بازگشت

مقدمة الطبعة الأولي


بسم الله الرحمن الرحيم

(1)

الامام موسي بن جعفر عليه السلام فذ من أفذاذ العقل الانساني، و من كبار أئمة المسلمين، و أحد شموع ذلك الثقل الأكبر الذي اضاء الحياة الفكرية في الاسلام.

الامام موسي من أئمة العترة الطاهرة الذين قرنهم الرسول الاعظم (ص) بمحكم التنزيل، و جعلهم قدوة لأولي الالباب، و سفنا للنجاة و أمنا للعباد، و جعلهم باب حطة يغفر لمن دخلها، فهم شجرة النبوة و محط الرسالة، و مختلف الملائكة، و معادن العلم، و ينابيع الحكم - كما يقول الامام اميرالمؤمنين - [1] و لهم في مدح الله غني عن مدح المادحين و وصف الواصفين، قال تعالي:«انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا» [2] لقد طهرهم الله من الزيغ و الرجس و برأهم من الآفات كما أوضح بهم معالم الدين، و أتم بهم الحجة علي الخلق أجمعين.

لقد حاكت سيرتهم بجميع أبعادها سيرة جدهم (ص)، ايمانا بالله، و حبا للخير و نكرانا للذات... و لو استعرضنا حياة أي امام منهم لوجدناها مجدبة من المغريات، لم تتلوث باقذار المادة، و لم تكدر جوهرها مآثم هذه



[ صفحه 29]



الحياة، و انما كانت طافحة بالمآثر و الفضائل، فهم جميعا في بداية حياتهم و نهايتها قدوة فذة لكل انسان نبيل يتطلع الي المثالية الكاملة، و يهفو الي الانسانية الرفيعة.

(2)

ان للامام موسي (ع) سيرة ندية عطرة امتازت بأنها سلسلة جهاد متواصل و ثورة صاخبة علي أئمة الظلم و الطغيان الذين اغتصبوا الخلافة الاسلامية من أهلها بالغلبة والقوة، و أكرهوا العالم الاسلامي علي الخضوع لسياستهم الملتوية التي روعت المجتمع، و سلبته حرياته، و أفقدته الأمن والدعة و الاستقرار.

في تلك الفترات العصيبة أعلن الامام موسي مقاومته السلبية لحكومة هارون و تولي بنفسه قيادة الحزب المعارض فاصدر فتواه و حكمه بحرمة التعاون مع الاجهزة الحاكمة لأن التعاون معهم فيه دعم للظالمين، و قد حرمه الاسلام قال تعالي: (و لا تركنوا الي الذين ظلموا فتمسكم النار و ما لكم من دون الله من أولياء ثم لاتنصرون) [3] واستثني من ذلك من يقوم بخدمة اجتماعية أو يسدي يدا علي الفقراء فيقضي مهامهم و شؤونهم فانه لا حرج عليه في الانضمام الي السلك الحاكم، و قد سمح لعلي بن يقطين أن يتولي منصب الوزارة لهارون حينما ضمن له القيام بذلك.

ان الامام لو صانع هارون الرشيد أو تقرب اليه و جاراه - كالكثيرين من باعة الضمير - لا غدق عليه بالاموال الكثيرة و الثراء العريض، و لم يتعرض اليه بأي سوء أو مكروه، الا انه لم يخضع له، و لم يخف من جوره و بطشه فانطلق يعلن الحق، و يندد بالظلم، و يشجب الجور، و يدعو الي تطبيق احكام القرآن علي واقع الحياة، و قد لاقي في سبيل ذلك العناء المرهق



[ صفحه 30]



والجهد الشاق، و قد تلقي تلك الآلام الجسام بالصبر الجميل و كظم الغيظ حتي عرف بهذا اللقب واشتهر به.

(2)

و لم يقتصر الامام موسي وحده علي ما لاقاه من المحن و الخطوب فقد شاركه فيها جمهور شيعته والقائلين بامامته فقد واجهوا من العناء و الجهد ما لا سبيل الي تصويره، و يعود السبب في ذلك الي ايمانهم الوثيق بالامامة و هي عنصر أساسي في كيانهم العقائدي، و تقضي هذه الفكرة بعدم شرعية الحكومات التي توالت علي المسلمين سواء أ كانت من بني أمية أم من بني العباس ام من غيرهم، فان الذين تصدوا الي الحكم لم تتوفر فيهم الصفات التي ينشدونها في الامام من العدالة، و التحرج في الدين، و العلم بما تحتاجه الامة في جميع مجالاتها القضائية الادارية و السياسية، فلذا كانوا يعملون جاهدين علي اسقاط تلك الحكومات، و سلب ثقة الجماهير عنها، و قد واجهوا في سبيل ذلك من المعضلات السياسية القاسية مالم تلاقه أي طائفة اسلامية.

و مما زاد الشيعة علي الايمان بالنضال الشاق في سبيل فكرتهم أنهم رؤوا أولئك الملوك الذين اختلسوا السلطة الاسلامية قد امعنوا في الظلم و الجور، و جهدوا علي ارغام الناس علي الذل و العبودية، و علي قطع كل لسان يأمر بالمعروف و ينهي عن المنكر.

