بازگشت

ولاية العهد


و الشي ء المحقق ان الامام الرضا (ع) قد أكره علي قبول ولاية العهد فقد أقسره المأمون علي ذلك، و تهدده بالقتل ان لم يستجب له، فاضطر عليه السلام علي كره الي اجابته [1] و انما رشحه لولاية العهد لعوامل سياسية خطيرة ألجأته الي الاقدام علي ذلك، و لم يكن سببه ميله للعلويين و شدة عطفه و حبه لهم - كما يقول بذلك البعض - فانه لا واقعية له، و الذي يذهب اليه لا ينظر الي الأحداث بدقة و عمق و شمول، فان المأمون لم يقدم علي هذا الأمر الخطير الا بعد أن اضطر اليه... اما العوامل السياسية فأهمها - فيما نحسب - هي ما يلي:

1 - ان الدولة العباسية كانت مهددة بالخطر بواسطة الثورات الداخلية التي تزعم قيادتها ابناء الامام موسي (ع) و هم ابراهيم الاكبر، و زيد و غيرهما، فقد أعلنوا الثورة علي الحكم العباسي بسبب ما عانوه من الظلم و الجور و الاضطهاد، و قد تولي قيادة الثورة أبوالسرايا، و كان



[ صفحه 387]



كأبي مسلم الخراساني في عزمه، و يقظته، و شدة بأسه، و استجابت اكثر الشعوب الاسلامية لهذه الثورة، و سقط قسم كبير من الاقاليم الاسلامية كالحجاز و اليمن، و قسم من العراق، و غيرها بأيدي الثوار، و سنبين تفصيل ذلك فيما يأتي من البحوث.

و انفق المأمون لياليه ساهرا، و هو يفتش عن الوسائل التي يتخلص بها من هذا الخطر المحدق به، و بعد تفكير جاد رأي ان خير وسيلة لاطفاء نار الحرب و التخلص من خصومه ان يعهد بالأمر من بعده الي الامام الرضا و يشركه في الخلافة ليكتسب بذلك ميل الثوار، و رجوعهم عن التمرد، و العصيان، كما يكسب بذلك ميل العلويين الذين أجمعوا علي تقديم الامام عليهم لعلمه و فضله و زهده... و كانت هذه الخطة السياسية موفقة الي أبعد الحدود، فقد فشلت الثورة، و فللت جميع قواعدها فور اعلان المأمون لذلك، فقد تراجع الثوار عن نيتهم و تصميمهم، و اعلنوا رضاهم و سرورهم بذلك كما اعلنوا تأييدهم للمأمون، و الاذعان لسلطانه و حكمه، و قد استراح المأمون و أمن من اهم الأخطار التي كانت محدقة بدولته.

2 - ان القوات المسلحة التي اعتمد عليها المأمون لمحاربة أخيه الأمين كان القسم الكثير من قوادها، و زعماء فرقها ممن يميلون الي العلويين، و قد شرطوا عليه فيما يقول بعض المؤرخين انهم لا يفتحون نار الحرب علي الأمين الا ان يجعل الامام الرضا وليا لعهده فأجابهم الي ذلك، فاذا صح ذلك فهو مضطر الي اجابتهم خوفا من الانتفاضة عليه.

3 - ان الأحداث الرهيبة، التي جرت بين الأمين و المأمون، قد أوجبت اجماع الرأي العام علي بغض المأمون، و كراهته، فقد عاثت جيوشه فسادا في بغداد فخرجت كثيرا من قصورها و مساكنها، و فقدت بهجتها و زينتها و محاسنها، و عملت فيها المراثي، و مما قيل فيها:



[ صفحه 388]



بكيت دما علي بغداد لما

فقدت غضارة العيش الأنيق



أصابتها من الحساد عين

فأفنت أهلها بالمنجنيق [2] .



و تعرضت البلاد للمجاعة الشاملة، و فقدان الأمن، و فزع البغداديون و داخلهم أعظم الخوف، و أقساه و لم ينسوا محنتهم في تلك الأيام فظلوا يتحدثون عنها بعد عشرات من السنين.

و مما زاد في نقمة العامة علي المأمون أن جيوشه لما ظفرت بأخيه الأمين لم ترحمه و لم تعفوا عنه، و انما نكلت به فعمدت الي قتله و قتل مؤيديه، و أبردت برؤوسهم الي المأمون، و قد نفرت العامة من قتل الأخ الي أخيه و أجمعت علي بشاعة ذلك، و ان صاحب هذا العمل لا يملك ذرة من العاطفة و النبل، و لا يستحق أن يتولي أمر المسلمين، و يكون حاكما عليهم.

و أراد المأمون بعد هذه الأحداث أن يكسب ود الناس، و يبدل نقمتهم بالمحبة و الرضا، فعهد بالأمر من بعده الي سليل النبوة، و عالم آل محمد (ص) الذي أجمع المسلمون علي حبه، و تعظيمه و اكباره، و انه أحق بأمر المسلمين من غيره... و قد نال المأمون بذلك و دعامة الناس و تقديرهم و الثناء عليه، و انه قد أوصل ارحاما قد قطعت، و آمن نفوسا قد فزعت و أحيي أسرة النبي (ص) التي أتلفها جور العباسيين و ظلمهم.

