بازگشت

مع هارون الرشيد


و لما اعتقل هارون الرشيد الامام موسي (ع) و بقي في السجن حفنة من السنين امر يوما باحضاره في بلاطه، فلما حضر واستقر به المجلس التفت اليه هارون و قد نخر الغيظ قلبه قائلا:

- يا موسي بن جعفر: خليفتين يجبي لهما الخراج؟!!.

- يا اميرالمؤمنين، أعيذك بالله ان تبوء باثمي و اثمك، و تقبل الباطل من أعدائنا علينا، فقد علمت انه قد كذب علينا منذ قبض رسول الله (ص) بما علم ذلك عندك، فان رايت بقرابتك من رسول الله (ص) أن تأذن لي أن احدثك بحديث اخبرني به ابي عن آبائه عن جدي رسول الله (ص).

- قد أذنت لك.

- اخبرني ابي عن آبائه عن جدي رسول الله (ص) انه قال: «ان الرحم اذا مست الرحم تحركت واضطربت»، فناولني يدك.

فرق هارون و زال غضبه فمد اليه يده و جذبه الي نفسه و عانقه طويلا ثم ادناه منه و قد اغرورقت عيناه بالدموع و التفت اليه قائلا له بنبرات تقطر عطفا:

«صدقت، و صدق جدك، لقد تحرك دمي، واضطربت عروقي حتي غلبت علي الرقة، و فاضت عيناي، و أنا أريد أن اسألك عن اشياء تتلجلج في صدري منذ حين لم اسأل عنها احدا، فان انت اجبتني عنها خليت عنك و لم اقبل قول احد فيك، و قد بلغني انك لم تكذب قط، فاصدقني عما أسألك مما في قلبي».

- ما كان علمه عندي فاني مخبرك به، ان انت آمنتني.



[ صفحه 262]



- لك الأمان، ان انت صدقتني، و تركت التقية التي تعرفون بها معشر بني فاطمة.

- سل عما شئت.

- لم فضلتم علينا و نحن و أنتم من شجرة واحدة، و بنو عبدالمطلب و نحن و انتم واحد، فبنو العباس و انتم ولد أبي طالب، و هما عما رسول الله (ص)، و قرابتهما منه سواء؟

- نحن اقرب.

- و كيف ذلك؟

- لأن عبدالله و أباطالب لأب و أم، و أبوكم العباس ليس هو من أم عبدالله و أبي طالب.

- لم ادعيتم انكم ورثتم النبي (ص) و العم يحجب ابن العم، و قبض رسول الله (ص) و قد توفي أبوطالب قبله، و العباس عمه حي؟

- ان رأي أميرالمؤمنين أن يعفيني عن هذه المسألة، و يسألني عن كل باب سواها.

- لا - أو تجيب؟

- آمني.

- قد آمنتك قبل الكلام،

- جاء في قول علي (ع): انه ليس مع ولد الصلب ذكرا كان أم أنثي لأحد سهم الا الأبوين و الزوج و الزوجة، و لم يثبت للعم مع ولد الصلب ميراث، الا ان تيما وعديا، و بني امية قالوا: العم والد، رأيا منهم بلا حقيقة و لا أثر عن النبي (ص) ثم انه (ع) ذكر له جملة من فقهاء العصر الذين أفتوا بما أفتي به جده اميرالمؤمنين (ع) في هذه المسألة و أضاف (ع) الي ذلك قوله:



[ صفحه 263]



«روي قدماء العامة، عن النبي (ص) أنه قال: (علي أقضاكم) و كذلك قال عمر بن الخطاب: (علي أقضانا) و هو - أي القضاء - اسم جامع لأن جميع ما مدح به النبي (ص) أصحابه من القراءة و الفرائض، و العلم داخل في القضاء».

و بعد ما ادلي (ع) بهذه الحجة الدامغة طلب منه هارون الرشيد المزيد من الايضاح و البيان فقال (ع): ان النبي لم يورث من لم يهاجر، و لا اثبت له ولاية حتي يهاجر.

قال هارون: ما حجتك؟

قال (ع): قول الله تبارك و تعالي: «والذين آمنوا و لم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شي ء حتي يهاجروا» [1] ، و ان عمي العباس لم يهاجر.

