بازگشت

الامام الصادق في ذمة الخلود


و قاسي الامام الصادق في عهد المنصور جميع أنواع الخطوب و الآلام فرأي ما قاساه المسلمون من الجهد و البلاء، و ما عاناه العلويون من صنوف التنكيل و التعذيب، و قد كانت سلامته من المنصور اعجوبة بالرغم من تحرزه و توقيه من الاشتراك في أي ميدان من الميادين السياسية، و يدل علي ذلك حديثه المشهور:

«عزت السلامة حتي لقد خفي مطلبها فان تكن في شي ء فيوشك ان تكون في الخمول، فان طلبت في الخمول فلم توجد فيوشك أن تكون في الصمت، و السعيد من وجد في نفسه خلوة يشتغل بها».

لقد حاول المنصور ان يفتك به مرارا، ولكن الله رد عنه كيده، و قد احضره غير مرة و هو يتميز غيظا، و يحاول قتله، و قد دفع الله عنه شره، و قد ارسل اليه مرة الربيع فأنفذ اليه ولده محمد و أمره أن يأتي به علي الحالة التي هو عليها، و قال له: امض الي جعفر بن محمد فتسلق علي حائطه و لا تفتح عليه بابا فيغير بعض ما هو عليه، ولكن انزل عليه نزولا، فقام محمد بما أمر به، فوجد الامام قائما يصلي فلما فرغ من صلاته قال له:

- اجب اميرالمؤمنين



[ صفحه 413]



- دعني ألبس ثيابي

- ليس الي ذلك من سبيل

فجاء بالامام علي حالته، وادخله عليه، فقال له المنصور بنبرات تقطر غضبا:

«يا جعفر ما تدع حسدك و بغيك و افسادك علي أهل هذا البيت من بني العباس، و ما يزيدك الله بذلك الا شدة حسد، ونكد ما تبلغ به ما تقدره».

فقال له الامام:

«والله يا أميرالمؤمنين ما فعلت شيئا من هذا و لقد كنت في ولاية بني أمية و أنت تعلم أنهم أعدي الخلق لنا و لكم، و انهم لا حق لهم في هذا الأمر، فوالله ما بغيت عليهم، و لا بلغهم عني سوء، مع جفاهم الذي كان بي، و كيف يا أميرالمؤمنين اصنع الآن هذا؟ و أنت ابن عمي و أمس الخلق بي رحما، و اكثرهم عطاءا و برا، فكيف افعل هذا؟»

فأطرق المنصور برأسه ساعة الي الارض و رفع رأسه و قال له:

«أبطلت و أثمت»

و أخرج اضبارة كتب، فرمي بها اليه، و قال له: هذه كتبك الي اهل خراسان تدعوهم الي نقض بيعتي و ان يبايعوك دوني.

فقال له الامام:

«والله يا اميرالمؤمنين ما فعلت، و لا أستحل ذلك، و لا هو من مذهبي، و اني لمن يعتقد طاعتك علي كل حال، و قد بلغت من السن ما قد اضعفني عن ذلك، لو اردته فصيرني الي بعض حبوسك حتي يأتيني الموت فهو مني قريب».

فصاح به الخبيث اللئيم: لا و لا كرامة، ثم اطرق برأسه، و ضرب



[ صفحه 414]



يده الي السيف، فسل منه مقدار شبر، و أخذ بمقبضه ثم رده، و قال للامام بكلمات قاسية:

«يا جعفر أما تستحي مع هذه الشيبة، و مع هذا النسب أن تنطق بالباطل و تشق عصا المسلمين؟ تريد أن تريق الدماء، و تطرح الفتنة بين الرعية و الأولياء».

فقال له الامام: «لا والله يا أميرالمؤمنين ما فعلت، و لا هذه كتبي و لا خطي، و لا خاتمي» ثم انتضي من السيف ذراعا، و عمد فأرجعه.

و أقبل يعاتبه و الامام يعتذر منه، ثم انتضي السيف الا شيئا يسيرا منه ثم اغمده، واطرق برأسه الي الارض ثم رفع رأسه، و قال: أظنك صادقا و أمر الربيع أن يأتيه بالغالية فأخذ منها و وضعه علي كريمة الامام و كانت بيضاء فاسودت، و بالغ في اكرام الامام و تبجيله، و كان سبب ذلك انه رأي برهانا من ربه فعفا عنه [1] .

لقد كان المنصور يحقد علي الامام أشد الحقد بسبب اجماع المسلمين علي تعظيمه، و قد خبا أمام جذوة اسمه الوهاج اسم المنصور فالعالم الأسلامي كان يتحدث بذكره، و يتناقل فضائله و علومه، و قد حاول الطاغية الجبار أن يستدرجه في موكبه فكتب اليه:

«لم لا تغشانا كما يغشانا سائر الناس؟»

و قد ظن ان الامام (ع) سيبادر الي اجابته شأن الكثيرين ممن أغرتهم الدنيا، و لم يعلم أن الامام (ع) يتحرج من الاتصال به، ففد وضع نصب عينيه قوله تعالي: «و لا تركنوا الي الذين ظلموا فتمسكم النار»، و بعد ما قرأ (ع) رسالة المنصور أجابه:

«ما عندنا من الدنيا ما نخافك عليه، و لا عندك من الآخرة ما نرجوك



[ صفحه 415]



له، و لا انت في نعمة فنهنيك عليها، و لا تعدها نقمة فنعريك عليها فلم نغشاك؟».