هذه بعض العوامل التي حفزت المأمون علي تعيينه للامام وليا لعهده و لم يكد يخفي علي الامام (ع) ذلك، فقد امتنع أشد الامتناع من قبول الأمر، و لما لم يجد سبيلا الي الرفض شرط عليه شروطا ليظهر للناس كراهته و زهده في الحكم، و هي:

1 - لا يأمر، و لا ينهي.

2 - لا يفتي، و لا يقضي.



[ صفحه 389]



3 - لا يولي أحدا، و لا يعزل أحدا.

4 - لا يغير شيئا مما هو قائم [3] .

و هذه الشروط دللت علي زهده في الحكم فقد جعلته بمعزل عنه كما جعلته منفصلا عن الهيئة السياسية الحاكمة، و لو كان الامام (ع) يعلم بواقعية ذلك و صدق المأمون لما شرط ذلك عليه، و لما ابتعد عن الاشتراك بأي عمل ايجابي يعني للدولة.

و علي أي حال فان المأمون أظهر سروره البالغ بذلك، و أصدر مرسوما ملكيا باقامة المهرجانات و الزينة في جميع انحاء البلاد، و أمر بازالة السواد من اللباس و الأعلام الذي كان شعارا للعباسيين، و تبديله باللباس الأخضر الذي هو شعار العلويين، و ضرب اسم الامام الرضا (ع) علي الدرهم و الدينار، و فرق الجوائز الثمينة، و الهبات الضخمة علي الناس، و عهد الي الشعراء ان يمدحوا الامام و يثنوا عليه، و انبري العباس الخطيب فتكلم، و اثني علي المأمون احسن الثناء، و ختم ذلك بقوله:



لابد للناس من شمس و من قمر

فأنت شمس و هذا ذلك القمر [4] .



و تباري الشعراء في مدح الامام الرضا (ع) و الثناء علي المأمون، و لم يشترك في هذه الحلبات شاعر البلاط ابونواس، فعاتبه المأمون، و قال له: قد علمت مكان علي بن موسي الرضا، و ما أكرمته به فلماذا أخرت مدحه و أنت شاعر زمانك، و قريع دهرك، فتأمل ابونواس، و نظم هذه الأبيات الخالدة التي سارت مع الزمن قائلا:



قيل لي أنت أوحد الناس طرا

في فنون من الكلام النبيه



لك من جواهر الكلام بديع

يثمر الدر في يدي مجتنيه





[ صفحه 390]





فعلام تركت مدح ابن موسي

و الخصال التي تجمعن فيه



قلت لا اهتدي لمدح امام

كان جبريل خادما لأبيه



و فازت هذه الأبيات الرائعة علي كافة ما ألقاه الشعراء من قصائد المدح و استحسنها المأمون، و اعجب بها - كما اعجب بها غيره - فأوصله من المال بمثل ما أوصل به كافة الشعراء، و فضله عليهم [5] .

و نظر ابونواس الي الامام فرأي أنوار الامامة و التقوي قد علت من الامام فتقدم اليه، و قال له: يابن رسول الله قد قلت فيك أبياتا أحب أن تسمعها مني، فقال (ع) هاتها، فأنشأ يقول:



مطهرون نقيات ثيابهم

تجري الصلاة عليهم أينما ذكروا



من لم يكن علويا حين تنسبه

فماله من قديم الدهر مفتخر



فالله لما بري خلقا فأتقنه

صفاكم و اصطفاكم أيها البشر



فانتم الملأ الأعلي، و عندكم

علم الكتاب و ما جاءت به السور



فقال له الامام الرضا، قد جئتنا بأبيات ما سبقك اليها أحد و قال لغلامه:

- هل معك من نفقتنا شي ء؟

- ثلاث مائة دينار.

- اعطها اياه.

- ثم قال لغلامه: لعله استقلها سق اليه البغلة، فساقها له [6] .

و أخذت البيعة بولاية العهد للامام (ع) في جميع الأقطار الاسلامية، و قام الخطباء علي المنابر يدعون للامام، و يشيدون بفضله و علمه، و رأي



[ صفحه 391]



بعض الشيعة الامام و هو لابس الخلع، و الألوية تخفق علي رأسه فغمرته موجات من الفرح و السرور، و بان ذلك علي سحنات وجهه فأشار اليه الامام بالدنومنه، فأسر اليه قائلا: «لا تشغل قلبك بشي ء مما تري من هذا الأمر، و لا تستبشر به فانه لا يتم» [7] فكان كما أخبر (ع) فلم يمض قليل من الوقت حتي تنكر له المأمون، و أخذ يسعي جاهدا في اغتياله كما سنذكره.


پاورقي

[1] عيون أخبار الرضا 2 / 140 - 141، كشف الغمة، المناقب.

[2] تأريخ الخلفاء: ص 299.

[3] المناقب 4 / 363.

[4] عيون اخبار الرضا 2 / 146.

[5] عيون أخبار الرضا 2 / 143، وفيات الأعيان 2 / 433.

[6] عيون أخبار الرضا، وفيات الأعيان.

[7] الفصول المهمة: ص 271.