فتغير لون هارون و تميز من الغيظ فقال للامام:

- هل أفتيت أحدا بذلك من أعدائنا أم أخبرت به أحدا من الفقهاء؟

- لا - و ما سألني عنها أحد سواك.

فسكن غضبه و قال:

لم جوزتم للعامة و الخاصة ان ينسبوكم الي رسول الله (ص) و يقولوا: لكم يا بني رسول الله، و أنتم بنوعلي، و انما ينسب المرء الي أبيه، و فاطمة انما هي وعاء، والنبي (ص) جدكم من قبل أمكم؟

- لو ان النبي (ص) نشر فخطب منك كريمتك هل كنت تجيبه؟

- سبحان الله!! و لم لا أجيبه، بل أفتخر علي العرب و العجم و قريش بذلك.

- لكنه لا يخطب مني و لا أزوجه.



[ صفحه 264]



- و لم؟

- لأنه ولدني و لم يلدك.

- أحسنت يا موسي!!

- كيف قلتم: انا ذرية النبي: والنبي لم يعقب، و انما العقب للذكر لا للأنثي، و انتم ولد بنته.

- أسألك بحق القرابة الا ما أعفيتني.

- لا - أو تخبرني عن حجتكم فيه يا ولد علي، و انت يا موسي يعسوبهم و امام زمانهم، و لست أعفيك.

- تأذن لي في الجواب؟

- هات.

- قال الله تعالي في كتابه: (و من ذريته داود و سليمان و أيوب و يوسف و موسي و هارون و كذلك نجزي المحسنين، و زكريا و يحيي و عيسي و الياس كل من الصالحين) [2] من أبوعيسي يا أميرالمؤمنين؟

- ليس لعيسي أب.

- انما ألحقه الله تعالي بذراري الأنبياء من طريق مريم، و كذلك ألحقنا بذراري النبي (ص) من قبل أمنا فاطمة (ع)

و طلب هارون من الامام أن يزيد في حجته و برهانه، فأجابه الي ذلك فقال (ع): «قال الله عزوجل: فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبنائنا و أبناءكم و نساءنا و نساءكم و أنفسنا و انفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله علي الكاذبين) [3] فلم يدع أحد أن النبي (ص) أدخل



[ صفحه 265]



تحت الكساء عند مباهلة النصاري الا علي بن أبي طالب و فاطمة والحسن والحسين، فكان تأويل قوله تعالي: ابناءنا الحسن والحسين، و نساءنا فاطمة و أنفسنا علي بن ابي طالب (ع) و أضاف الي هذه الحجة برهانا آخر و هو ان العلماء قد أجمعوا علي ان جبرئيل قال: يوم أحد، يا محمد ان هذه لهي المواساة من علي فقال (ص) انه مني و انا منه، فقال و انا منكما» [4] .

وانقطعت حجة هارون و لم يجد طريقا يسلكه، لأن الامام قد أدلي بحجج دامغة لا مجال للشك فيها، ثم ان هارون طلب منه ان يزوده برسالة موجزة تجمع اعمال الدين فكتب (ع) بعد البسملة ما نصه:

«جميع امور الأديان أربعة: امر لا اختلاف فيه، و هو اجماع الأمة علي الضرورة التي يضطرون اليها، و الأخبار المجمع عليها، و هي الغاية المعروض عليها كل شبهة، و المستنبط منها كل حادثة، و امر يحتمل الشك و الانكار، فسبيله استنصاح اهله [5] الحجة عليه مما ثبت لمنتحليه من كتاب مجمع علي تأويله او سنة عن النبي (ص) لا اختلاف فيها، او قياس تعرف العقول عدله و لا يسع خاصة الأمة و عامها الشك فيه و الانكار له، و هذان الأمران من امر التوحيد فما دونه الي أرش الخدش فما دونه فهذا المعروض الذي يعرض عليه امر الدين، فما ثبت لك برهانه اصطفيته، و ما غمض عليك صوابه نفيته، فمن أورد واحدة من هذه الثلاثة [6] فهي الحجة البالغة التي بينها الله في قوله لنبيه: «قل فلله الحجة البالغة فلو شاء



[ صفحه 266]



لهديكم اجمعين» [7] يبلغ الحجة البالغة الجاهل فيعلمها بجهله كما يعلمها العالم بعلمه، لأن الله عدل لا يجور، يحتج علي خلقه بما يعلمون و يدعوهم الي ما يعرفون لا الي ما يجهلون و ينكرون..».

