بازگشت

ثورة الزكي محمد


و كان محمد بن عبدالله بن الحسن من أعلام العلويين في علمه و فقهه و شجاعته وجوده، و قد جمع في برديه كل فضل موروث و مكسوب، و قد سمي بذي النفس الزكية و صريح قريش لأنه لم يجي ء من أم ولد في جميع آبائه و امهاته بل جاء خالصا نقيا من قريش، و سماه الناس بالمهدي الذي بشر به النبي (ص) [1] و في ذلك يقول الشاعر:



انا لنرجو أن يكون محمد

اماما به يحيا الكتاب المنزل



به يصلح الاسلام بعد فساده

و يحيا يتيم بائس و معول



و يملأ عدلا أرضنا بعد ملئها

ضلالا و يأتينا الذي كنت آمل [2] .



و كان يشبه جده الرسول (ص) في خلقه و أخلاقه، و أعتقد أهل المدينة أنه لو جاز أن يبعث الله نبيا بعد محمد (ص) لكان هو [3] و قد رشح للخلافة باجماع الهاشميين، و كان المنصور الدوانيقي يسير بخدمته، و يسوي عليه ثيابه، و يمسك له دابته تقربا اليه كما بايعه مع أخيه السفاح مرتين، و بعد اختلاس العباسيين للحكم تألم محمد أشد الألم و اقساه و أخذ يدعو الناس لنفسه فاستجابوا له، و ظل مختفيا مع أخيه ابراهيم و دعاتهم تجوب في الاقطار للدعوة اليهم، و كان أبوهما عبدالله يمجد فيهما روح الثورة و يحفزهما علي النضال فقد قال لهما:



[ صفحه 401]



«ان منعكما أبوجعفر أن تعيشا كريمين فلا يمنعكما أن ثموتا كريمين» [4] .

و لما بلغ محمد وفاة أبيه عبدالله مع ابناء عمومته من العلويين في سجن المنصور، و ما حل فيهم من صنوف التنكيل و التعذيب، تواعد هو و أخوه ابراهيم علي اعلان الثورة في يوم مخصوص، فأعلن محمد الأمر في يئرب في الوقت المقرر له - علي ما قيل - وانبري الناس الي مبايعته، واستبشروا ببيعتهم له، وقام جيشه باحتلال الدوائر الرسمية، و بالاستيلاء علي بيت المال و هرعت أهالي اليمن و مكة الي بيعته و قد اجتمعت الجموع الحاشدة في يثرب تظهر له الطاعة و الانقياد، و قد قام فيهم خطيبا فقال بعد حمد الله و الثناء عليه:

«أما بعد: أيها الناس فانه كان من أمر هذا الطاغية عدو الله أبي جعفر ما لم يخف عليكم من بنائه القبة الخضراء التي بناها معاندا لله في ملكه تصغيرا للكعبة الحرام، و انما أخذ فرعون حين قال: أنا ربكم الأعلي، و ان أحق الناس بالقيام بهذا الدين ابناء المهاجرين و الانصار المواسين. اللهم: انهم قد احلوا حرماتك، و حرموا حلالك، فآمنوا من أخفت، و أخافوا من آمنت الله فاحصهم عددا، واقتلهم بددا، و لا تغادر منهم أحدا.

أيها الناس: اني والله ما خرجت من بين أظهركم، و انتم عندي لا أهل قوة، و لا شدة، ولكن اخترتكم لنفسي، والله ما جئت هذه و في الارض مصر يعبد فيه الله الا و قد أخذ لي البيعة فيه» [5] .



[ صفحه 402]



و دل هذا الخطاب علي أخذ البيعة له من جميع الاقاليم الاسلامية الا ان بعض المعلقين علي خطابه ذهب الي أن ذلك كان مكيدة من المنصور فهو الذي أوعز الي ولاته بمراسلة محمد و الاستجابة الي دعوته حتي يبادر الي اعلان الثورة قبل أن تستكمل مخططاتها ليمكن القضاء عليها في بدايتها.

