بازگشت

صلاته


ان أجمل الساعات و أثمنها عند الامام (ع) هي الساعات التي يخلو بها مع الله عز اسمه فكان يقبل عليه بجميع مشاعره و عواطفه و قد حدث الرواة أنه اذا وقف بين يدي الله تعالي مصليا أو مناجيا أو داعيا ارسل ما في عينيه من دموع، و خفق قلبه، واضطرب موجدة و خوفا منه، و قد شغل أغلب أوقاته في الصلاة فكان يصلي نوافل الليل و يصلها بصلاة الصبح، ثم يعقب حتي تطلع الشمس، و يخر لله ساجدا فلا يرفع رأسه من الدعاء و التمجيد حتي يقرب زوال الشمس [1] ، من مظاهر طاعته انه دخل مسجد النبي (ص) في أول الليل فسجد سجدة واحدة و هو يقول بنبرات تقطر اخلاصا و خوفا منه:

«عظم الذنب عندي، فليحسن العفو من عندك، يا أهل التقوي، و يا أهل المغفرة».



[ صفحه 140]



و جعل يردد هذه الكلمات بانابة و خشوع و بكاء حتي أصبح الصبح [2] و لما أودعه طاغية زمانه الملك هارون الرشيد في ظلمات السحون تفرغ للطاعة و العبادة حتي بهر بذلك العقول و حير الألباب، فقد شكر الله علي تفرغه لطاعته قائلا:

«اللهم، اني طالما كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك، و قد استجبت مني فلك الحمد علي ذلك..» [3] .

لقد ضرب الامام الرقم القياسي للعبادة فلم يضارعه أحد في طاعته و اقباله علي الله، فقد هامت نفسه بحبه تعالي، وانطبع في قلبه الايمان العميق.

و حدث الشيباني [4] عن مدي عبادته، فقال:

كانت لأبي الحسن موسي (ع) في بضع عشر سنه سجدة في كل يوم بعد ابيضاض الشمس الي وقت الزوال [5] ، و قد اعترف عدوه هارون الرشيد بأنه المثل الأعلي للانابة و الايمان، و ذلك حينما أودعه في سجن



[ صفحه 141]



الربيع [6] فكان يطل من أعلي القصر فيري ثوبا مطروحا في مكان خاص



[ صفحه 142]



من البيت لم يتغير عن موضعه فيتعجب من ذلك و يقول للربيع:

- ما ذاك الثوب الذي أراه كل يوم في ذلك الموضع؟!.

- يا أميرالمؤمنين: ما ذاك بثوب، و انما هو موسي بن جعفر، له في كل يوم سجدة بعد طلوع الشمس الي وقت الزوال.

فبهر هارون و انطلق يبدي اعجابه.

- اما ان هذا من رهبان بني هاشم!!

والتفت اليه الربيع بعدما سمع منه اعترافه بزهد الامام و عزوفه عن الدنيا طالبا أن يطلق سراحه و لا يضيق عليه قائلا:

- يا أميرالمؤمنين: ما لك قد ضيقت عليه في الحبس!!؟

فأجابه هارون بما انطوت عليه نفسه من عدم الرحمة و الرأفة قائلا:

«هيهات: لابد من ذلك!.» [7] .

ان هارون يعلم مآثر الامام و زهده، ولكن حرصه علي الدنيا وحبه للملك هو الذي أعماه لأن يضيق علي الامام، و سنوضح ذلك بمزيد من البيان عند التعرض لما لاقاه الامام منه من الخطوب الهائلة و المحن السود.

و روت شقيقة السندي بن شاهك - حينما سجن الامام في بيت أخيها - عن عبادة الامام فقالت:

«انه اذا صلي العتمة حمد الله و مجده و دعاه الي أن يزول الليل، ثم



[ صفحه 143]



يقوم، و يصلي حتي يطلع الصبح، فيصلي الصبح، ثم يذكر الله حتي تطلع الشمس، ثم يقعد الي ارتفاع الضحي، ثم يرقد و يستيقظ قبل الزوال، ثم يتوضأ و يصلي حتي يصلي العصر، ثم يذكر الله حتي يصلي المغرب، ثم يصلي ما بين المغرب و العتمة، فكان هذا دأبه الي أن مات» [8] ، و هذه البوادر التي نقلت دلت علي شغف الامام بالعبادة و اقباله علي الله و قد شغل أغلب أوقاته في الصلاة، و لكثرة سجوده فقد كانت له ثفنات كثفنات البعير، و كان له غلام يقص اللحم من جبينه و عرنين أنفه، و قد ألمع الي ذلك بعض الشعراء بقوله:



طالت لطول سجود منه ثفنته

فقرحت جبهة منه و عرنينا



رأي فراغته في السجن منيته

و نعمة شكر الباري بها حينا [9] .