فأجازه هارون و أكرمه [8] وانصرف الامام و قد دل خصمه - المسمي بخليفة المسلمين و أميرالمؤمنين - علي امور الدين كما أوضح له منزلة أهل البيت و صحة اقوالهم و دعم ما ذهب اليه بأوثق الأدلة و البراهين.

و ذكر رواة الأثر له مناظرة أخري مع هارون، والذي نراه انها من الموضوعات، و انها الي الخيال أقرب منها الي الواقع، و فيما يلي نصها:

حج هارون الرشيد بيت الله الحرام فمنعت الشرطة دخول الحجاج الي البيت حال طوافه، و بينما هو مشغول في الطواف و قد احاطت به الحرس اذ بادر اعرابي الي البيت و جعل يطوف معه فأقبل عليه الحاجب قائلا:

- تنح يا هذا عن وجه الخليفة.

- ان الله ساوي بين الناس في هذا الموضع، فقال: «سواء العاكف فيه والبادي».

فكف الحاجب عنه، و كلما طاف الرشيد طاف الاعرابي امامه، و نهض الرشيد الي الحجرالأسود ليقبله فسبقه الاعرابي اليه و لثمه، و صار الرشيد الي (المقام) ليصلي فيه فسبقه الاعرابي و صلي امامه فالتاع هارون واستولي عليه الغضب فأمر حاجبه باحضاره فانبري اليه قائلا:

- اجب اميرالمؤمنين.

- ما لي اليه حاجة فأقوم اليه، فان كانت الحاجة اليه فهو بالقيام أولي



[ صفحه 267]



فمضي الحاجب الي الرشيد فقال: صدق، ثم مشي اليه فلما وصل سلم عليه و قال:

- يا اعرابي أجلس؟

- ما الموضع لي فتستأذنني فيه بالجلوس، انما هو بيت الله نصبه لعباده فان أحببت أن تجلس فاجلس، و ان أحببت ان تنصرف فانصرف!!

فجلس هارون و هو مغيظ محنق فقال له:

- ويحك!! مثلك من يزاحم الملوك؟!

- نعم. و في مستمع [9] .

- فاني سائلك، فان عجزت آذيتك.

- سؤالك هذا سؤال متعلم؟ او سؤال متعنت؟

- بل سؤال متعلم.

- اجلس مكان المسؤول من السائل. و سل، و انت مسؤول.

- اخبرني ما فرضك؟

- ان الفرض واحد، و خمسة، و سبعة عشر، و اربع و ثلاثون، و اربع و تسعون، و مائة و ثلاثة و خمسون علي سبعة عشر، و من اثني عشر واحد و من اربعين واحد، و من مائتين خمس، و من الدهر كله واحد، و واحد بواحد.

فضحك الرشيد، و قال مستهزءا به:

- ويحك أسألك عن فرضك و انت تعد علي الحساب؟!!

- اما علمت ان الدين كله حساب، و لو لم يكن الدين حسابا لما اتخذ الله للخلائق حسابا ثم قرأ (و ان كان مثقال حبة من خردل أتينا بها و كفي بنا حاسبين).



[ صفحه 268]



- بين لي ما قلت: و الا امرت بقتلك بين الصفا و المروة.

فقال الحاجب: لهارون:

- هبه لله و لهذا المقام.

فضحك الاعرابي من قوله، فغضب منه هارون و قال له:

- مم ضحكت؟

- تعجبا منكما!! اذ لا ادري من الأجهل منكما الذي يستوهب أجلا قد حضر، او الذي استعجل أجلا لم يحضر؟!!

