بازگشت

ولعه بالغناء


و كان هارون مولعا بالغناء منذ حداثة سنة، فقد نشأ بين أحضان المغنيات و المطربات، و لشدة رغبته في ذلك فقد اجتمع في قصره عدد كبير



[ صفحه 62]



من المغنيات و العازفات، و اشتمل قصره علي مختلف الآلات الموسيقية [1] و هو الذي جعل المغنين طبقات و مراتب، فكان ابراهيم الموصلي و ابن جامع و زلزل الضارب في الطبقة الاولي، و كان زلزل يضرب و يغني الموصلي و ابن جامع، و الطبقة الثانية: اسحاق و سليم بن سلام، و عمرو الغزال، و الطبقة الثالثة: اصحاب المعازف و الطنابر، و كان يطرب للغناء [2] .

و قد أمر المغنين أن يختاروا له مائة صوت فاختاروها، ثم أمرهم باختيار عشرة منها فاختاروها.. ثم أمرهم باختيار ثلاثة منها ففعلوا [3] .

و عاهد ابراهيم الموصلي الهادي بأن لا يغني لاحد من بعده فلما توفي انقطع ابراهيم عن الغناء وفاءا بالوعد، ولكن الرشيد أمره بأن يغني له فامتنع فرماه بالسجن و لم يطلق سراحه حتي غني في مجلسه [4] .

و من ولعه بالغناء انه هام بحب ثلاث مغنيات من جواريه هن سحر و ضياء و خنث و قال فيهن الشعر، فما قاله فيهن:



ملك الثلاث الآنسات عناني

و حللن من قلبي بكل مكان



مالي تطاوعني البرية كلها

و أطيعهن و هن في عصيان



ما ذاك الا أن سلطان الهوي

و به قوين أعز من سلطان [5] .

و قدم الي بغداد ابراهيم بن سعد الزهري، و هو من وعاظ السلاطين و علمائهم، فأكرمه الرشيد و سأله عن الغناء فأفتي علي وفق البلاط و رغبته بحليته



[ صفحه 63]



و قصد ابراهيم بعض اصحاب الحديث ليسمع منه أحاديث الزهري فسمعه يغني فقال له: لقد كنت حريصا علي أن أسمع منك، أما الآن فلا سمعت منك حديثا واحدا، فقال له الزهري: اذا لا أفقد شخصك، و علي ان حدثت حديثا في بغداد لأغني قبله، و شاعت القصة في بغداد فسمع بها الرشيد فدعا به فسأله عن حديث المخزومية التي قطعها النبي (ص) في سرقة الحلي فدعا ابراهيم بعود، فقال الرشيد: أعود المجمر؟ قال: لا، ولكن عود الطرب، فتبسم الرشيد، ففهم ابراهيم بن سعيد سر تبسمه، فقال له:

يا أميرالمؤمنين، لعله بلغك حديث السفيه الذي آذاني بالامس و ألجأني الي أن أحلف.

قال الرشيد: نعم، و دعا له بعود فغناه ابراهيم:



يا أم طلحة ان البين قد أفدا

قل الثواء لئن كان الرحيل غدا



فقال له الرشيد من كان من فقهائكم يكره السماع؟.

قال ابراهيم من ربطه الله.

قال الرشيد: هل بلغك عن مالك بن أنس في هذا شي ء؟

قال ابراهيم: لا و الله، الا أن أبي أخبرني انهم اجتمعوا في مدعاة كانت في بني يربوع، و هم يومئذ جلة و مالك يومئذ أقلهم في فقهه و قدره و معهم دفوف و معازف وعيدان يغنون و يلعبون و مع مالك دف مربع و هو يغنيهم.



سليما أجمعت بينا

فأين لقاؤها أينا



و قد قالت لأتراب

لها زهر تلاقينا



تعالينا فقد طاب لنا

العيش تعالينا [6] .



و هذه البادرة تكشف لنا مدي الاستهتار بأحكام الاسلام، حتي من



[ صفحه 64]



حملة الحديث، فقد عمد هذا الفقيه الي الفتيا بما خالف الشرع ليتوصل الي هارون و ينال من دنياه.

و بلغ من ولع هارون و شغفه بالغناء انه طلب من شقيقته علية أن تغنيه، فقالت له: و حياتك لأعملن فيك شعرا و لأصنعن فيك لحنا، و قالت من وقتها:

تفديك أختك قد حبوت بنعمة

لسنا نعد لها الزمان عديلا



الا الخلود و ذاك قربك سيدي

لا زال قربك و البقاء طويلا



و حمدت ربي في اجابة دعوتي

فرأيت حمدي عند ذاك قليلا



و صنعت فيه لحنا من وقتها في مقام خفيف الرمل، فطرب الرشيد عليه [7] و كانت علية في طليعة المغنيات في ذلك العصر، و قد شجعها علي ذلك اقبال أسرتها علي الملاهي و المجون و الدعارة فانجرفت معهم و هي تسحب ذيول الخيانة و الخزي، و قد عير بها الاسرة العباسية أبوفراس الحمداني بقوله:



