بازگشت

ترويع المدنيين


و قابل المنصور أهالي يثرب بمزيد من الاضطهاد و العنف و الجور، و سلبهم جميع مقوماتهم الاقتصادية فقطع عنهم الميرة في البر والبحر [1] و أراد بهذه الحرب الاقتصادية أن يشغلهم بالبؤس و المجاعة عن مناهضته و الانكار علي سياسته، و قد ولي عليهم رباح بن عثمان المري و كان فظا غليظ القلب تنفر منه النفوس لشراسة طبعه، و حينما ولاه المنصور جمع الناس، ونزا علي المنبر فأعلن لهم سياسته الارهابية الحاملة لشارات الموت و العذاب قائلا:



[ صفحه 376]



يا أهل المدينة أنا الافعي ابن الافعي، ابن عثمان بن حيان، وابن عم مسلم بن عقبة، المبيد خضراءكم، و المفني رجالكم، والله لأدعها بلقعا لا ينبح فيها كلب..».

انه الطغيان الفاجر، والاستهتار بحياة الناس، و كراماتهم، فالابادة الشاملة و اخلاء الوطن من أهله هو الشعار الذي يسوس به البلاد، و ساعد الله المسلمين علي هذه المحن و الخطوب التي تذيب لفائف القلوب، و تذوب النفوس لهولها أسي و حسرات.

و لم ينه هذا الوحش الكاسر هذه الكلمات القاسية حتي اندفع جمع من الأحرار الذين غامروا بحياتهم فردوا عليه بأعنف القول قائلين بلسان واحد:

«والله يا ابن المجلود حدين لتكفن أو لنكفنك عن أنفسنا»

و رفع هذا الوغد الأثيم بالفور رسالة الي العاهل العباسي يعرفه فيها بخروج أهل المدينة عن الطاعة و اصرارهم علي التمرد و العصيان، و لما انتهي اليه الكتاب كتب لأهل المدينة رسالة ملأها بالانذار و الوعيد، و أمر عامله أن يتلوها عليهم، فلما وصلت اليه، جمعهم و قرأها عليهم و قد جاء فيها:

«يا أهل المدينة، ان واليكم كتب الي يذكر غشكم، و خلافكم و سوء رأيكم، و استمالتكم علي بيعة أميرالمؤمنين، و أميرالمؤمنين يقسم بالله لئن لم تنزعوا ليبدلنكم بعد أمنكم خوفا، و ليقطعن البر و البحر عنكم، و ليبعثن عليكم رجالا غلاظ الأكباد، و بعاد الأرحام بنو [2] قعر بيوتكم يفعلون ما يؤمرون والسلام».

واندفع جمع من الغياري و الأحرار الي معارضته قائلين:

«كذبت يا ابن المجلود حدين»



[ صفحه 377]



ثم انهم رموه بالحصا من كل جانب فولي خائفا الي مقصورته فأغلقها عليه، واعتصم بها فدخل عليه أيوب بن سلمة المخزومي أحد أذناب السلطة و هو يدعوه الي التنكيل بالثائرين قائلا:

«أصلح الله الأمير، انما يصنع هذا رعاع الناس، فاقطع أيديهم، واجلد ظهورهم..».

و أشار عليه بعض من حضر من الهاشميين بعدم الاعتناء بمقالة هذا العبد الذي تنكر لوطنه و أبناء بلاده، و أشاروا عليه أن يرسل خلف الوجوه و الأشراف فيقرأ عليهم رسالة المنصور ليري رأيهم فيها، فاستجاب لذلك فأرسل خلفهم و قرأ عليهم كتاب المنصور، فانبري اليه حفص بن عمر بن عبدالله ابن عوف الزهري، و أبوعبيدة بن عبدالرحمن الأزهر فقالا له:

«كذبت والله ما أمرتنا فعصيناك، و لا دعوتنا فخالفناك..»

ثم التفتا الي ممثل المنصور و رسوله:

«أتبلغ أميرالمؤمنين عنا؟»

- ما جئت الا لذاك.

- قل له: أما قولك: انك تبدل المدينة و أهلها بالأمن خوفا، فان الله عزوجل وعدنا غير هذا، قال الله عزوجل: «و ليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لايشركون بي شيئا» فنحن نعبده لانشرك به شيئا..» [3] .

و هكذا عامل المنصور أهالي المدينة بهذه القسوة و الجفاء فلم يحترم جوارهم لرسول الله (ص) و لم يراع ما لآبائهم من الفضل في اقامة هذا الدين و تدعيم أسسه.



[ صفحه 378]




پاورقي

[1] ابن الأثير: 5 / 261.

[2] كذا في الأصل، و في الهامش «ينوون» و لعل الصحيح «يثورون» في قعر بيوتكم.

[3] اليعقوبي: (ج 3 ص 110 - 111).