بازگشت

حرمان الادباء


كانت الدولة الأموية تغدق بالأموال الطائلة علي الشعراء و الادباء حتي ازدهر الأدب وراج سوقه و كانت الأوساط الاجتماعية تنظر الي هذه الطبقة ببالغ الاهتمام نظرا لاعتناء الدولة و احتفائها بها، و لما انتهي الدور الي المنصور بالغ في اذلالهم و تحطيمهم و حرمانهم من الصلة و الدخول عليه، فكان لا يؤذن لهم الا بعد جهد كثير، و قد وفد عليه أبونحيلة، فوقف بباب



[ صفحه 362]



بلاطه مستأذنا فلم يأذن له بالدخول و الخراسانيون و غيرهم يدخلون و يخرجون بلاعناية و هم يستهزئون به و يسخرون منه، ورآه بعض اصدقائه و هو بتلك الحالة من الذل و الهوان فقال له:

- كيف تري ما أنت فيه من هذه الدولة؟

فانبري مجيبا بهذه الأبيات التي ارتجلها و هو يصور ما هو فيه:



أكثر خلق الله بي لا يدري

من أي خلق الله حين يلقي



وحلة تنشر ثم تطوي

و طيلسان يشتري فيغلي



لعبد عبد او لمولي مولي

ياويح بيت المال ماذا يلقي [1] .



ان الذي دعا المنصور الي الاستهانة بهذه الطبقة المثقفة هو البخل و الشح.

و روي المؤرخون من شحه و قطيعته للشعراء: أن المؤمل بن أميل قدم علي المهدي ولي عهد المنصور فمدحه بقصيدة رائعة ملكت مشاعره فأعطاه عشرين الف درهم، و رفع صاحب البريد رسالة الي المنصور يحيطه علما بالامر، فلما انتهت اليه و علم بالحال تميز غيظا و رفع من فوره رسالة الي ولده يندد فيها بفعله و قد جاء فيها «انما كان ينبغي لك أن تعطي الشاعر بعد أن يقيم ببابك سنة أربعة آلاف درهم».

و كتب الي كاتب المهدي ان يبعث اليه الشاعر فورا فطلبه الكاتب فلم يظفر به، فأخبره أنه توجه الي مدينة السلام، فبعث احد ضباط جيشه مع دورية من الشرطة و أمرهم بالقاء القبض عليه فأقاموا بجسر النهروان فلا يجتاز عليهم احد الا سألوه عن اسمه، فاجتاز عليهم المؤمل فسألوه عن اسمه فأخبرهم به، فألقوا عليه القبض فكادت روحه أن تزهق من الخوف و الذعر و جاءوا به الي الربيع حاجب المنصور فانبري الي المنصور فأخبره



[ صفحه 363]



بالعثور عليه، فأمر بادخاله فلما مثل بين يديه التفت اليه و هو مغيظ محنق قائلا:

- أنت المؤمل بن أميل؟

- نعم اصلح الله أميرالمؤمنين.

- هيه، أتيت غلاما غرا فخدعته!!.

- نعم أصلح الله أميرالمؤمنين، أتيت غلاما كريما فخدعته فانخدع فهدأت ثورة المنصور و سكن غضبه، ثم امره بأن يتلو عليه قصيدته فانبري منشدا:



هو المهدي الا أن فيه

مشابه صورة القمر المنير



تشابه ذا وذا فهما اذا ما

أنارا مشكلان علي البصير



فهذا في الظلام سراج ليل

و هذا في النهار سراج نور



ولكن فضل الرحمن هذا

علي ذا بالمنابر و السرير



و بالملك العزيز فذا أمير

و ما ذا بالأمير و لا الوزير



و نقص الشهر يخمد ذا و هذا

منير عند نقصان الشهور



فيابن خليفة الله المصفي

به تعلو مفاخرة الفخور



لئن فت الملوك و قد توافوا

اليك من السهولة و الوعور



لقد سبق الملوك أبوك حتي

بقوا من بين كاب أو حسير



و جئت وراءه تجري حثيثا

و مابك حين تجري من فتور



فقال الناس ما هذان الا

بمنزلة الخليق من الجدير



لئن سبق الكبير فأهل سبق

له فضل الكبير علي الصغير



و ان بلغ الصغير مدي كبير

لقد خلق الصغير من الكبير



فلم يملك المنصور اعجابه بهذه المقطوعة الرائعة التي احتوت علي أجمل آيات المدح و الثناء فقال له:



[ صفحه 364]



«والله لقد احسنت!! ولكن هذا لايساوي عشرين الف درهم أين المال؟

فأجابه بالحضور، و هو يرعد من الخوف و الذعر، فأمر حاجبه بقبضها و اعطائه اربعة آلاف درهم، فامتثل الحاجب ذلك.

و دلت هذه البادرة علي ضعة نفسه و حرصه الذي ينم عن نفس لا عهد لها بالاريحية و النبل.

و روي المؤرخون من بخله انه كان في طريقه الي مكة فطلب أن يؤتي له بحاد يحدو به، فجي ء له بسلم الحادي فحدا به، فطرب حتي كاد ان يسقط من الراحلة، فاجازه بنصف درهم، فأنكر عليه ذلك و قال له:

- يا أميرالمؤمنين لقد حدوت بهشام بن عبدالملك فأجازني عشرة آلاف درهم!!

فنظر اليه المنصور بحنق و قال له:

- ما كان له ان يعطيك من بيت المال.

و أمر حاجبه الربيع بأن يقبضها منه، فاخذ سلم يتوسل اليه و يحلف له أنه لم يبق من تلك الاموال شي ء، و ما زال يتوسل بالمنصور حتي تركه و شرط عليه ان يحدو به ذهابا و ايابا بغير ثمن [2] ، و يقول بشر المنجم دعاني أبوجعفر يوما عند المغرب فبعثني في بعض الأمر، فلما رجعت رفع ناحية مصلاه فاذا دينار فقال: خذ هذا واحتفظ به فاخذته فهو عندي الي الساعة مخافة أن يطالبني به لأنه لم يقل خذه لك [3] .

و لما اصدر المرسوم الملكي الذي يقضي بأن تلبس الرعية القلانس الطوال



[ صفحه 365]



المفرطة اندفع الشاعر الفكهي أبودلامة يعرض ببخل المنصور قائلا:



و كنا نرجي من امام زيادة

فزاد الامام المصطفي في القلانس



نراها علي هام الرجال كأنها

دنان يهود جللت بالبرانس [4] .



لقد جهد المنصور في احتكار أموال الأمة و كنزها، و عدم انفاق أي شي ء منها علي المصلحة العامة مما أشاع الفقر و البؤس في جميع أنحاء البلاد.


پاورقي

[1] الأغاني: (ج 18 ص 148).

[2] الاغاني 13 / 110، تأريخ الخلفاء (ص 267).

[3] الطبري: احداث سنة 158.

[4] تأريخ الخلفاء: (ص 262).