بازگشت

بذخ البرامكة


و أبهرت البرامكة الناس ببذخها و صلاتها الضخمة للشعراء و الادباء فكانوا لا يعرفون للمال قيمة و أهمية، فبيوت الاموال بأيديهم و امكانيات الدولة تحت تصرفهم لا رقيب عليهم و لا حسيب، فأسرفوا في الملذات و الشهوات فكانت مجالس الطرب في قصورهم اكثر منها في قصور الرشيد و أجمع لمعدات اللهو، فعندهم المغنيات اللاتي ليس مثلهن في البلاد، لاسيما (فوز و فريدة) و كان الرشيد نفسه اذا حضر مجالس البرامكة و قد زينت بالآنية المرصعة، و الخزائن المجزعة و المطارح من الوشي و الديباج، و الجواري يرفلن بالحرير و الجوهر، و يستقبلنه بالروائح التي لا يدري ما هي لطيبها خيل اليه أنه في الجنة [1] .

و كانت لأم جعفر مائة وصيفة لباس كل واحدة و حليها خلاف لباس الاخري و حليها [2] و بني جعفر قصرا غرم عليه عشرين مليون درهم [3] و ذكر الدميري: أن جعفر حاز ضياع الدنيا لنفسه فكان الرشيد لا يمر بضيعة و لا بستان الا قيل له هذا لجعفر [4] .

و أنفق البرامكة الكثير من الاموال علي اصطناع المكارم و جلب



[ صفحه 51]



القلوب لهم فكانوا يهبون الاموال بغير حساب فقد طلب شخص من الفضل ابن يحيي أربعة آلاف درهم فوهبه ستة عشر الف درهم [5] و وهب لصاحب شرطته أربعة ملايين درهم [6] و قد بالغوا في العطاء فقد ذكر الخطيب البغدادي ان صلات يحيي لمن تعرض له في الطريق اذا ركب مائتا درهم فعرض له شاعر فأنشد أمامه:



يا سمي الحصور أتيحت

لك من فضل ربنا جنتان



كل من مر في الطريق عليكم

فله من نوالكم مئتان



مئتا درهم لمثلي قليل

هي منكم للقابس العجلان



فاستحسن يحيي شعره و أمر له بعشرين الف درهم [7] و مدح أبوثمامة الخطيب الفضل بن يحيي بقوله:



للفضل يوم الطالقان و قبله

يوم أناخ به علي خاقان



ما مثل يوميه اللذين تواليا

في غزوتين توالتا يومان



سد الثغور ورد الفة هاشم

بعد الشتات فشعبها متدان



عصمت حكومته جماعة هاشم

من أن يجرد بينها سيفان [8] .



تلك الحكومة لا التي عن لبسها

عظم النبا و تفرق الحكمان



[ صفحه 52]



فأعطاه الفضل مائة الف درهم و خلع عليه [9] و طلب رجاء بن عبدالعزيز اعانة مالية من يحيي فأعطاه سبعمائة الف درهم [10] و ذكر القالي ان احد الشعراء دخل علي الفضل بن يحيي فخرج أحد الخدم فأخبر الفضل بمولود جديد له فقال الشاعر:



و يفرح بالمولو من آل برمك

بغاة الندي و الرمح و السيف و النصل



و تنبسط الآمال فيه لفضله

و لا سيما ان كان من ولد الفضل



فأمر له بمائة الف درهم ثم صنع له لحنا فأمر له بمائة الف درهم اخري [11] ، و غصب بعض امراء بني العباس قرية تدعي (الرغاب) فتحاكم أصحابها معه، فحكم للامير العباسي، و مضي الامير يهددهم و ينذرهم بتخليتها فاستغاثوا بجعفر فأغاثهم فاشتري القرية بعشرين الف الف درهم و أهداها لاصحابها فانبري بعض الشعراء مادحا له علي هذا الصنيع قائلا:



رد (الرغاب) ندي يديه و أهلها

منها بمنزلة السماك الأعزل



قد أيقنوا بذهابها و هلاكهم

و الدهر يوعدهم بيوم أعضل



فافتكها لهم و هم من دهرهم

بين الجران و بين حد الكلكل



ما كان يزجي غيره لفكاكها

يرجي الكريم لكل أمر معضل



و تحدث القاصي و الداني بتلك المكرمة البرمكية [12] و ضرب جعفر لنفسه دنانير ذهبية كبيرة ليهبها للناس، و قد كتب علي وجهها هذين البيتين:



و اصفر من ضرب دار الملوك

يلوح علي وجهه جعفر



[ صفحه 53]



يزيد علي مائة واحدا

اذا ناله معسر ييسر [13] .



