بازگشت

جوده و سخاؤه


والامام موسي (ع) من أرقي أمثلة التكامل الانساني في مواهبه، و من تلك المواهب الكريمة الماثلة فيه أنه كان ندي الكف، مبسوط اليدين بالعطاء و مما لا شبهة فيه أن السخاء انما ينم عن طيب النفس، اذا كان بداعي الخير و الاحسان لا بدواع أخري كحب الظهور و ذيوع الاسم فان ذلك لا يعد من السخاء بل يباينه بكل ما للتباين من معني.

لقد تجلي الكرم الواقعي، و السخاء الحقيقي في الامام فكان مضرب المثل للكرم و المعروف، فقد فزع اليه البائسون و المحرومون لينقذهم من كابوس الفقر و جحيم البؤس و قد أجمع المؤرخون أنه أنفق عليه السلام جميع ما عنده عليهم كل ذلك في سبيل الله لم ييتغ من أحد جزاءا أو شكورا، و كان (ع) في صلاته يتطلب الكتمان و عدم الذيوع لئلا يشاهد علي الآخذ ذلة الحاجة و كان يلتمس في ذلك وجه الله و رضاه، و لهذا كان يخرج في غلس الليل البهيم فيوصل الطبقة الضعيفة ببره و احسانه و هي لا تعلم من أي جهة تصلها تلك المبرة، و كان يوصلهم بصراره التي تتراوح ما بين المائتي دينار الي الاربعمائة دينار [1] و كان يضرب المثل بتلك الصرار فكان أهله يقولون:

«عجبا لمن جاءته صرار موسي و هو يشتكي القلة و الفقر!!» [2] .

و بلغ من عطفه المستفيض أنه اذا بلغه عن شخص يؤذيه و يسي ء اليه بعث له بصرة فيها الف دينار [3] ، و قد قامت هباته السرية و صلاته الخفية



[ صفحه 151]



باعاشة فقراء يثرب، فكانوا جميعا يرتعون بنعمته و يعيشون من عطاياه،

و قد ذكر المؤرخون جمهرة كبيرة ممن أغدق عليهم الامام ببره، نقتصر منهم علي ما يلي:

1- محمد البكري:

و كانت لمحمد بن عبدالله البكري ديون علي جماعة من أهالي يثرب فقدم اليهم ليستحصل ديونه منهم فبقي مدة يطالبهم، و يلح عليهم فلم يظفر بشي ء من ديونه فعن له أن يتشرف بمقابلة الامام، و يشكو له الحاجة و الفقر، فمضي اليه و كان (ع) في بعض ضياعه (بنقمي) [4] ، و لما وصل الي محل الامام خرج عليه السلام و كان بخدمته غلام معه منسف [5] فيه قديد [6] مجزع [7] فاكلوا منه جميعا و بعد الفراغ من تناول الطعام سأله الامام عن حاله فأخبره بقصته و ضيق حاله، فقام عليه السلام فدخل البيت ثم خرج فأمر غلامه بالانصراف لئن يراه فيكون ذل علي السائل ثم أعطاه صرة فيها ثلثمائة دينار - لعلها اكثر من ديونه - فأخذها محمد و انصرف شاكرا للامام و داعيا له بالخير [8] .



[ صفحه 152]



2- غلام زنجي:

و خرج الامام من يثرب مع حاشيته و بعض أولاده الي ضياعه الواقعة بساية [9] و قبل الانتهاء اليه استراحوا في بعض المناطق المجاورة لها، و كان الوقت آنذاك شديد البرد، فبينما هم جلوس اذ خرج اليهم عبد زنجي فصيح اللسان و هو يحمل علي رأسه قدرا يفور، فوقف أمام غلمان الامام و قال لهم:

- أين سيدكم؟.

- هو ذاك - و أشاروا الي أبي الحسن -

- أبو من يكني؟.

- أبوالحسن.

فوقف بين يديه و هو يتضرع قائلا له:

- يا سيدي: هذه عصيدة أهديتها اليك.

فقبل الامام هديته و أمره بأن يضعها عند الغلمان فوضعها عندهم ثم انصرف فلم يلبث الا قليلا حتي أقبل و معه حزمة من الحطب فوقف قبال الامام و قال له:

- يا سيدي: هذا حطب أهديته اليك.

فقبل عليه السلام هديته و أمره أن يلتمس له قبسا من النار، فمضي قليلا ثم جاء بالنار فأمر الامام بكتابة اسمه و اسم مولاه و بعد تسجيله أمر بعض ولده بالاحتفاظ به عند الحاجة، ثم أنهم رحلوا الي ضياعهم فمكثوا فيها أياما، و بعدها اتجهوا الي بيت الله الحرام، فاعتمر (ع) فيه، و بعد فراغه أمر صاعدا أن يفتش عن مالك العبد و قال له:

«اذا علمت موضعه فاعلمني حتي أمشي اليه، فاني اكره أن أدعوه



[ صفحه 153]



و الحاجة لي».

