بازگشت

دفاع الجومرد


و لم ينفرد ابن خلدون بهذا المنطق الهزيل في دفاعه عن هارون فقد شاركه في ذلك الدكتور عبد الجبار الجومرد فانه لما لم يجد مجالا للطعن في تلك الروايات التي دلت علي المزيد من اسراف هارون، اخذ يلتمس له المعاذير و المبررات قال ما نصه: «غير اننا لو درسنا الوضع الاجتماعي السائد يومئذ، و تذكرنا - ما قلناه سابقا - عن مقدار ما كانت تدر ضرائب الدولة علي الخزينة العامة من الاموال - وهي تعادل اليوم ميزانيات اكثر من عشرة دول - و ما بلغه الترف و البذخ عند الطبقات الخاصة، و ما وصل اليه ذلك التسابق في اكتساب الحمد و استمالة الرأي العام عن طريق الشعراء و الادباء و الرواة و كل ذي لسان و رأي، و هم أشبه بالصحف السيارة في هذا العهد... لو علمنا كل ذلك و أدركنا حقائقه، اذا لأعطينا هذا السخي الجواد بعض الحق ان لم يكن كله [1] و قال أيضا: «ان الرشيد أحق من غيره بالعطاء و أحوج الي المديح و الذكر الحسن من هؤلاء - أي البرامكة - جميعا، بحكم كونه خليفة، فوق سائر الناس، و هو مع ذلك سخي اليد بالفطرة، وجد المحيط الذي حوله في سورة من جنون البذخ و الانفاق، فجاراه ليحفظ توازن سمعته و لم يجد في ذلك تصنعا أو كلفة،



[ صفحه 60]



مادام خراج الدولة في تضخم عظيم [2] و الاستاذ الجومرد مدفوع بعاطفة جياشة تجاه هارون فقد أبي أن يدينه بانحرافه عن الطريق أو يسجل عليه أي مأخذ مما أجمع عليه المؤرخون، و أخذ يتطلب الوجوه البعيدة لتصحيح أخطائه و توجيهها بوجوه عليلة بعيدة عن واقع المنطق، اما قوله: ان ميزانية الدولة قد بلغت القمة من التضخم، و ان الاسراف عند الطبقات الخاصة قد بلغ الذروة، و انها قد اخذت في اكتساب الحمد و الثناء عن طريق الشعراء و الادباء فان هذا ليس مبررا له في صرف أموال المسلمين علي ملاذه و اغراضه التي لم يقرها الاسلام فقد ألزم بانفاق أموال الدولة علي تطوير الحالة الاقتصادية و توفير الحياة الحرة الكريمة للمواطنين.

ان تبذير الاموال الراجعة لنفس الانسان محرم في الشريعة الاسلامية فضلا عن أموال الناس فانه ضامن لها و مسؤول عن صرفها في غير الوجه المشروع، و أما حاجته الي المدح و الذكر الحسن فلا يقره الشرع الاسلامي الذي أمر بالاحتياط في أموال المسلمين، و حرمة صرفها علي أي لون من الوان الدعاية الشخصية التي لا تعود علي المجتمع الاسلامي بأية ثمرة او فائدة.

و اما كون المحيط الذي كان حول هارون في سورة من جنون البذخ و الانفاق فاضطر لمجاراته ليحفظ توازن سمعته، فان ذلك غير مبرر له، و لا ينفي عنه المسؤولية أمام الله... انه بحكم الشرع مسؤول عن استبداده بأموال المسلمين، و مسؤول عن تصرفات شعبه باعتباره خليفة المسلمين، و ولي أمرهم، فكان الواجب عليه أن يثيبهم الي الرشاد، و يهديهم الي سواء السبيل.

ان هذه التعليلات التي ذكرت لتصحيح اخطاء هارون في سياسته



[ صفحه 61]



المالية انما هي لون من الوان الطائفية التي هي مصيبة العالم الاسلامي في ماضيه و حاضره فقد اوجبت خفاء الحق، و تضليل الرأي العام في كثير من جوانب حياته العقائدية، و جعلت المسلمين في ذيل القافلة.

يجب علي كل من يبحث عن التأريخ الاسلامي، و يعالج قضاياه علي ضوء ما أثر عن الاسلام ان يتجرد من نزعاته التقليدية، و ان يخلص للحق ليخدم بذلك امته و مجتمعه.

ان الواجب يحتم علينا ان نبرز للمجتمع الذوات المثالية الفذة من رجال الاسلام الذين نفروا من الجور و الظلم، و رفعوا شعار العدالة، و نادوا بتطبيق المبادي ء العليا التي جاء بها الاسلام، فلاقوا في سبيل ذلك اعنف المشاكل و أشدها عناء و محنة... هؤلاء الذين يجب أن يعتز بهم، و يشاد بذكرهم و تغذي الناشئة بمآثرهم... و أما الذين نهبوا و فسقوا، و استباحوا كل حرام من عرض و دم، و مال، و أشاعوا المنكر و التحلل بين المسلمين، فانه يجب ابعادهم عن المراكز العليا في الاسلام، و التدليل علي ما اقترفوه من عظيم الاثم في حق امتهم و بلادهم.. و لنعد بعد هذا العرض الموجز للسياسة المالية التي سار عليها هارون الي عرض بعض اعماله الاخري التي دلت علي عدم تحرجه في الدين و انطلاقه في ميدان الشهوات التي حرمها الله:


پاورقي

[1] هارون الرشيد: (ج 1 ص 272).

[2] هارون الرشيد: (ج 1 ص 274).