و علي أي حال فان الانباء حينما وافت المنصور وجه جيشا لقتاله يقدر عدده بأربعة آلاف فارس، و جعل قيادته العامة الي ولي عهده عيسي بن موسي، وسارت الجيوش، تطوي البيداء حتي انتهت الي يثرب، و حينما علم محمد بقدوم جيوش المنصور بث جيوشه في الشوارع و الأزقة، و قبل أن تندلع نيران الحرب خطب في جيشه فقال:

«أيها الناس، انا قد جمعناكم للقتال و أخذنا عليكم المناقب، و ان هذا العدو منكم قريب، و هو في عدد كثير، و النصر من الله، و الأمر بيده، و انه قد بدا لي أن آذن لكم، و أفرج عنكم المناقب، فمن أحب أن يقيم أقام، و من أحب أن يضعن ضعن..»

و كان هذا الخطاب خطاب مخذول لا وثوق له بالنصر، و لا أمل له في التغلب علي الأحداث نظرا لضخامة جيش العدو، و قلة من معه، و لم يرغم اصحابه علي الخوض في الحرب، كما لم يعتمد علي وسائل الخداع و التضليل و هو موقف تمثلت فيه الشهامة و النبل.

و لما سمع خطابه الانتهازيون و ذوو الاطماع تفرقوا عنه، و بقي في خلص اصحابه [6] و لم تكن لهم قدرة علي الدفاع عنه، و قد خف اليه عبدالله بن جعفر [7] فقال له:



[ صفحه 403]



«بأبي أنت و أمي، انه والله مالك بما رأيت طاقة، و ما معك أحد يصدق القتال، فاخرج الساعة حتي تلحق بالحسن بن معاوية بمكة فان معه جلة اصحابك..».

فانطلق محمد يجيبه بما انطوت عليه نفسه الكبيرة من الشرف و النبل قائلا:

«يا أباجعفر، والله لو خرجت لقتل اهل المدينة، والله لا أرجع حتي أقتل أو اقتل، و انت مني في سعة فاذهب حيث شئت» [8] .

ان محمدا اذا ترك يثرب فان جيش المنصور سيحتلها، و يقابل المدنيين بمنتهي القسوة و الانتقام، و ينتهك جميع الحرمات، فرأي محمد أن يقيم فيها و يضحي بنفسه في سبيل أمن الناس و سلامتهم.

و اندلعت نار الحرب بين الفريقين، و بعد صراع رهيب بين قوي الحق و قوي البغي أصيب القائد العظيم محمد ذوالنفس الزكية بجراح خطير فسقط علي الارض، و برك علي ركبتيه، فبادر اليه الاثيم حميد بن قحطبة و هو يصيح بالجند لا تقتلوه فكفوا عنه فقام الوغد بنفسه ليبوأ بالاثم و الجحيم فاحتز رأسه الشريف [9] .



[ صفحه 404]



وانتهت بذلك صفحة من أروع صفحات الجهاد المقدس، وانطوت أعظم حركة اصلاحية في العالم الاسلامي كانت تهدف الي نشر العدل، و سيادة الامن و الدعة بين الناس.

وانهارت القوي الخيرة، و تحطمت آمال الاحرار فقد فقدوا قائدهم الاعلي الذي كان منارا لهم في طريق النضال و الجهاد.


پاورقي

[1] غاية الاختصار (ص 12).

[2] مقاتل الطالبيين (ص 243).

[3] شذرات الذهب 1 / 231.

[4] مقاتل الطالبيين (ص 243).

[5] الطبري 9 / 219.

[6] الطبري.

[7] عبدالله بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن الامام اميرالمؤمنين المعروف بالافطح، قال الشيخ المفيد: كان اكبر اخوته بعد اسماعيل، و لم تكن له منزلة عند أبيه، و كان متهما في الخلاف علي أبيه فقد قيل: انه كان يخالط الحشوية و يميل الي مذهب المرجئة، وادعي بعد وفاة أبيه الامامة محتجا بأنه اكبر اخوته فتبعه جماعة من البسطاء، ثم رجع اكثرهم الي القول بامامة الامام موسي (ع) - كما سنوضحه - جاء ذلك في تنقيح المقال 2 / 174.

[8] الطبري 9 / 224.

[9] مقاتل الطالبيين.