و أغدقوا الأموال و وهبوها بلا حساب للشعراء و الادباء، و قد مدحهم الشعراء بأفضل النعوت و كالوا لهم المديح و الثناء، فقد مدح اشجع السلمي جعفرا بقوله:



ذهبت مكارم جعفر و فعاله

في الناس مثل مذاهب الشمس



ملك تسوس له المعالي نفسه

و العقل خير سياسة النفس



و اذا تراءته الملوك تراجعوا

جهر الكلام بمنطق همس [14] .



و قال يزيد بن خالد المعروف بابن حسيات يمدح الفضل بن يحيي:



ألم تر أن الجود من صلب آدم

تحدر حتي صار في راحة الفضل



اذا ما أبوالعباس جادت سماؤه

فيا لك من طل و يا لك من وبل



و قال مسلم بن الوليد في مدح جعفر:



تداعت خطوب الدهر عن جار جعفر

و أمسك أنفاس الرغائب سائله



هو البحر يغشي سرة الارض سيبه

و تدرك أطراف البلاد سواحله



و لو لم يكن في كفه غير روحه

لجاد بها فليتق الله سائله



و لله سيف ما علي الأرض مثله

مضاربه يحيي و أنت مقاتله



و بالغ الشعراء في مدحهم و تعظيمهم، و ذلك لما استفادوه منهم من الاموال الجزيلة و الهبات الوفيرة حتي راج سوق الشعر و الادب في ذلك العصر و الي ذلك يشير بعض الشعراء بقوله:



ما لقينا من جود فضل بن يحيي

ترك الناس كلهم شعراء



و علي اي حال، فان تلك الاموال الضخمة التي وهبتها البرامكة للشعراء و غيرهم لم تكن الا من بيت مال المسلمين، فانهم قبل



[ صفحه 54]



أن تسند اليهم الوزارة لم تكن لهم أي ثروة أو مال، فقد روي المؤرخون ان خالد بن برمك كان واليا علي طبرستان و الري و دنباوند فحاسبه المنصور و أدانه بثلاثة آلاف الف درهم، و هدده بالقتل فلم يستطع خالد أن يدفعها من ماله الخاص فاستعان بأصحابه فأمدوه ببعضها و أمدته الخيزران بقسم كبير منها ثم توسط له المهدي عند أبيه فعفاه عن الباقي [15] ولكن لما اسندت له و لأبنائه السلطة صارت ثروة الدولة العباسية بأيديهم فملكوا من القري والبساتين و المستغلات ما لا يحصي له عد، و لا يعرف له ثمن، و أصبح لهم في كل زاوية قرية عامرة، و علي كل جدول بستان مثمر، و في كل مدينة أو قصبة ملك ثمين... و بلغ ريعهم السنوي الملايين من الدنانير [16] و من الطبيعي ان هذا الثراء الفاحش الذي تولد عندهم في هذه الفترة القصيرة كان ناشئا من دون شك من استئثارهم بأموال المسلمين و نهبهم لامكانيات الدولة مستغلين نفوذهم السياسي في التلاعب ببيوت الاموال التي نجبي اليها من جميع الاقاليم الاسلامية.

و هذه البوادر التي سقناها علي سرف هارون و تبذير أسرته و وزرائه قد دلت علي خيانته العظمي للمسلمين، و استبداده في ثرواتهم، و انتهاكه لحرمة الاسلام.


پاورقي

[1] حضارة الاسلام في دار السلام ص 112.

[2] الجهشياري: ص 18.

[3] الطبري: (ج 10 ص 82).

[4] حياة الحيوان: (ج 2 ص 172 - 173).

[5] الجهشياري.

[6] الجهشياري.

[7] تأريخ بغداد: (ج 14 ص 129) وفيات الأعيان: (ج 2 ص 44).

[8] يشير بذلك الي قصة العلوي يحيي بن عبدالله حينما خرج علي حكومة هارون في الديلم فندب لحربه الفضل بن يحيي فأعطاه الصلح و لم تقع الحرب بينهما و سنبين فصول القصة في غضون هذا الكتاب.

[9] عصر المأمون: (ج 1 ص 141).

[10] المستطرف: (ج 1 ص 228).

[11] القالي - ذيل الأمالي: ص 99.

[12] الاغاني: (ج 17 ص 33).

[13] الجهشياري: ص 241.

[14] هارون الرشيد: (ج 2 ص 242).

[15] تاريخ ابن الاثير: 6 / 8.

[16] الامامة و السياسة: 2 / 321.