بازگشت

في عهد المنصور


و لم تكن للمنصور اية سابقة من السوابق، أو مأثرة من المآثر حتي يستحق الخلافة التي هي من اعظم المراتب في الاسلام، فلم يكن يملك أي نزعة انسانية أو صفة شريفة تؤهله للقيام بشؤون المسلمين، فقد اجمع المؤرخون انه تسربل باللؤم و البخل، و خسة الطبع، و دناءة النفس، و كان الغدر و الفتك من ابرز مظاهر شخصيته، و قد ساس المسلمين سياسة من لا يؤمن بالله و اليوم الآخر فأشاع بينهم الخوف و الارهاق، و سلبهم جميع مقوماتهم الاقتصادية، حتي تمنوا رجوع الحكم الاموي، وعودة أيامهم علي ما فيها من قسوة و عذاب، يقول احد مخضرمي الدولتين:



يا ليت جور بني مروان دام لنا

و ليت عدل بني العباس في النار



و قال الثائر العظيم محمد ذوالنفس الزكية في حديثه الذي أدلي به عن جور العباسيين و ظلمهم:

«و لقد كنا نقمنا علي بني أمية ما نقمنا، فما بنوالعباس الا أقل خوفا لله منهم، و ان الحجة علي بني العباس لأوجب منها عليهم، و لقد كانت للقوم مكارم و فواضل ليست لأبي جعفر..» [1] .

و قد افرط في سفك الدماء الي حد لا يوصف فقتل علي الظنة و التهمة و تنكر لجميع الناس فلم تسلم منه حتي أسرته فأباد اعلامها و قطع رؤوسها، و يعزي ذلك الي حقده و طيشه، و قد وصفه الاستاذ السيد ميرعلي بقوله:

«كان المنصور خداعا لا يتردد البتة في سفك الدماء، و تعزي قسوته الي حقده البالغ حد الافراط في حين كان خلفه لا يفتك بأحد الا بعد كثير من التروي و الامعان، و علي الجملة كان أبوجعفر سادرا في بطشه مستهترا في فتكه، و تعتبر معاملته لأولاد علي صفحة من أسوأ صفحات التأريخ العباسي، و يقول السيوطي: كان المنصور أول من أحدث ثغرة الخلاف



[ صفحه 358]



ببن العباسيين و العلويين بعد ان كانا كتلة واحدة» [2] .

و وصفه ابن هبيرة [3] و هو من معاصريه بقوله: «ما رأيت رجلا في حرب او سلم أمكر، و لا أنكر، و لا اشد تيقظا من المنصور حتي لقد حاصرني في تسعة شهور و معي فرسان العرب فجهدنا كل الجهد علي أن ننال من عسكره شيئا فما قدرنا لشدة ضبطه لعسكره، و كثرة تيقظه» [4] .

و قد استطاع ببطشه و كيده أن يؤسس الدولة العباسية، و يسيطر علي جميع اجهزة الحكم سيطرة كاملة.

و كان من أقسي ما قام به من الظلم جوره البالغ علي العلويين، و معاملتهم بما لا يوصف من العنف و الاضطهاد فقد صب عليهم جام غضبه فنكل بهم أفظع التنكيل، و لم يرع فيهم أواصر الرحم، و قربهم من الرسول (ص) و قد شاهد الامام موسي (ع) ما حل باسرته من صنوف المحن و الارهاق، فكان لذلك أثره الكبير في نفسه فقد صارت موطنا للآلام و الاحزان.

لقد قطع الامام موسي (ع) عقدين من سني حياته في دور المنصور



[ صفحه 359]



فرأي تلك السياسة النكراء التي تحمل شارات الموت و الفناء لجميع المواطنين... و لابد لنا من البحث عن مظاهر شخصية المنصور، و سياسته و اعماله فان البحث عن ذلك يرتبط ارتباطا وثيقا بحياة الامام موسي لأنه يصور لنا العصر الذي عاش فيه، و ما لاقي فيه المسلمون من جهد و عناء فان لذلك أثرا في انطباعاته عن كثير من الاحداث، و فيما يلي عرض موجز للتعريف بشخصية المنصور:


پاورقي

[1] الأغاني: 10 / 106.

[2] مختصر تأريخ العرب (ص 184).

[3] ابن هبيرة: هو عمر بن سعد بن عدي الفزاري ولي العراقين ليزيد بن عبدالملك ست سنين، و كان يكني أباالمثني، و يقول الفرزدق مخاطبا لعبدالملك في أمر ابن هبيرة:



أوليت العراق و رافديه

فزاريا احذ يد القميص



تفتق بالعراق أبوالمثني

و علم قومه أكل الخبيص



و المراد بقوله: «احذيد القميص» انه خفيف اليد كناية عن خيانته الكني و الألقاب 1 / 434 نقلا عن المعارف لابن قتيبة.

[4] العصر العباسي (ص 68).