فمضي ففتش عن الرجل حتي ظفر به، فعرفه و عرف أنه ممن يدين بالامامة، و بعد السلام عليه سأله الرجل عن قدوم الامام فأنكر عليه صاعد ذلك، ثم سأله عن سبب مجيئه فأخبره بأن له حوائج دعته الي السفر، فلم يقتنع الرجل بذلك و غلب علي ظنه تشريف الامام الي مكة، ثم ودعه صاعد و قفل راجعا الي الامام، فتبعه الرجل و سار علي أثره فالتفت صاعد فرآه يسير خلفه فكلما أراد التخلي عنه فلم يتمكن فسارا معا حتي أقبلا الي الامام فلما مثلا عنده أخذ (ع) يؤنب صاعدا علي اخبار الرجل بقدومه فاعتذر له بأنه لم يخبره ولكنه تبعه بغير اختيار منه، و بعدما استقر الرجل التفت عليه السلام اليه قائلا:

- غلامك فلان تبيعه؟.

- جعلت فداك، الغلام لك و الضيعة و جميع ما أملك.

- اما الضيعة فلا أحب أن أسلبكها..».

و جعل الرجل يتضرع الي الامام و يتوسل اليه ليقبلهما منه، و الامام ممتنع من اجابته، و أخيرا اشتري (ع) الغلام مع الضيعة بألف دينار فأعتق الغلام، و وهب له الضيعة، كل ذلك ليجازي الاحسان بالاحسان و يقابل المعروف بالمعروف، و قد وسع الله علي العبد ببركة الامام حتي اصبح أبناؤه من أثرياء مكة و صرافيها [10] .

3- عيسي بن محمد:

و حدث عيسي بن محمد القرطي قال: زرعت بطيخا و قثاء و قرعا [11] .



[ صفحه 154]



في موضع بالجوانية [12] علي بئر يقال لها أم عضام، فلما قرب الخير واستوي الزرع بغتني الجراد فأتي علي الزرع كله، و كنت قد غرمت عليه مع ثمن جملين مائة و عشرين دينارا، فبينما أنا جالس اذ طلع علي الامام موسي بن جعفر (ع) فسلم ثم قال لي:

- كيف حالك؟.

- أصبحت كالصريم [13] بغتني الجراد، فأكل زرعي.

- كم غرمت فيه؟

- مائة و عشرين دينارا مع ثمن الجملين.

فالتفت (ع) لعرفة، و قال له: زن لابن المغيث مائة و خمسين دينارا ثم قال لعيسي: فربحك ثلاثون دينارا مع الجملين [14] .

4- فقير:

و دخل علي الامام فقير يسأله العطاء فأراد (ع) اختباره ليكرمه علي مقدار معرفته فقال له:

- لو جعل لك التمني في الدنيا ما كنت تتمني؟.

- كنت أتمني أن ارزق التقية في ديني و قضاء حقوق اخواني.

فاستحسن (ع) جوابه و أمر بأن يعطي الف دينار [15] و قد حفلت كتب التأريخ بذكر الكثير من بره و احسانه علي البائسين فقد أغدق عليهم من



[ صفحه 155]



جوده و معروفه ما أغناهم به عن الحاجة و السؤال.

و من آيات كرمه (ع) أنه أولم وليمة في مناسبة لبعض أولاده فأطعم أهالي يثرب اطعاما شاملا ثلاثة أيام، فعابه علي ذلك بعض حساده، فقال (ع):

«ما آتي الله نبيا من أنبيائه شيئا الا و قد آتي محمدا (ص) و زاده ما لم يؤتهم قال تعالي لسليمان بن داود: «هذا عطاؤنا فامنن أو امسك بغير حساب [16] [17] ، و كان (ع) يقول:

«من موجبات المغرفة اطعام الطعام» [18] .

و كان (ع) لا يري للمال قيمة سوي ما يرد به جوع جائع أو يكسو به عاريا، و قد تلقي هذه الصفة الرفيعة من آبائه الذين ضربوا أسمي الأمثلة للجود و السخاء و المعروف.


پاورقي

[1] تأريخ بغداد: (ج 13 ص 28) كنز اللغة: ص 766.

[2] عمدة الطالب: ص 185.

[3] تأريخ بغداد: (ج 13 ص 27).

[4] نقمي: بالتحريك و القصر من النقمة و هي العقوبة، موضع من اعراض المدينة كان لآل أبي طالب، جاء ذلك في معجم البلدان: (ج 8 ص 310).

[5] المنسف: بالكسر يستعمل في تصفية الحب و غربلته.

[6] القديد: اللحم المشرر الذي قطع و شرر كما في تاج العروس: (ج 2 ص 461).

[7] المجزع: كل شي ء اجتمع فيه سواد و بياض.

[8] تأريخ بغداد: (ج 13 ص 28).

[9] ساية: واد من حدود الحجاز فيه مزارع.

[10] تأريخ بغداد: (ج 13 ص 29 - 30) البداية و النهاية: (ج 10 ص 183).

[11] القرع: نوع من اليقطين، الواحدة قرعة.

[12] الجوانية: بالفتح و تشديد ثانيه: و كسر النون وياء مشددة: موضع أو قرية قرب المدينة، جاء ذلك في معجم البلدان (ج 2 ص 175) طبع بيروت.

[13] الصريم: الأرض المحصود زرعها.

[14] تأريخ بغداد: (ج 13 ص 29) و كشف الغمة: (ص 243).

[15] الوسائل: باب الأمر بالمعروف.

[16] سورة ص آية 39.

[17] فروع الكافي: باب الولائم.

[18] الوسائل.