بازگشت

ابن أبي ذئب


و دخل جماعة من كبار الفقهاء في الاسلام علي المنصور عندما ولي الخلافة، و كان مجلسه مهيبا مفزعا، فقد جلس علي فراش قد نظم بالدر و الأحجار الكريمة، و أحاط به جمع من حراسه قد شهروا السيوف يترقبون صدور الأمر منه باعدام أي شخص كان، و لما استقر المجلس بالفقهاء رمقهم المنصور بطرفه و هو يقطر غضبا و حنقا عليهم، قائلا لهم:

«أما بعد يا معشر الفقهاء، فقد بلغ أميرالمؤمنين عنكم ما أخشن صدره، و ضاق به ذرعه، و كنتم أحق الناس بلزوم الطاعة و النصيحة في السر و العلانية لمن استخلفه الله عليكم».

فانطلق اليه الزعيم الديني مالك بن أنس يظهر له الطاعة و كذب الوشاة عليهم قائلا:

«يا أميرالمؤمنين، قال الله تعالي: «يا أيها الذين آمنوا ان جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا علي ما فعلتم نادمين»

فهدأت ثورة المنصور و سكن غضبه و التفت اليهم قائلا:



[ صفحه 424]



«أي الرجال أنا عندكم؟ أمن أئمة العدل أم من أئمة الجور؟»

و توسل اليه مالك بالله، و تشفع اليه بالنبي (ص) أن يعفيه عن الجواب فعفاه عنه وانبري اليه ابن سمعان الذي كان من «وعاظ السلاطيين» مبينا له أنه ظل الله في ارضه و انه رمز العدالة و محقق السلام بين الناس قائلا له:

«أنت والله خير الرجال، يا أميرالمؤمنين، تحج بيت الله الحرام، و تجاهد العدو، و تؤمن السبل، و يأمن الضعيف بك أن يأكله القوي، وبك قوام الدين، فأنت خير الرجال و أعدل الأئمة».

و قد تزلف الي المنصور بهذا المنطق الرخيص الذي هو منطق العملاء و العبيد فانه ينم عن نفس طبع عليها الخنوع و النفاق، و التفت المنصور الي ابن أبي ذئب [1] قائلا له:

«ناشدتك الله، أي الرجال أنا عندك؟»

فانطلق مجيبا له كالاسد الهادر لم يخفه ذلك المنظر الرهيب و لم يخش بأس تلك السلطة الجائرة، فقد كان يملك ضميرا حيا، و رصيدا قويا من الايمان و العقيدة قائلا له:

«أنت والله عندي شر الرجال، استأثرت بمال الله و رسوله، و سهم



[ صفحه 425]



ذوي القربي و اليتامي و المساكين، و أهلكت الضعيف، و أتعبت القوي، و أمسكت أموالهم، فما حجتك غدا بين يدي الله:

و ما وسع المنصور أمام لسع الحق الا أن يغضب و يصيح:

«ويحك!! ما تقول؟: أتعقل؟ أنظر ما أمامك؟ - و أشار الي الجلادين».

فانبري اليه مبينا له عدم اعتنائه بهم قائلا:

«نعم، قد رأيت أسيافا، و انما هو الموت، و لابد منه عاجله خير من آجله..».

وقام عنه، و قد حطم كيانه بهذه الصراحة التي انبعثت عن ضمير حي [2] .


پاورقي

[1] ابن ابي ذئب هو محمد بن عبدالرحمن القرشي العامري المدني الفقيه قال احمد بن حنبل: كان ابن أبي ذئب افضل من مالك الا أن مالكا أشد تنقية للرجال منه، و قال الواقدي: انه من أورع الناس و أفضلهم، ولد سنة ثمانين، و كان قوالا بالحق لا يهاب السلطة، فقد دخل المهدي مسجد النبي (ص) فلم يبق أحد من الناس الا قام له اجلالا و تكريما سوي ابن أبي ذئب، فقيل له: قم فهذا اميرالمؤمنين، قال انما يقوم الناس لرب العالمين، توفي سنة 159 ه جاء ذلك في تذكرة الحفاظ (ج 1 ص 179 - 181).

[2] الامامة و السياسة (ج 2 ص 185 - 187).