ولكن المنصور لم يع كلام الامام فقد اغرته الدنيا، واعمي قلبه حب الملك و السلطان، فلما قرأ كتاب الامام أجابه:

«انك تصحبنا لتنصحنا»

فرد عليه الامام (ع): «من أراد الدنيا فلا ينصحك، و من أراد الآخرة فلا يصحبك».

و باء المنصور بالفشل فلم تتحقق منيته، و قد اجتمع (ع) به فوقع علي وجه المنصور بعض الذباب فدفعه بيده فعاد اليه حتي ضجر منه فالتفت الي الامام قائلا:

«يا اباعبدالله، لم خلق الله الذباب؟»

فلم يعن (ع) به و اجابه غير مكترث به قائلا: «ليذل به الجبابرة» و قد ساء المنصور ذلك، و ثقل عليه عدم اعتناء الامام به فراح يطيل التفكير في اغتياله.

و صمم الطاغية علي ان يقدم علي أخطر موبقة و أعظم جريمة في الاسلام غير حافل بالعار و النار، فدس الي الامام سما فاتكا علي يد عامله علي يثرب و لما تناوله الامام تقطعت أمعاؤه و أخذ يعاني الآلام القاسية. و الأوجاع المؤلمة، و لما شعر بدنو الأجل المحتوم منه أمر باحضار آله، و من يمت اليه و بعد اجتماعهم عنده زودهم بهذه الوصية القيمة قائلا:

«ان شفاعتنا لا تنال مستخفا بالصلاة»

ثم انه عهد بأمره سرا الي ولده الامام موسي (ع) و أوصاه بوصاياه الخاصة، و عهد بأمره امام الناس الي خمسة أشخاص، و هم أبوجعفر المنصور، و محمد بن سليمان، و عبدالله، و موسي، و حميدة، و انما فعل



[ صفحه 416]



ذلك خوفا علي ولده من السلطة الكافرة كما تبين ذلك بوضوح بعد وفاته فقد كتب المنصور الي عامله يأمره بقتل وصي الامام ان كان معينا، فرد عليه عامله أنهم خمسة و هو أحدهم، فقال المنصور ليس الي قتل هؤلاء من سبيل.

واشتد الألم بالامام فأخذ يعاني الأوجاع القاسية، و لما دنا منه الأجل المحتوم اخذ يتلو آيات من الذكر الحكيم و يناجي ربه و يبتهل اليه حتي فاضت نفسه الزكية الي جنة المأوي، و سمت الي الرفيق الاعلي تلك النفس العظيمة التي لم يخلق لها نظير فيما مضي من سالف الزمن - عدا آبائه - و ما هو آت حلما و علما و برا و عطفا علي جميع الناس.

لقد مات عميد الاسلام و الموجه الأول للقافلة الاسلامية الذي بذل بدوره جميع جهوده في اشعاع الفكر الانساني و بث روح العلم و الفضيلة بين الناس و كان موته من الأحداث الخطيرة التي مني بها العالم الاسلامي فلقد اهتزت جميع ارجائه لهو له.

وارنفعت الصيحة من بيوت. الهاشميين و علا الصراخ و العويل من بيوت يثرب، و هرعت الناس كعرف الضبع و هم ما بين واجم و صائح و مشدوه و نائح علي فقد الراحل العظيم الذي كان ملاذا لهم و مفزعا في جميع الامور و قام الامام موسي (ع) و هو مكلوم القلب قد ذابت نفسه أسي و حسرات فأخذ في تجهيز أبيه، و هو يذرف من الدموع مهما ساعدته الجفون فغسل الجسد الطاهر و كفنه بثوبين شطويين [2] كان يحرم فيهما، و في قميص و عمامة كانت للامام زين العابدين (ع) ولفه ببرد اشتراه الامام موسي (ع) باربعين دينارا، و بعد الفراغ من تجهيزه صلي عليه الامام موسي (ع)، ثم حمل الجثمان المقدس علي أطراف الأنامل و قد احتفت به الجماهير الحاشدة،



[ صفحه 417]



و جي ء به الي البقيع المقدس فدفن في مقره الأخير بجوار أبيه الباقر و جده زين العابدين (ع)، و وقف علي حافة القبر الشاعر الشهير أبوهريرة فأخذ يؤبن الامام بهذه الأبيات:



أقول و قد راحوا به يحملونه

علي كاهل من حامليه و عاتق



أتدرون ماذا تحملون الي الثري

ثبيرا ثوي من رأس علياء شاهق



غداة... الحاثون فوق ضريحه

ترابا و قبلا كان فوق المفارق [3] .



و بعد الفراغ من دفن الامام (ع) و تأبينه أقبل المسلمون يرفعون الي الامام موسي التعازي و يبدون له المواساة بمصابه الأليم و هو واقف يشكرهم علي مواساتهم و تعازيهم، ثم قفل راجعا الي ثويه، و قد احتف به أهل بيته و خلص أصحابه، و أمر (ع) بالوقت ان يوضع ضياء في المحل الذي قبض فيه أبوه جريا علي السنة، و بقي ذلك الضياء يوقد في كل يوم حتي اعتقل (ع) في العراق [4] .

و تقلد الامام منصب الزعامة الكبري بعد وفاة أبيه، و كان عمره الشريف آنذاك عشرين سنة [5] و المنصور في السنة العاشرة من سلطانه،


پاورقي

[1] بحارالأنوار 47 / 195 - 199،مهج الدعوات (ص 192).

[2] شطويين: مفرده شطا احدي قري مصر.

[3] اصول الكافي.

[4] الجواهر: كتاب الطهارة.

[5] صفة الصفوة.