بازگشت

تطورها


و تطورت الحركة الشعوبية تطورا هائلا أيام الحكم الأموي و العباسي فقد حدثت النعرات البغيضة بين المسلمين، و أخذ العرب يفخرون علي بقية القوميات الأخري، و يشيدون بذكر مآثرهم، فكانوا يقولون: ان لهم صفات خلقية امتازوا بها. فهم أكرم الناس للضيف و أنجدهم للملهوف، و أكثرهم عونا للمستغيث، يعقر أحدهم ناقته التي لا يملك سواها للطارق الذي ينزل بساحته، و لهم في نفس الوقت حسن البديهة و قول الأمثال السائرة و الابداع في الكلام، و هم أحفظ الناس لأنسابهم فليس أحد منهم الا يعرف نسبه و يسمي آباءه، مضافا الي ذلك نشأة الاسلام فيهم و انتشاره علي أيديهم فهم الناشرون له و الحاملون لدعوته، و هذه أهم الأدلة التي اعتمد عليها العرب في امتيازهم و تقدمهم علي غيرهم.

و ثقلت هذه العصبية المتطرفة من قبل العرب علي بقية شعوب الامبراطورية الاسلامية فغالوا مثل مغالات العرب و راحوا يحطون من شأنهم و يذكرون مساوءهم و يعدون مثالبهم من و أدهم الولد خشية املاق، و اعتماد حالتهم الاقتصادية علي الغزو و السلب، و يزرون عليهم جدب الأرض و بساطة العيش كما راحوا في الوقت نفسه يذكرون عظمة السلطان عند الرومان،



[ صفحه 114]



و حكمة الهند، و منطق اليونان و فلسفتهم، و صناعة الصين و فنونها، و ترف فارس و حضارتها، و العرب أقل الأمم شأنا في ذلك فليس لهم فخر يذكر و لا مجد يباهي به، و أما تمشد قهم و فخرهم بالاسلام فليس هو دين العرب وحدهم بل هو دين الناس جميعا و الاسلام نفسه قد حارب النزعات الجاهلية و قبر افكارها و حطم امتيازاتها و اعتبر المسلمين جميعا صفا واحدا لا امتياز لأحد منهم علي أحد، و جعل المقياس في التفوق و الفضل التقوي و العمل الصالح، قال تعالي: «ان اكرمكم عند الله أتقاكم».

و قد ألفت كتب كثيرة في ذكر مثالبهم و الازدراء بهم فقد كتب في ذلك أبوعبيدة معمر بن المثني عدة كتب منها: «لصوص العرب» و «ادعياء العرب» و «فضائل الفرس»، و كتب الهيثم بن عدي جملة كتب في هذا الموضوع منها كتاب: «المثالب الكبير» و كتاب «مثالب ربيعة» و اسماء بغايا قريش في الجاهلية و اسماء من ولدن، و ألف سعيد بن حميد البختكان كتاب «انتصاف العجم من العرب» و كتاب «فضل العجم علي العرب و افتخارها» [1] .

لقد شاعت الحزازات و انتشر التنافر بين المسلمين في ذلك العصر

فكان شعراء الموالي الذين أصلهم من فارس يعتزون بقوميتهم و يبالغون في الحط من كرامة العرب فهذا أبونواس الذي كان فارسيا من ناحية أمه راح يهجو العرب و يقول فيهم:



عاج الشقي علي رسم يسائله

و عجت أسأل عن خمارة البلد



يبكي علي طلل الماضنين من أسد

لادر درك!! قل من بنو أسد؟



و من تميم؟ و من قيس و لفهما؟

ليس الأعاريب عند الله من أحد



و تحدث مرة أخري في شعره عن ظاهرة من ظواهر العرب و هي



[ صفحه 115]



شيوع التفاخر و التنافر بين أفراد قبائلهم فلا يكاد يجتمع عربيان من قبيلتين الا حدث بينهما التشاجر و التفاخر فكل واحد منهما يعتز بقبيلته و أسرته، و لا يوجد ذلك مطلقا عند أبناء فارس، يقول ابونواس:



