بازگشت

ثورة الزكي ابراهيم


كان ابراهيم بن عبدالله من قادة الفكر، و من أعلام عصره في علمه و أدبه و أخلاقه و حسن تدبيره، و قد اترعت نفسه الزكية بالايمان بحق الأمة فانطلق في ميادين الجهاد لينقذها من حكم العبودية و الذل، و يحقق في رحابها عدل الاسلام و احكام القرآن.

والشي ء الذي عرف به ابراهيم انه كان حديدي الارادة، و كان يقظا حساسا، فقد طلبه المنصور أشد الطلب، و بث عليه العيون، و قد استطاع أن يجلس علي موائد المنصور من دون أن يشعر به، و قد حدث عن ذلك بقوله:

«اضطرني الطلب بالموصل حتي جلست علي موائد المنصور، و قد قدم اليها يطلبني فلفظتني الأرض فجعلت لا أجد مساغا. و وضع الطلب و المراصد و دعا الناس الي غدائه فدخلت فيمن دخل، واكلت فيمن أكل ثم خرجت، و قد كف الطلب».

و في هذا الاقدام دليل علي ما يحمله من القابليات الفذة التي تجعله في مصاف العظماء الذين لا يفكرون بالهزيمة، و لا تغير من عزيمتهم الاحداث الجسام، و قد اتته الأنباء المريعة بمقتل أخيه، و هو يخطب علي المنبر فجعل



[ صفحه 405]



يتمثل بهذه الأبيات:



أبا المنازل يا خير الفوارس من

يفجع بمثلك في الدنيا فقد فجعا



الله يعلم أني لو خشيتهم

و أوجس القلب من خوف لهم فزعا



لم يقتلوه و لم أسلم أخي لهم [1] .

حتي نموت جميعا أو نعيش معا



ثم تبلورت دموعه علي وجهه الشريف، و أخذ يؤبن أخاه و يصوغ من حزنه كلمات قائلا:

اللهم: انك تعلم أن محمدا انما خرج غضبا لك و نفيا لهذه المسودة و ايثارا لحقك، فارحمه، واغفر له، واجعل الآخرة خير مرد له و منقلب في الدنيا..» [2] .

ورثي أخاه بهذه الابيات:



سأبكيك بالبيض الرقاق و بالقنا

فان بها ما يدرك الطالب الوترا



و انا أناس لا تفيض دموعنا

علي هالك منا و لو قصم الظهرا



و لست كمن يبكي أخاه بعبرة

يعصرها من ماء مقلته عصرا



ولكني أشفي فؤادي بغارة

ألهب في قطري كتائبها جمرا



لقد تمثلت البطولة بما لها من معني مشرق بهذا الموقف الرائع الذي وقفه ابراهيم، فلم يوهن عزيمته مقتل أخيه العظيم، و انما زاده ايمانا و تصميما علي المضي في طريق الكفاح و النضال.

و أعلن ابراهيم في البصرة ثورته الكبري علي حكومة المنصور فاستجاب له المسلمون، وانضموا الي دعوته، و كان سفيان بن معاوية والي البصرة من المؤيدين له، و كان علي اتصال دائم معه، يطلعه علي كل ماجد للمنصور من رأي في أمر البصرة و ساعده في كثير من شؤون الثورة.



[ صفحه 406]



واحتل ابراهيم البصرة، و وجه دعاته الي الاهواز و فارس و واسط و المدائن فاستجابت هذه الاقطار و بايعته، و خفق علم الدولة العلوية عليها، و توالت أنباء الثورة العارمة علي المنصور فهاله ذلك و جزع جزعا شديدا، وخيم عليه الذعر، و قد دخل عليه الحجاج بن قتيبة فرآه ينكث الارض بمخصرته و ينشد:



و نصبت نفسي للرماح دريئة

ان الرئيس لمثل ذاك فعول



فقال له الحجاج: ادام الله عزك، و نصرك الله علي عدوك أنت كما قال الأعشي:



و ان حربهم أوقدت بينهم

فحرت لهم بعد ابرادها



وجدت صبورا علي حرها

و كر الحروب و تردادها



فقال المنصور: يا حجاج ان ابراهيم قد عرف و عورة جانبي و صعوبة ناحيتي و خشونة قرني، و انما جرأه علي المسير الي من البصرة هذه الكور المطلة علي عسكر اميرالمؤمنين، و أهل السواد معه علي الخلاف و المعصية، و قد رميت كل كورة بحجرها، و كل ناحية بسهمها، و وجهت اليه الشهم النجد الميمون المظفر عيسي بن موسي في كثير من العدد و العدة، واستعنت بالله عليه، و استكفيته اياه فانه لا حول و لا قوة لاميرالمؤمنين الا به.

و لما توفرت لابراهيم الجيوش المزودة بالعدة و العدد عزم علي المسير الي حرب المنصور فأشار عليه اصحابه البصريون أن يقيم في البصرة، و يرسل الجنود فاذا انهزموا امدهم بغيرهم، و قال قوم من أهل الكوفة: ان بالكوفة أقواما لو رأوك ماتوا دونك، و ان لم يروك قعدت بهم أسباب شتي، واستجاب ابراهيم لرأي الكوفيين، فتوجه بنفسه الي حرب المنصور، ولو انه أقام بالبصرة لتغلب علي الاحداث و تم له النصر.