فقال الرشيد: فسر ما قلت؟

- أما قولي: الفرض واحد فدين الاسلام كله واحد و عليه خمس صلوات و هي سبعة عشر ركعة، و أربع و ثلاثون سجدة، و اربع و تسعون تكبيرة، و مائة و ثلاث و خمسون تسبيحة، و اما قولي: من اثني عشر واحد فصيام شهر رمضان من اثني عشر شهرا، و أما قولي: من الاربعين واحد فمن ملك اربعين دينارا اوجب الله عليه دينارا، و أما قولي: من مائتين خمسة فمن ملك مائتي درهم اوجب الله عليه خمسة دراهم، و أما قولي: فمن الدهر كله واحد فحجة الاسلام، و أما قولي: واحد بواحد فمن أهرق دما بغير حق وجب اهراق دمه قال الله تعالي: «النفس بالنفس».

فانطلق هارون يعرب عن اعجابه بغزارة علمه قائلا له: لله درك!! ثم انه أمر باعطائه بدرة فقال له الاعرابي: بم استوجبت هذه البدرة، بالكلام أو بالمسألة؟

- بل بالكلام.

- فاني أسألك عن مسالة فان أتيت بها كانت لك البدرة تتصدق بها في هذا الموضع الشريف، فان لم تجبني عنها اضفت الي البدرة بدرة اخري لأتصدق بها علي فقراء الحي من قومي.



[ صفحه 269]



فأمر هارون باحضار بدرة اخري و قال له:

- سل عما بدا لك.

- اخيرني عن الخنفساء تزق أم ترضع ولدها؟

فتغير هارون و استولي عليه الغضب فاندفع قائلا:

- ويحك مثلي من يسأل عن هذه المسألة!!

- سمعت ممن سمع من رسول الله (ص) انه قال: من ولي أقواما وهب له من العقل كعقولهم، و أنت امام هذه الأمة، يجب أن لا تسأل عن شي ء من أمر دينك و من الفرائض الا اجبت عنه، فهل عندك له جواب؟.

- لا - بين لي ما قلته وخذ البدرتين.

- ان الله لما خلق الأرض خلق دبابات الأرض من غير فرث و لا دم خلقها من التراب، و جعل رزقها و عيشها منه، فاذا فارق الجنين أمه لم تزقه، و لم ترضعه، و كان عيشها من التراب فقال هارون: والله ما ابتلي أحد بمثل هذه المسألة.

فأخذ الاعرابي البدرتين وانصرف فتبعه بعض الناس فسأل عن اسمه فاذا هو الامام موسي بن جعفر (ع) فانعطف الي هارون فأخبره بذلك، فقال هارون:

- ينبغي ان تكون هذه الورقة من تلك الشجرة [10] .

والذي يبعثنا علي الريبة في هذه الرواية ما يلي:

1- انها احتوت علي قيام الامام بمزاحمة هارون في طوافه و صلاته و هو بعيد عن هدي الامام و سلوكه، و لم يكن هناك أي أثر ديني يترتب علي هذه العملية.



[ صفحه 270]



2- خفاء شخصية الامام علي هارون و عدم معرفته به طيلة هذه المناظرة التي استوعبت وقتا كبيرا مع أن هارون يعرف الامام، و لم يكد يخفي عليه امره.

3- أخذ الامام البدرتين من هارون، و هو بعيد كل البعد عما عرف به الامام من الاباء، و عدم الخضوع الي هارون و غيره من ملوك عصره.

4- ان هذه القصة بجميع ابعادها سؤالا و جوابا لا تخلو من هزال، و بعد عن المنطق فهي الي الخيال أقرب منها الي الواقع... ان كثيرا من امثال هذه الامور هي من وضع الغلاة و المفوضة، و لا نصيب لها من الصحة حسب ما اعتقد.


پاورقي

[1] سورة الأنفال آية 73.

[2] سورة الأنعام: آية 84 - 85.

[3] سورة آل عمران: آية 60.

[4] البحار: (ج 12 ص 274 - 275).

[5] ورد في بعض النسخ: استيضاح أهله.

[6] الظاهر ان المراد بهذه الثلاث: الكتاب و السنة و القياس الذي تعرف العقول عدله.

[7] سورة الأنعام: آية 149.

[8] تحف العقول: ص 407 - 408، و رواه المفيد في الاختصاص و المجلسي في البحار بصورة أوجز من هذه.

[9] في مستمع: أي عندي علم يجب ان يستمع اليه.

[10] المناقب: (ج 3 ص 427 - 429).