نادمتهم أرتاض في آدابهم

فالفرس عادي سكرهم محسوم



متوقرين كلامهم ما بينهم

و مزمرين خفاؤهم سفهوم



و لفارس الأحرار أنفس انفس

و فخارهم في عشرة معدوم



و اذا أنادم عصبة عربية

بدرت الي ذكر الفخار تميم



و عدت الي قيس و عدت قوسها

سبيت تميم و جمعهم مهزوم



و بنو الأعاجم لا أحاذر منهم

شرا فمنطق شربهم مزموم



لا يبذخون علي النديم اذا انتشوا

و لهم اذا العرب اعتدت تسليم



و جميعهم لي - حين أقعد بينهم -

بتذلل و تهيب موسوم



لقد أوجب ذلك شيوع التنافر بين العرب و بقية القوميات الأخري و تعصب كل فريق لقوميته، و كان في طليعة الشعوبيين الذين يواصلون هجاء العرب بشار بن برد، فقد كان لا يفتأ عن ذكر انتقاصهم و الحط من كرامتهم فقد دخل أعرابي علي مجزأة بن ثور السدوسي - بالبصرة - و بشار كان حاضرا في مجلسه و عليه بزة الشعراء فقال الأعرابي يسأل عن بشار:

- من الرجل؟.

- شاعر.

- أمولي هو أم أعرابي؟.

- بل مولي.

- ما للموالي و الشعر!!.

فغضب بشار و سكت برهة و التفت الي مجزأة قائلا له:

- أتأذن لي يا أباثور أن أقول؟.



[ صفحه 116]



- قل ما شئت يا أبا معاذ.

فاندفع بشار قائلا:



خليلي لا أنام علي اقتسار

و لا آبي علي مول و جار



سأخبر فاخر الأعراب عني

و عنه حين تأذن بالفخار



أحين كسيت بعد العري خزا

و ناديت الكرام علي العقار



تقاخر يابن راعية و راع

بني الأحرار حسبك من خسار



و كنت اذا ظمئت الي قراح

شركت الكلب في ولغ الأطار



تريد بخطبة كسر الموالي

و ينسيك المكارم صيد فار



و تغدو للقنافذ تدريها

و لم تعقل بدراج الديار



و تتشح الشمال للابسيها

و ترعي الظأن بالبلد القفار [2] .

و بلغت الحركة الشعوبية أوجها في أيام المهدي و بلغت الذروة في عهد هارون، و ذلك لنفوذ البرامكة و قبضهم علي أزمة الدولة.

و مهما يكن من أمر فان هذه النزعة قد أولدت العداء بين المسلمين و فرقت صفوفهم و انطلق شعراء ذلك العصر والأدباء من العرب أو من الموالي يهجو بعضهم بعضا و يسب كل فريق منهم الفريق الآخر، فهذا الخزيمي كان يقول:



أبا الصغد بأس اذ تعيرني جمل [3] .

سناها و من أخلاق جارتي الجهل



فان تفخري يا جمل، أو تتجملي

فلا فخر الا فوقه الدين و العقل



أري الناس شرعا في الحياة و لا أري

لقبر علي قبر علاء و لا فضل



و ما ضرني ان لم تلدني يحابر

و لم تشتمل جرم علي و لا عكل [4] .



[ صفحه 117]



اذا أنت لم تحم القديم بحادث

من المجد لم ينفعك ما كان من قبل [5] .



و الحديث عن الشعوبية حديث مؤلم، فان هذه النزعة و غيرها من النزعات الفاسدة تدعو الي تفريق الصفوف و تصديع الشمل، و اشاعة العداء و البغضاء بين المسلمين.


پاورقي

[1] فهرست ابن النديم: ص 123.

[2] بشار بن برد شعره و أخباره لأحمد حسنين القرني: ص 56.

[3] يكني بجمل عن العرب.

[4] يحابر، و جرم، و عكل: أسماء قبائل عربية.

[5] ضحي الاسلام: 1 / 66.