بازگشت

عهد الرشيد


و أفضت الخلافة الي هارون، و زهرت له الدنيا، و استوسقت له الأمور، و نال من دنياه كل ما اشتهي و أراد، قد عم نفوذه علي أغلب انحاء هذه المعمورة حتي أثر عنه خطابه للسحاب «اذهبي الي حيث شئت يأتيني خراجك» [1] .

وجبي له الخراج من جميع الاقاليم الاسلامية، و صارت عاصمته بغداد عروس الدنيا، و مستودع أضخم بيت للمال في العالم، و قصدها النوابغ و العباقرة و الفنانون من سائر الشعوب، و انتشر فيها الثراء الفاحش و التضخم النقدي عند التجار و الموظفين و الندماء و المطربين و المجان، و تناثرت فيها القصور الرائعة التي شيدت علي طراز هندسي جميل مزيج من الذوقين العربي و الفارسي، و صارت بغداد بما فيها من الحدائق الغناء زينة الشرق، و أعظم عاصمة لأهم امبراطورية شاهدها التأريخ، ففيها قصر الخلد الذي شبه بجنة الخلد التي وعد بها المتقون، و فيها قصر السلام الذي شبه بقوله تعالي: «لهم دار السلام عند ربهم» و في هذه القصور تجري من تحتها الانهار، و تموج بالحور العين كأمثال اللؤلؤ المكنون، و قد وصلت بغداد الي منتهي المجد و الفخار.

و جلس هارون علي اريكة الخلافة الاسلامية العظمي و هو السيد المطلق و الحاكم الروحي المطاع قد استولي علي جميع امكانيات الدولة و مقدرات المجتمع يهب لمن يشاء و يمنع عمن يشاء لا يسأل عما يفعل و لا يحاسب عما يبذر فهو ظل الله في أرضه و خليفته علي عباده - كما يقولون -.

تقمص الخلافة و هو في شرخ الشباب و عنفوانه لم يذق من عنت الأيام و محنها و لم تصقله التجارب، قد جاء اليه الملك عفوا بعد مؤامرة خطيرة اشتركت في تدبيرها أمه الخيزران و رئيس وزرائه يحيي البرمكي فدبرا



[ صفحه 22]



اغتيال الهادي، و قد نجحا في وضع ذلك المخطط و القضاء عليه بسرعة هائلة لم يطلع عليها أي أحد من أعضاء البلاط حتي هارون لم يعلم بذلك فقد كان معتقلا قد خفيت عليه جميع الامور و بعد تنفيذ المؤامرة و القضاء علي الهادي و تركه جثة هامدة في قصره أسرع يحيي الي السجن فأقبل نحو الرشيد و كان نائما فأيقظه فاستفاق مرعوبا فقال له يحيي: «قم يا أميرالمؤمنين».

فنهره الرشيد و عليه آثار الغضب قائلا له:

«كم تروعني اعجابا منك بخلافتي و أنت تعلم حالي عند هذا الرجل فان بلغه هذا فما يكون أمري عنده»؟.

فابتسم له يحيي و قال له:

«لقد مات الهادي و هذا خاتمه، و بالباب وزيره الحراني».

فنهض الرشيد و قد استولي عليه السرور فاتجه من فوره الي القصر الذي سجيت فيه جثة أخيه، فاطلع علي الأمر و أقام ليلته هناك و كانت ليلة تأريخية حفلت بأحداث خطيرة فقد خرج الرشيد فيها من سجنه و بويع له بالخلافة و بشر بغلام من جاريته الفارسية - مراجل - فسماه عبدالله و هو الذي عرف بالمأمون، و قالوا في تلك الليلة: «انها ليلة الخلفاء» مات فيها خليفة و بويع خليفة، و ولد خليفة.