منكم علية أم منهم و كان لكم

شيخ المغنين ابراهيم أم لهم



و علي اي حال فقد انتشر الغناء في عصر هارون انتشارا هائلا حتي عد حاجة من حاجات الانسان الضرورية، فكان المغنون و المغنيات في الاماكن العامة و في الشوارع و في بيوت الأغنياء و الفقراء، و شغف الناس به حتي بلغ من رواجه و اقبال الناس عليه انه اذا غني مغن علي الجسر اجتمع عليه جمهور حاشد من الناس حتي يخاف من سقوط الجسر بهم [8] و حتي كان بعضهم ينطح العمود برأسه من حسن الغناء [9] و ارتفعت أسعار



[ صفحه 65]



الجواري التي تجيد الغناء فكلما كانت الجارية تحسن هذه الصناعة ازداد سومها و كان ابراهيم الموصلي هو الذي يتولي تعليمهن فاذا أتقنت واحدة منهن الغناء ارتفع ثمنها و في ذلك يقول أبوعيينة المهلبي في جارية يقال لها (أمان) و كان يهواها فأغلي مولاها السوم فقال:



قلت لما رأيت مولي أمان

قد طغي سومه بها طغيانا



لا جزي الله الموصلي أبا اسحاق

عنا خيرا و لا احسانا



جاءنا مرسلا بوحي من الشيطان

أغلي به علينا القيانا



من غناء كأنه سكرات الحب

يصبي القلوب و الآذانا [10] .



و سادت الميوعة في ذلك العصر، و أسرف الناس في الخلاعة و المجون و قد شجعهم علي ذلك مليكهم هارون فقد رؤه انه لم يفارق الملذات و الغناء حتي بلغ به الحال أنه كان يستدعي أخاه ابراهيم بن المهدي فيغني له [11] و نظرا لاقباله علي الغناء فقد كانت له الدراية التامة بجميع فنونه فقد قال ابراهيم الموصلي لابن جامع المغني: «و الله لا أعلم أن أحدا بقي في الارض يعرف هذا الغناء معرفة أميرالمؤمنين هارون الرشيد، فقال له ابن جامع: «حق و الله، انسان يسمع الغناء منذ عشرين سنة مع هذا الذكاء الذي فيه» [12] و قد انطبعت هذه الروح في نفس ولده الأمين فكان مغرما بالغناء حتي في أعسر ساعاته عندما أحيط به فقد كان يستمع الي الغناء، فحينما كانت حجارة المنجنيق تصل بساطه كانت احدي الجواري تغنيه [13] .



[ صفحه 66]



و قد ألحق انتشار الغناء اضرارا جسيمة بالمجتمع الاسلامي، فقد أدي الي فساد الاخلاق، و ميوعة المجتمع و ابتعاده عن تعاليم الاسلام التي تنشد الجد و تنهي عن العبث و المجون، و قد بلغ من تسيب الأخلاق في ذلك العصر انه لما توفي المطرب ابراهيم الموصلي أحدث حزنا عميقا و أسي مريرا في جميع الاوساط البغدادية و رثاه بعض الشعراء و بكاه أمر البكاء لفقدانه الطرب و اللهو فقال:



أصبح اللهو تحت عفر التراب

ثاويا في محلة الاحباب



اذ ثوي الموصلي فانقرض اللهو

بخير الاخوان و الأصحاب



بكت المسمعات حزنا عليه

و بكاه الهوي و صفو الشراب



و بكت آلة المجالس حتي

رحم العود ضربة المضراب [14] .



و رثاه شاعر آخر فقال:



تولي الموصلي فقد تولت

بشاشات المزاهر و القيان



و أي بشاشة بقيت فتبقي

حياة الموصلي علي الزمان



ستبكيه المزاهر و الملاهي

و تسعدهن عاتقة الدنان



و كان الميت قبل هذا العصر يرثي ببكاء الخيل و السيوف و فقدان الجفان و الاضياف، أما في عصر هارون فقد أصبح يبكيه الهوي و الشراب و العود و كان ذلك ناشئا من دون شك من اضطراب الدين و فساد العقيدة في نفوس الناس حتي نشأ فيهم هذا التسيب الفظيع.



[ صفحه 67]




پاورقي

[1] التمدن الاسلامي: 5 / 118 و جاء فيه انه قيل ان في قصره ثلثمائة جارية من الحسان يغنين و يعزفن.

[2] التاج: ص 40 - 42.

[3] الاغاني: 1 / 7.

[4] الاغاني: 5 / 162.

[5] تزيين الاسواق، فوت الوفيات: 2 / 391.

[6] تأريخ بغداد: 6 / 84.

[7] سيدات البلاط العباسي: ص 28.

[8] الأغاني: 18 / 127.

[9] ضحي الاسلام 1 / 91.

[10] الاغاني: 5 / 8 - 9.

[11] التاج: ص 37.

[12] الاغاني: 6 / 174.

[13] التاج: ص 153.

[14] الاغاني: 5 / 47.