والأثني و الذكر، فكذلك خلق الامام اماما منذ ولادته، كما خلقني و خلقك غير امامين من حين ولادتنا. و كذلك أعطاه الفهم و العلم كما أعطاه اللحم و العظم و جميع مقومات الجسم. و لا يعجب من ذلك الا من يضيق صدره بالحقائق الربانية؛ و هذا لا شأن لنا معه علي كل حال، لأنه لم يقتنع بما جاء به الأنبياء و المرسلون، أفنحاول أن نقنعه و نحن لا نملك المعجزة، و لا نستطيع ابتداع الخوارق؟. لا، فنحن نكتب لمن يطلب الحق أينما كان، و ينشد الحقيقة أني وجدت.

قيل أنه: «دخل موسي بن جعفر عليه السلام بعض قري الشام متنكرا هاربا. فوقع في غار و فيه راهب يعظ في كل سنة يوما.

فلما رآه الراهب دخله منه هيبة، فقال: يا هذا، أنت غريب؟.

قال: نعم.

قال: منا أو علينا؟.

قال: لست منكم.



[ صفحه 135]



قال، أنت من الأمة المرحومة؟.

قال: نعم.

قال: أفمن علمائهم أنت، أم من جهالهم؟.

قال: لست من جهالهم.

فقال: كيف طوبي أصلها في دار عيسي، و عندكم في دار محمد، و أغصانها في كل دار؟!.

فقال عليه السلام: الشمس قد وصل ضوؤها الي كل مكان، و كل موضع، و هي في السماء.

قال: و في الجنة لا ينفد طعامها و ان أكلوا منه، و لا ينقص منه شي ء؟!.

قال: السراج في الدنيا يقتبس منه، و لا ينقص منه شي ء. - أي من نوره -.

فقال: في الجنة ظل ممدود؟!.

فقال عليه السلام: الوقت الذي قبل طلوع الشمس (كله) ظل ممدود قوله: (ألم تر الي ربك كيف مد الظل...) [16] - يعني أن الظل الممدود يشبه ذلك -.

قال: ما يؤكل و يشرب في الجنة، لا يكون بولا و لا غائطا؟!.

قال عليه السلام: الجنين في بطن أمه... - أي حاله حال الجنين الذي يتغذي و لا يخرج فضلات -.



[ صفحه 136]



قال: أهل الجنة لهم خدم يأتونهم بما أرادوا بلا أمر؟!.

قال: اذا احتاج الانسان الي شي ء، عرفت أعضاؤه ذلك. و يفعلون مراده بلا أمر. - يعني أن الخدم كالأعضاء التي تحس بالحاجة -.

قال: مفاتيح الجنة من ذهب أو فضة؟!.

قال: مفاتيح الجنة لسان العبد: لا اله الا الله.

قال: صدقت، و أسلم و الجماعة معه». [17] .

فأنت تري أن الأسئلة التي سألها الراهب كانت مبتكرة، ولكنها كانت لا تستعصي علي الامام عليه السلام. و هي ان دلت علي شي ء فانما تدل علي علم هذا الراهب العارف بالدين، الباحث عن الحق، الساعي وراء الحقيقة التي بشر بها دينه الكريم علي لسان نبيه عيسي بن مريم عليه السلام... و هذا الراهب يعرف أكثر الأجوبة علي أسئلته من طريق دينه المسيحي بلا أدني ريب، ولكنه أنما سأل الامام عنها ليعرف أن هذا الرجل الذي دخلته منه الهيبة حين رآه، هل هو من الأولياء، أم من السوقة في الأمة المرحومة التي ينتسب اليها. فلم يحاور محاورة مكابرة، و لا تعنت في أسئلته، بل كانت أسئلته بمنتهي العفوية، و تلقي أجوبتها بمنتهي الرضي و القبول، فاستدل علي علم هذا الامام العظيم بأبسط الطرق و أقصرها... فما أحسن محاجة العلماء؟!.



[ صفحه 137]




پاورقي

[1] مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 311-310 و هو في حلية الأبرار ج 2 ص 225، و قد ذكر في حديث طويل في الوافي ج 1 باب: ما يتميز به الحيض من دم العذرة و القرحة.

[2] سورة العلق: 5.

[3] سورة طه: 121.

[4] الاحتجاج ج 2 ص 387.

[5] المحجة البيضاء ج 4 ص 271- 270 و كشف الغمة ج 3 ص 13-12 و الارشاد ص 273 - 272 و اعلام الوري ص 292 - 291 و حلية الأبرار ج 2 من ص 231 الي ص 233 و هو مكرر في ص 332 باختصار، و كذلك في ص 234 و ص 235 و هو كذلك في مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 291 - 290.

[6] سورة يس: 39.

[7] سورة التوبة: 25.

[8] مناقب آل ابي طالب ج 4 ص 292-291.

[9] هو في التوحيد ص 270.

[10] سورة آل عمران: 34.

[11] التوحيد ص 275- 274 و الكافي م 1 ص 227 و هو في مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 310 و الأنوار البهية من ص 155 الي ص 157 في حديث مفصل، و انظر حلية الأبرار ج 2 ص 240.

[12] سورة الدخان: 4-1.

[13] الكافي م 1 من ص 478 الي ص 481 و هو بتمامه في حلية الأبرار ج 2 من ص 236 الي ص 240.

[14] سورة يوسف: 40 و سورة النجم: 23.

[15] الكافي م 1 ص 481 الي ص 484 و حلية الأبرار ج 2 من ص 240 الي ص 244.

[16] سورة الفرقان: 45.

[17] مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 312 - 311.