و عند انبلاج الصبح قام الرشيد فصلي علي جثمان أخيه و دفنه في بستان قصره [2] و توافدت وجوه بغداد و شخصياتها الي المحل المقيم فيه هارون ليبايعوه، و بعد أن غص القصر الأبيض بجماهير الناس علي اختلاف طبقاتهم انبري الي منصة الخطابة يوسف بن القاسم بن صبيح الكاتب فألقي خطابا جاء فيه:

«ان الله عزوجل، استأثر بخليفته موسي الهادي، و ولي بعده



[ صفحه 23]



رشيدا مرضيا أميرالمؤمنين... و هو يعدكم من نفسه الرأفة بالناس و العدل و احقاق الحق بينهم، و يذود عن ارواحهم و أعراضهم من العصاة المارقين».

ثم التفت الي الجماهير فطلب منهم المبادرة الي البيعة قائلا: «قوموا الي بيعتكم، و اعطوا صفقة ايمانكم» فبادر الناس الي مبايعته و اعلان الرضا به و تم كل شي ء في القصر الأبيض و عزم هارون علي مغادرة «عياباذ» و النزوح الي بغداد فأشار عليه يحيي بالتأخير حتي يهيأ لاستقباله المهرجانات الشعبية، فلم يذعن لذلك و توجه فورا الي عاصمته و أقبل بموكبه فلما قرب من بغداد استقبلته الجماهير بالهتافات و علت زغاريد النساء من شرفات القصور فكان احتفالا شعبيا رائعا، و حان موعد الصلاة فخرج الي الجامع في موكب رهيب فصلي بالناس و بايعه من لم يكن حاضرا في القصر الأبيض و لما انتهي من الصلاة و مراسيم البيعة توجه لبلاطه و في الغد عقد اجتماعا حضرته الساسة و كبار الشخصيات فاستدعي يحيي البرمكي فلما مثل أمامه قلده منصب رئاسة الوزراء و أعطاه الخاتم و قال له:

«يا أبتي، أنت أجلستني هذا المجلس ببركة رأيك و حسن تدبيرك، و قد قلدتك أمر الرعية، و أخرجته من عنقي اليك فاحكم بما تري، و استعمل من شئت، و اعزل من رأيت، فاني غير ناظر معك في شي ء» [3] .

و انبري بعض الشعراء فأنشد بين يديه قصيدة قال فيها:



ألم تر أن الشمس كانت مريضة

فلما ولي هارون أشرق نورها



و ألبست الدنيا جمالا بوجهه

فهارون و اليها و يحيي وزيرها [4] .



و تناول يحيي خاتم الوزارة و اسندت اليه جميع السلطات التنفيذية



[ صفحه 24]



و الادارية، و فوضت اليه مقدرات الدولة من دون أن يستشير أو يراجع أحدا فيما يعمله، و اعتمد عليه الرشيد و هو في مقتبل عمره فكان سندا له يغنيه عن السهر و المتاعب الفكرية و انصرف الرشيد الي التلذذ بجميع متع الحياة من العزف و الغناء و التندر بمجالسة الظرفاء.

و أقبل يحيي علي تطهير جهاز الدولة من العناصر المعادية له أو الموالية للعهد المباد، كما توجه الي تطوير البلاد و عمرانها فصرف بعض ميزانية الدولة في اصلاح الزراعة و توسيع نطاقها و بناء الجسور و القناطر و تشجيع الصناعات، و غيرها من الأعمال العمرانية التي أوجبت اتساع الحضارة و المدنية في بغداد حتي زهت الدنيا، و افتتن الناس بها، فقد تناثرت بها الحدائق الممتعة و الازهار المونقة من ورد و بهار، و ياسمين و جلنار، و غيرها كما تناثرت بها قصور العباسيين و البرامكة التي تسيطر عليها روح الترف، و بطل عليها قصر الخلد و غيره من قصور هارون، و قد وصف أحدها علي ابن الجهم بقصيدة رائعة جاء فيها:



و قبة ملك كأن النجوم

توحي اليها بأسرارها



تخر الوفود لها سجدا

اذا ما تجلت لأبصارها



و فوارة ثأرها في السماء

فليست تقصر عن ثأرها



ترد علي المزن ما أنزلت

الي الارض من صوب مدرارها



اذا أوقدت نارها بالعراق

اضاء الحجاز سنا نورها



لها شرفات كأن الربيع

كساها الرياض بأنوارها [5] .