و رؤوا أولئك الملوك الذين يزعمون أنهم يمثلون ظل الله و عدله في الأرض ينفقون لياليهم في الطرب و المجون و السكر، و ينفقون أيامهم في البحث عن الفتيات الحسان اللاتي يجدن العزف ويثرن الغرام.

و رؤوا خزينة الدولة تنفق بسخاء علي العابثين و الماجنين، و علي ما يفسد الاخلاق، و يثير الشهوات، و لم يعد ما يصرف منها علي الشؤون العامة الا النزر اليسير، و اصبحت الحياة الاقتصادية بصورة عامة يسودها



[ صفحه 31]



الفقر و الحرمان.

و رؤوا أن مصالح الأمة لم توضع علي مائدة البحث قد أهملت جميع شؤونها و أمورها، فقد اقبل أولئك الملوك علي الملذات و الشهوات، و تركوا امور الرعية بأيدي غلمانهم و جواريهم و نسائهم يتصرفون فيها حسب أهوائهم و ميولهم.

و رؤوا شؤون الدين قد أهملت، و لم يعد اي ظل للخطوط العريضة التي ينشدها الاسلامي في ظل حكمه من بسط العدل، و نشر الرفاهية، و اشاعة الدعة و الاستقرار بين الناس.

و دفعتهم هذه العوامل الي الثورات الملتهبة، و هم يطالبون بتحقيق العدالة و رفع الغبن والاسي عن الناس، و أمعنت السلطات بعد اخماد ثوراتهم في قتلهم و تنكيلهم و ارهاقهم الي حد لايوصف لفضاعته و مرارته.

(4)

و أروع ثورة اجتماعية عرفها التاريخ الاسلامي ثورة الامام اميرالمؤمنين رائد العدالة الكبري في الأرض، فقد كانت ثورته الصاخبة علي الظلم و الغبن تستهدف اقامة مجتمع تتهيأ فيه الفرص المتكافئة لجميع الناس علي اختلاف ميولهم و أديانهم بحيث لا يوجد فيهم محروم او عاطل.

لقد حاول الامام أن يغير مجري التأريخ، و يدفع الانسان الي التطور الاجتماعي و بحقق له المزيد من المكاسب الاجتماعية، فيوفر له الحرية و العدالة و المساواة في ضمن اطارها الاسلامي الاصيل.

لقد حاول الامام باخلاص بالغ أن يقيم علي الكرة الارضية نهضة فكرية جبارة تعني باشاعة العلم، و تطوير العمل، و اقامة مناهج تربوية تغير السلوك العام للانسان فتبث في اعماقه روح الايمان و المحبة و التعاون في المجالات الاجتماعية، و تزيل عنه روح الانانية و الكراهة و الشر، الي غير ذلك من



[ صفحه 32]



الاهداف العريضة التي كان ينشدها الامام في ظل حكومته.

و لم تع القوي المنحرفة عن الاسلام هذه الاهداف الاجتماعية التي اعلنها الامام، فانها لم تكن بأي حال تهتم بمصلحة الأمة، و انما كانت تتطلب اقامة نفوذها و استغلالها علي حساب الضعيف و المحروم فأعلنت سخطها علي الامام، واعلنت الحرب عليه، و قد تذرعت بدم عثمان واتخذته وسيلة لعصيانها المسلح، فقاومها الامام و قضي علي فاولها في البصرة الا انه لم يمض قليل من الوقت حتي ناجزه معاوية و بعد صراع رهيب استطاعت جيوش الامام ان تدحر القوي الاموية الا انه من المؤسف أن الجيش الذي خف مع الامام لم يقرر حق مصيره و مصير الاجيال الصاعدة فقد خدعهم ابن العاص برفع المصاحف بأسلوب ساخر هزيل، و قد أدي ذلك الي انقلاب الجيش علي اعقابه و تفلل جميع قواعده، كما أدي الي خذلان الامام (ع) وانتصار القوي المعادية للاسلام عليه، و قد نجم من ذلك أن مني العالم الاسلامي بكثير من النكبات والخطوب التي لا تزال آثارها باقية حتي يوم الناس هذا، و قد ألمع الي ذلك الاستاذ مالك بن نبي الجزائري في ايضاحه للمقررات التي اتخذها مؤتمر (باندونج) اذ يقول: «و لقد عرف التأريخ الاسلامي لحظة كهذه - أي في تقرير المصير - في معركة صفين تلك الحادثة المؤسفة المؤثرة التي نتج عنها التذبذب في الاختيار، الاختيار الحتم بين علي و معاوية، بين المدينة و دمشق، بين الحكم الديمقراطي الخليفي، و الحكم الأسري و لقد اختار المجتمع الاسلامي في هذه النقطة الفاصلة في تأريخه الطريق الذي قاده اخيرا الي القابلية للاستعمار والي الاستعمار» [4] .

