بازگشت

كلمة ابن خلدون


و أفرط ابن خلدون في تقديسه لهارون، فنحي عنه الاسراف و الخيانة قال ما نصه: «لم يكن الرجل بحيث يوقع محرما من أكبر الكبائر عند اهل الملة، و لقد كان أولئك القوم كلهم بمنجاة من ارتكاب السرف و الترف في ملابسهم و زينتهم، و سائر متناولاتهم لما كانوا عليه من خشونة البداوة، و سذاجة الدين التي لم يفارقوها» [1] .

و ابن خلدون من أولئك المؤرخين الذين لم يكتبوا للتأريخ و خدمة



[ صفحه 58]



الأمة، و انما كتبوا لجهة خاصة بعيدة كل البعد عن روح الواقع، و قد القي الستار في كثير من بحوثه علي الحقيقة، و راح يخدم الدولة أو المحيط و جني بذلك علي التأريخ الاسلامي جناية لا تعدلها جناية، ان الحكم ببراءة هارون من السرف و التبذير لا يتفق بأي حال مع الحوادث التي أجمع عليها المؤرخون الدالة علي تبذيره بأموال المسلمين و نهبه لثرواتهم، و لم يوافقه علي هذا القول أحد من الكتاب حتي أحمد أمين الذي عرف بالانحراف و التحيز في كثير من بحوثه قال:

«فلسنا نتفق معه علي ما يستخلص من قوله انه كان بمنحاة من السرف و الترف، و انه كان يعيش عيشة ساذجة، و انه لم يوقع محرما، فهذا ايضا افراط في التقديس، لا تدل عليه سيرة الرشيد، خصوصا و ان أدلته خطابية فقرب عهده من المنصور لا يستوجب ان يعيش عيشته، و قد صرح هو مرارا بأن الترف و النعيم في عصر الرشيد كان اكثر منه في عصر المنصور، و لو كان قرب العهد يكفي في الاستدلال لما رأينا الأمين - و هو قريب عهد من الرشيد يسير سيرته.

و العجب انه عقد فصولا طويلة يتعرض فيها لوصف الحضارة و النعيم و الترف في ايام الرشيد و الامين و المأمون و تفننهم في المطعم و المشرب، و هو الذي وافق (المسعودي) و (الطبري) علي ما حكياه في أعراس المأمون ببوران بنت الحسن، و ان المأمون أعطاها في مهرها ليلة زفافها الف حصاة من الياقوت، و أوقد شموع العنبر في كل واحدة مائة من، و بسط لها فرشا كان الحصير منها منسوجا بالذهب مكللا بالدر و الياقوت الخ [2] .

هل هذا ليس سرفا في الترف؟ و هل قرب عهد المأمون من الرشيد كقرب عهد الرشيد من المنصور جعلت الناس يعيشون عيشة السذاجة



[ صفحه 59]



كما يقول؟.

الحق ان ابن خلدون مخطي ء في وصفه عصر الرشيد بالسذاجة، و انه و قومه كانوا بمنحاة من السرف و الترف» [3] .


پاورقي

[1] تأريخ ابن خلدون: 1 / 14.

[2] تأريخ ابن خلدون: 1 / 145.

[3] ضحي الاسلام: 2 / 118 - 119.