لقد كان ذلك التقدم الحضاري يستند الي البرامكة فهم الذين وضعوا حياة الترف و البذخ في بغداد، و طوروا الحياة الفكرية و العمرانية فيها.

و المهم الذي يعنينا البحث عنه هو أن كثيرا من المؤرخين قد أفاضوا



[ صفحه 25]



علي هارون لقب خليفة المسلمين، و أميرالمؤمنين، و وصفوه بأنه من اكثر الخلفاء عناية بالشؤون الاسلامية فقالوا: انه طبق احكام القرآن و دستوره علي واقع الحياة العامة، كما تعتوه بالزهد و الاعراق عن المحرمات، قال ابن خلدون:

«انه - يعني هارون - كان يجتنب، و يبتعد عن الحرام و يتمتع بما أحل له».

و قال ابن خلكان:

«انه كان يصلي في اليوم مائة ركعة».

و بالغ بعض المؤرخين فألحقه في مصاف الاخيار و المتحرجين في دينهم من الخلفاء الراشدين الا ان البوادر التي أثرت عنه في سياسته المالية و غيرها من شؤون سياسته العامة تثبت بوضوح عكس ما ذكره الموالون له من اتصافه بالتقوي و التحرج في الدين، فقد كان طابع سياسته المالية الاستغلال و النهب لثروات المسلمين، و انفاق القسم الكثير من الخزينة العامة علي العابثين و الماجنين، و كانت لياليه حافلة بجميع الوان الطرب و اللهو، و هو ينفق أضخم الأموال علي الجواري و المطربين في حين ان الامة لم تنعم بتلك الواردات الضخمة التي كانت ترد الي بيت المال كأنها السيل، فلم تخصص الحكومة من ميزانية الدولة مقدارا يعني به علي اشاعة المعارف و العلوم، و اقصاء الجهل عن الشعوب الاسلامية، كما لم تنفق شيئا يذكر علي التطور الاقتصادي و الصناعي في البلاد.

و اذا أمعنا النظر في سياسته الاخري فنجد انه قابل العلويين و شيعتهم بكل قسوة و صرامة فقد ساسهم كما ساسهم جده المنصور بسياسة العنف و الجور و الاضطهاد، و يضاف الي ذلك عدم تورعه عما حرمه الله فقد أسرف في الاثم و الموبقات كما سنتحدث عنه.

و علي أي حال فما نسب اليه من التقوي و الصلاح لا يلتقي بصلة مع



[ صفحه 26]



واقع سيرته و سياسته. نعم لا شك في انه ألمع شخصية سياسية عرفها التأريخ في العالم الاسلامي و غيره، فقد استطاع بمهارته و مقدرته أن يسيطر علي أغلب بقاع العالم حتي لمع اسمه في الشرق و الغرب، و حظي بصيت عريض قل ان سجله التأريخ لغيره من الملوك و السلاطين، ولكن هذا لا يعنينا أمره و انما يعنينا بعد سياسته بجميع مخططاتها عن المبادي ء الاسلامية التي هي المعيار في الحقيقة للحكم الاسلامي، فمن طبقها من الحكام علي واقع سياسته فهو من الخلفاء الراشدين الذي يجب أن نكن له في أعماق نفوسنا أعظم الولاء و التقدير، و من شذ عنها فانه ليس محسوبا علي رصيد الخلافة الاسلامية، و لا يصح أن يكون ممثلا لهذا المركز الاسلامي العظيم.

و نعرض فيما يلي لدراسة موجزة لما أثر عن هارون سواء في ميادين السياسة ام في عالم السلوك و الاخلاق، و هي جميعا تتنافي مع المبادي ء الاسلامية و لا تلتقي بأي منهج وثيق منها.


پاورقي

[1] صبح الأعشي 3 / 270.

[2] الطبري: (ج 3 ص 568).

[3] الطبري: (ج 3 ص 903).

[4] الأغاني: (ج 5 ص 240).

[5] الأغاني 9 / 114.