بازگشت

مع أبي حنيفة


كان أبوحنيفة من الذاهبين الي (الجبر) و الداعين اليه، و ينص هذا الرأي علي ان الفعل الصادر من الانسان ليس مخلوقا له، و ليس صادرا منه باختياره، و انما هو مخلوق لله، و صادر عن ارادة الله، و ان ارادة الانسان و قدرته لا مدخل لها في ايجاد أي فعل سواء أكان صادرا منه باختياره أم مكرها عليه، و قد اجمعت الشيعة علي بطلان ذلك، و بعده عن الصواب و قد أثبت علماء الاصول زيفه، و قرروا بصورة وجدانية ان أي فعل اختياري لابد أن يسبق بمقدمات ارادية و هي:

1- تصور الشي ء في الذهن

2- ميل النفس له

3- الجزم بفائدته

فاذا تمت هذه الجهاد في أفق النفس تعلقت الارادة بالفعل، و سعي الانسان لا يجاده أو الي الامر به، حسنا كان ذلك العمل او قبيحا [1] و ليس هناك أي قسر أو اجبار للانسان علي فعله.

و علي أي حال فان أباحنيفة في طليعة الذاهبين الي «الجبر» و قد سافر



[ صفحه 64]



الي يثرب ليحاجج الامام الصادق (ع) الذي عرف بانه من خصوم هذه الفكرة، و لما انتهي اليها قصد دارالامام، و جلس في دهليز الدار ينتظر الأذن و بينما هو جالس اذ خرج صبي يدرج فبادره أبوحنيفة قائلا:

«أين يضع الغريب؟»

فالتفت اليه الصبي، و قال له: علي رسلك، ثم جلس متأدبا، واستند الي الحائط، وانبري اليه يجيبه عن سؤاله قائلا:

«توق شطوط الانهار، و مساقط الثمار، و أفنية المساجد، و قارعة الطريق و توار خلف الجدار، و لا تستقبل القبلة، و لا تستدبرها، وضع أين شئت» و قد بين له الاماكن التي يكره و يحرم فيها التغوط، فبهر أبوحنيفة و ذهل فانه لم يحسب أن هناك صبيا يملك هذه المقدرة العلمية، واندفع قائلا:

- مااسمك؟

- موسي بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب و لما عرف أبوحنيفة أن الصبي فرع من دوحة النبوة و الامامة اطمأنت نفسه، و تقدم اليه بالسؤال الذي أعده للامام الصادق قائلا:

«يا غلام ممن المعصية؟ هل هي من الله أو من العبد؟»

و انطلق الامام فأجابه:

«لا تخلو أما أن تكون من الله، و ليس من العبد شي ء، فليس لله أن يأخذ العبد بما لم يفعل، و أما أن تكون من العبد و من الله، والله أقوي الشريكين، فليس للشريك القوي أن يأخذ الضعيف بذنب هما فيه سواء، و اما أن تكون من العبد، و ليست من الله فان شاء عفا، و ان شاء عاقب و هو المستعين..».

و حفل هذا الاستدلال بمقتضي الحصر العقلي بجميع مقومات الأدلة العلمية الوثيقة التي لا تقبل الحل أو النقض.



[ صفحه 65]



و وقف أبوحنيفة مبهورا قد ملئت الدهشة اهابه فانطلق يرفع عقيرته قائلا:

«قد استغنيت، بما سمعت!!»

و خرج منهزما قد بان عليه العجز، و لم يجتمع بالامام الصادق، و قد شاع رد الامام عليه و عجزه عن جوابه في الاوساط العلمية، و قد انبري بعض الشعراء الي نظم جوابه (ع) بقوله:



لم تخل أفعالنا اللاتي نذم بها

احدي ثلاث معان حين نأتيها



اما تفرد بارينا بصنعتها

فيسقط اللوم عنا حين ننشيها



أو كان يشركنا فيها فيلحقه

ما سوف يلحقنا من لائم فيها



أو لم يكن لالهي في جنايتها

ذنب فما الذنب الا ذنب جانيها [2] .



لقد دلت هذه البادرة علي مدي ما وصل اليه الامام موسي من العلوم و المعارف في سنه المبكر، فقد ادرك ما لا تدركه أفكار كبار العلماء، حتي لم يستطع أبوحنيفة الوقوف أمام منطقه الفياض، و لم يجد طريقا أسلم له و لا احفظ لمكانته سوي الانهزام، و عدم الخوض معه بأي مسألة من المسائل و بهذا فق ثبت أنه كان يملك رصيدا كبيرا من العلم و الذكاء ما لا يملكه أي انسان في هذا السن عدا من خص بالامامة من آبائه و ابنائه.


پاورقي

[1] أوضح هذه الامور و أولاها بمزيد من البيان و الاستدلال الاستاذ آية الله العظمي السيد أبوالقاسم الخوئي، في بحوثه في علم الاصول، و قد استدل بالادلة الحاسمة علي بطلان الجبر و التفويض و أثبت «الامر بين الامرين» و هو ما ذهب اليه أئمة أهل البيت و قد دونا ما أفاده في كتابنا «تقريرات آية الله الخوئي) في علم الاصول.

[2] امالي المرتضي 1 / 105 - 106، بحارالانوار 4 / 1049.