پاورقي

[1] كشف الغمة: ص 276.

[2] وفيات الأعيان: (ج 4 ص 293) و كنز اللغة: ص 766.

[3] وفيات الأعيان (ج 4 ص 293) المناقب (ج 2 ص 379).

[4] الشيباني: هو أبوعبدالله محمد بن الحسن مولي لبني شيبان حضر مجلس أبي حنيفة سنين، و تفقه علي أبي يوسف، و صنف الكتب الكثيرة و نشر علم أبي حنيفة و قال الشافعي: حملت من علم محمد بن الحسن وقر بعير و قال أيضا: ما رأيت أحدا يسأل عن مسألة فيها نظر الا تبينت في وجهه الكراهة الا محمد بن الحسن. توفي بالري سنة 187 ه و هو ابن ثمان و خمسين سنة جاء ذلك في طبقات الفقهاء: ص 114.

[5] البحار: (ج 11 ص 298).

[6] الربيع بن يونس كان حاجبا للمنصور ثم صار وزيرا له بعد أبي أيوب، و كان المنصور كثير الميل اليه حسن الاعتماد عليه قال له يوما: ويحك، يا ربيع ما أطيب الدنيا لولا الموت، فقال له الربيع: ما طابت الدنيا الا بالموت، قال له: و كيف ذلك؟ فأجابه لولا الموت لم تقعد هذا المقعد، فقال له: صدقت، و قال له المنصور: لما حضرته الوفاة بعنا الآخرة بنومة، و يقال ان الربيع لم يكن له أب يعرف، و ان بعض الهاشميين و فد علي المنصور فجعل يحدثه و يقول له: كان أبي رحمه الله، و كان، و كان، و أكثر من الترحم عليه، فقال له الربيع: كم تترحم علي أبيك بحضرة أميرالمؤمنين؟ فقال له الهاشمي: أنت معذور لأنك لا تعرف مقدار الآباء فخجل، أشد الخجل، و من أبدع الصدف التي اتفقت للربيع مع المنصور انه لما دخل المدينة قال له: ابغني رجلا عاقلا عالما ليوقفني علي دورها فقد بعد عهدي بديار قومي، فالتمس له الربيع فتي من أعلم الناس و أعقلهم، فكان لا يبتدي ء بالاخبار عن شي ء حتي يسأله المنصور فيجيبه بأحسن عبارة و أجود بيان و أوفي معني، فأعجب المنصور به فأمر له بمال فتأخر عنه، ودعته الضرورة الي استنجازه، فاجتاز المنصور و معه الفتي ببيت عاتكة الأموية، فقال له: يا أميرالمؤمنين هذا بيت عاتكة التي يقول فيها الأحوص بن محمد الانصاري:



يا بيت عاتكة الذي أتغزل

حذر العدي و به الفؤاد موكل



اني لأمنحك الصدود و انني

قسما اليك مع الصدود لأميل



ففكر المنصور في قوله، و قال انه لم يخالف عادته بابتداء الاخبار دون الاستخبار الا لأمر و أقبل يردد القصيدة و يتصفحها بيتا فبيتا حتي انتهي الي قوله فيها:



و أراك تفعل ما تقول و بعضهم

مذق الحديث يقول ما لا يفعل



فقال المنصور للربيع: هل أوصلت الي الرجل ما أمرنا له به، فقال له: تأخر عنه لعلة فقال: عجله له مضاعفا، و هذا الطف تعريض من الفتي و أحسن فهم من المنصور، توفي الربيع سنة 170 ه جاء ذلك في وفيات الأعيان: (ج 1 ص 231 - 233) ط بولاق.

[7] البحار: (ج 11 ص 298).

[8] تأريخ أبي الفداء: (ج 2 ص 12).

[9] الأنوار البهية: ص 93.