بازگشت

حلمه


واهتم الاسلام اهتماما بالغا في تركيز الحلم في نفوس المسلمين، و جعله عادة لهم، و قد أثرت عن النبي و أئمة الهدي طائفة كبيرة من الأخبار تحث علي التحلي به فقد قال النبي (ص): «اللهم اغنني بالعلم، و زيني بالحلم» و قال (ص): «ما أعز الله بجهل قط، و لا أذل بحلم قط» و قال الامام أميرالمؤمنين «ليس الخير أن يكثر مالك و ولدك، ولكن الخير أن يكثر علمك و حلمك» و قال الامام زين العابدين: «انه ليعجبني الرجل أن



[ صفحه 156]



يدركه حلمه عند غضبه» و قال الامام الصادق: «كفي بالحلم ناصرا» [1] .

و كانت هذه الظاهرة من أبرز صفات الامام موسي (ع) فقد كان مضرب المثل في حلمه و كظمه للغيظ، و كان يعفو عمن أساء اليه، و يصفح عمن اعتدي عليه، و لم يكتف بذلك و انما كان يحسن لهم و يغدق عليهم بالمعروف ليمحو بذلك روح الشر و الانانية من نفوسهم، و قد ذكر المؤرخون بوادر كثيرة من حلمه فقد رووا أن شخصا من احفاد عمر بن الخطاب كان يسي ء للامام، و يكيل السب و الشتم لجده اميرالمؤمنين (ع) فأراد بعض شيعة الامام اغتياله فنهاهم (ع) عن ذلك و رأي أن يعالجه بغير ذلك فسأل عن مكانه فقيل انه يزرع في بعض نواحي المدينة، فركب (ع) بغلته و مضي اليه متنكرا، فوجده في مزرعته فأقبل نحوه فصاح به العمري لا تطأ زرعنا، فلم يعتن الامام اذ لم يجد طريقا يسلكه غير ذلك، و لما انتهي اليه جلس الي جنبه و أخذ يلاطفه و يحدثه بأطيب الحديث، و قال له بلطف ولين:

- كم غرمت في زرعك هذا؟.

- مائة دينار.

- كم ترجو أن تصيب منه؟،

- أنا لا أعلم الغيب!!.

- انما قلت لك: كم ترجو أن يجيئك منه؟.

- أرجو أن يجيئني منه مائتا دينار؟.

فأعطاه (ع) ثلثمائة دينار، و قال: هذه لك و زرعك علي حاله فتغير العمري، و خجل من نفسه علي ما فرط من قبل في حق الامام، و تركه (ع)



[ صفحه 157]



و مضي الي الجامع النبوي، فوجد العمري قد سبقه، فلما رأي الامام مقبلا قام اليه تكريما وانطلق يهتف:

«الله أعلم حيث يجعل رسالته في من يشاء».

فبادر اليه اصحابه منكرين عليه هذا الانقلاب، فأخذ يخاصمهم، و يتلو عليهم مناقب الامام و مآثره، و يدعو له، فالتفت (ع) الي أصحابه قائلا:

«أيما كان خيرا؟ ما أردتم أو ما أردت أن أصلح أمره بهذا المقدار؟» [2] .

لقد كان موقف الامام مع جميع مناوئيه و مبغضيه موقف اللطف و الاحسان فقد وضع نصب عينيه قوله تعالي: «ادفع بالتي هي أحسن فاذا الذي بينك و بينه عداوة كأنه ولي حميم» و بذلك فقد أعطي لأصحابه درسا رائعا لكيفية النصح و الارشاد و بين لهم أن الدعوة و التبشير لابد أن يبتنيان علي الحق الرفيع، و يرتكزان علي سعة الصدر و الحلم، و اذا لم يحفها ذلك فانها لا تكاد تجدي في ميادين الاصلاح.

و من آيات حلمه (ع) أنه اجتاز علي جماعة من حساده و أعدائه، و كان فيهم ابن هياج فأمر بعض اتباعه أن يتعلق بلجام بغلة الامام و يدعيها فمضي الرجل الي الامام و تعلق بزمام بغلته فادعاها له فعرف الامام غايته فنزل عن بغلته و أعطاها له [3] لقد أقام (ع) بذلك أسمي مثل للانسانية الفذة و الحلم الرفيع.

و كان (ع) يوصي أبناءه بالتحلي بهذه الصفة الرفيعة و يأمرهم بالصفح عمن أساء اليهم فقد جمعهم و أوصاهم بذلك فقال:

«يا بني: اني أوصيكم بوصية من حفظها انتفع بها، اذا أتاكم آت



[ صفحه 158]



فأسمع أحدكم في الاذن اليمني مكروها ثم تحول الي اليسري فاعتذر لكم، و قال: اني لم أقل شيئا فاقبلوا عذره.. [4] .

و بهذه الوصية نقف علي مدي حلمه و سعة خلقه و يترتب علي ذلك كثير من الفوائد الاجتماعية، فان قبول عذر المسي ء و عدم مقابلته بالمثل من أهم الوسائل الداعية للتآلف و المحبة و جمع الكلمة، و ازالة البغضاء بين الناس.


پاورقي

[1] النظام التربوي في الاسلام.

[2] تأريخ بغداد: (ج 13 ص 28 - 29) كشف الغمة: (ص 247).

[3] البحار: (ج 11 ص 277).

[4] الفصول المهمة لابن الصباغ: 220.