لقد كانت حادثة صفين بداية الشر و بداية الانقلاب في تأريخ الأمة الاسلامية، فقد اخلدت لها الفتن، و جرت لها الويلات و الكوارث، و كان



[ صفحه 33]



من أظهر مخلفاتها امانة الوعي الاسلامي في النفوس و الخنوع أمام الظلم و الجور، و قد مثل ذلك بصورة مؤلمة حقا في مأساة الامام موسي (ع) فان هارون قد زجه في ظلمات السجون في بغداد و هي زاخرة بالمسلمين و القائلين بامامته في حين لم تنبر منهم طائفة الي المطالبة باطلاق سراحه، حتي توفي غريبا في سجن السندي بن شاهك فعمد الي وضع جثمانه علي جسر الرصافة ببغداد محاولا بذلك الحط من شأنه، و لم يهبوا الي انقاذه من أيدي الشرطة، ان سبب ذلك يرجع الي الخنوع والذل الذي خيم علي النفوس.

(5)

و كان من أهم ما عني به الامام موسي (ع) نشر الثقافة الاسلامية و اشاعة المعارف العامة بين الناس، و قد عملت تعاليمه الرفيعة علي تنمية العقول، و تثقيف الافكار، و تقديم المسلمين في الميادين العلمية.

لقد احتف بالامام اثناء اقامته في يثرب جمع غفير من كبار العلماء و رواة الحديث ممن تتلمذوا في جامعة أبيه الكبري التي انارت العقل الانساني و اطلقته من عقال الجهل، و قد أفاض عليهم الامام الشي ء الكثير من علومه و معارفه التي هي مستمدة من علم جده الرسول (ص) كما زود الفقه الاسلامي بطاقات كبيرة من آرائه الحصيفة، و رواياته عن آبائه، و له تنسب مجموعة كثيرة من الاحكام الاسلامية بجميع أنواعها من العبادات و المعاملات، و قد دونت في موسوعات الحديث و الفقه، و نظرا لمركزه العلمي الخطير فقد شاع ذكره في البلاد الاسلامية، و تحدث الركبان بوفرة مواهبه و مقدراته العلمية و قد دان شطر كبير من المسلمين بامامته و جعلوا مودته و الأخذ بقوله فرضا من فروض الدين.

و كان اجماع المسلمين علي تكريمه و تعظيمه و تقديمه بالفضل علي سائر الهاشميين و غيرهم من اعلام العصر بل حتي علي الخلفاء، فان ذلك موجب



[ صفحه 34]



لا ثارة الاحقاد عليه، و الحسد له في نفوس خصومه، فاجمعوا علي التنكيل به و حجبه عن العلماء و حرمانهم من الانتهال من نمير علومه، و بذلك فقد جنوا علي العلم جناية لا تعدلها أي جناية.

لقد اضطر العلماء اثناء حبس الامام في البصرة و في بغداد ان يتصلوا به و يأخذوا من علومه ولكن ذلك كان مع تستر و خوف بالغين من السلطة التي لم تكن تهتم بالتقدم العلمي لشعوبها.

(6)

و نقدم الي المكتبة الأسلامية هذا المجهود المتواضع الذي هو صفحة من حياة الامام موسي، و مثل موجز لشخصيته العظيمة، و لا نزعم انه قد استوعب حياته، أو ألم بجميع شؤونه، فذاك أمر لا تسعه عشرات من أمثال هذا الكتاب، فان الباحث المتتبع يجد صورا مشرقة كثيرة من حياته، و ما أثر عنه من حكم الآراء سواءأ كانت في ميادين السلوك و الاخلاق أم في غيرها و انما أعطي صورة موجزة لبعض مثله و معارفه و تراثه، كما ذكر كوكبة من اصحابه و رواة حديثه و ابنائه مع الالماع الي شي ء من تراجمهم، و اعطي دراسة عن العصر العباسي الأول و ما مر فيه من الازمات الفكرية و الاحداث الخطيرة كما عرض الي الاسباب التي أدت الي انهيار الامبراطورية الاموية، و بحث عن اعمال ملوك بني العباس المعاصرين له، و ما نشروه من الظلم و الاضطهاد تجاه العلوين، و نختلف كثيرا في هذه البحوث عن بقية المؤرخين فانا لا نقف علي نقل الاحداث، و انما ننظر اليها بدقة و شمول فنحللها، و نكشف عن ابعادها، و قد بحثنا عن ذلك كله ببحث موضوعي بعيد عن التحيز و رائدنا الاخلاص للحق راجين ان يكون ذلك خدمة للاسلام و خدمة لعلم من اعلامه النابهين و هو تعالي ولي التوفيق.

المؤلف



[ صفحه 37]




پاورقي

[1] شرح النهج 1 / 214.

[2] سورة الأحزاب، نصت المصادر التالية علي اختصاص الآية بآل البيت تفسير الرازي 6 / 783، تفسير ابن جرير 22 / 5، مسند الامام احمد بن حنبل 4 / 107، سنن البيهقي 2 / 150، صحيح مسلم 2 / 331، الخصائص الكبري 2 / 264، مشكل الآثار 1 / 334.

[3] سورة هود: آية 113.

[4] الفكرة الا فريقية الآسيوية في ضوء مؤتمر باندونج / 111.