و وجه المنصور الي حرب ابراهيم جيشا بلغ عدده خمسة عشر الفا،



[ صفحه 407]



و جعل قيادته العامة الي ولي عهده عيسي بن موسي، و جعل علي مقدمته حميد بن قحطبة، و قال له لما ودعه: ان هؤلاء الخبثاء - يعني المنجمين - يزعمون انك اذا لقيت ابراهيم تجول اصحابك جولة حتي تلقاه، ثم يرجعون اليك و تكون العاقبة لك.

وسار ابراهيم بجيشه يطوي البيداء، و سمع و هو ينشد في طريقه أبيات القطامي:



أمور لو يدبرها حكيم

اذن أنهي وهيب ما استطاعا



و معصية الشفيق عليك مما

يزيدك مرة منه استماعا



و خير الأمر ما استقبلت منه

و ليس بأن تتبعه التباعا



ولكن الأديم اذا تفري

بلي و تعيبا غلب الصناعا [3] .



و دل ذلك علي ندمه علي مسيره، فقد استبان له انه لو بقي بالبصرة لكان خيرا له، و توجه بجيشه الي «باخمري» و لم يتجه الي الكوفة مخافة ان تستباح الأعرض، و تقتل الاطفال، و أشار عليه قوم بالمسير االي الكوفة فانه اضمن الي نجاحه الا انه لم يستجب لهم مخافة ما ذكرناه.

و اندلعت نار الحرب بين الفريقين فانهزم جيش المنصور شر هزيمة حتي انتهت طلائعها الي الكوفة فوجل المنصور و رام الهزيمة، و جعل يقول للربيع متعرضا بما أخبر به الامام الصادق (ع) من فوز العباسيين بالحكم:

«أين قول صادقهم، و كيف لم ينلها ابناؤنا فاين امارة الصبيان؟!!»

و بعدما حوصر وضيق عليه أمر بجعل الابل و الدواب علي جميع أبواب الكوفة ليهرب عليها.

وكرت جيوش المنصور راجعة بعد هزيمتها بسبب نهر لقيها فلم تقدر علي اجتيازه، فعادوا بأجمعهم، و كان أصحاب ابراهيم قد مخروا الماء ليكون



[ صفحه 408]



قتالهم من وجه واحد، فلما انهزموا منعهم الماء من الفرار، و ثبت ابراهيم في نفر من أصحابه فقاتلهم حميد بن قحطبة، و جعل يرسل بالرؤوس الي عيسي، و جاء سهم غادر فوقع في حلق ابراهيم فنحره فتنحي عن موقفه، و قال لاصحابه: انزلوني فانزلوه عن مركبه و هو يقول: «و كان أمر الله قدرا مقدورا» أردنا أمرا و أراد الله غيره.

واجتمع عليه اصحابه و خاصته يحمونه، و يقاتلون دونه فقال حميد بن فحطبة شدوا علي تلك الجماعة حتي تزيلوهم عن موضعهم، و تعلموا ما اجتمعوا عليه، فشدوا عليهم يقاتلونهم حتي أفرجوهم عن ابراهيم فاحتزوا رأسه الشريف فأتوا به عيسي فسجد و بعث برأسه الي المنصور [4] .

و بذلك انتهت اروع صفحة من صفحات الجهاد المقدس، و طوبت أعظم شخصية في العالم الاسلامي كانت تروم القضاء علي الظلم و الجور و اعادة الحياة الكريمة في الاسلام.

و لما انتهي مقتل الشهيد العظيم الي المنصور الخبيث اللئيم كاد ان يطير فرحا فقد تحققت جميع آماله و أمانيه، و كان بين يديه طعام قد استطابه فقال لمن حوله:

«أراد ابراهيم أن يحرمني هذا و أشباهه» [5] .

ان ثورة الزكي ابراهيم رائد الحق و العدالة لم تكن من أجل متع الحياة و لذائذها، و انما كانت لتحطيم المنكر و ابادة الظلم، و انقاذ الناس من الحكم الارهابي الذي ساد عليهم أيام المنصور.

ان تلك الثورة الخالدة كانت من أجل تحقيق المثل العليا و تطبيق احكام القرآن علي واقع الحياة العامة بين الناس:



[ صفحه 409]



والتفت المنصور و هو جذلان مسرور الي حضار مجلسه قائلا لهم:

«تالله ما رأيت أنصح من الحجاج لبني مروان؟!!».

فانبري اليه المسيب بن زهرة الضبي يظهر له أنهم أطاعوه اكثر من اطاعة الحجاج لا سياده الأمويين قائلا:

«يا أميرالمؤمنين، ما سبقنا الحجاج لأمر فتخلفنا عنه، والله ما خلق الله علي جديد الارض خلقا أعز علينا من نبينا (ص) و قد أمرتنا بقتل أولاده فأطعناك و فعلنا فهل نصحناك؟».

فلذع قوله المنصور فصاح به:

«اجلس لا جلست» [6] .

و صفا الملك للنمصور بعد ثورة العلويين، وراح الطاغية الجبار بعد ذلك يمعن في ظلم الرعية و ارهاقها، فقد تفللت القوي الخيرة التي كان يحذرها وشخي بأسها، و أخذ يجد في التنكيل ببقية العلويين، و استئصال شأفتهم، و نعرض فيما يلي الي بعض ما لا قوه من صنوف الارهاق الذي لا يوصف لفضاعته و قسوته.


پاورقي

[1] في رواية «و لم يسلم أخي».

[2] مقاتل الطالبيين (ص 342).

[3] الكامل 5 / 18.

[4] الكامل 5 / 19.

[5] مروج الذهب 3 / 224.

[6] مروج الذهب 3 / 224.