بازگشت

طلبه للخلافة


لقد بلي المجتمع الاسلامي منذ فجر تأريخه بطائفة من باعة الضمير الذين لا يقدسون سوي المادة و ما يحقق رغباتهم الرخيصة، فنكلوا بالمسلمين و أضروهم الي حد بعيد و ذلك بنكايتهم بالمصلحين الذين يطالبون بالصالح العام لأوطانهم و أمتهم.

لقد كان تأريخ الاسلام حافلا بالشي ء الكثير من أعمال هؤلاء المخربين الذين هم من أقوي عوامل الشر و الفساد ولولاهم لما تمكنت السلطة علي الظلم و الجور، و قد سعي فريق من هؤلاء بالامام موسي (ع) الي هارون فأوغروا صدره عليه و أثاروا كوامن الحقد عليه، فقد قالوا: انه يطالب بالخلافة، و يكتب الي سائر الأقطار و الأمصار الاسلامية يدعوهم الي نفسه و يحفزهم الي الثورة ضد حكومته، و كان في طليعة هؤلاء الوشاة يحيي البرمكي و كان السبب في وشايته - فيما يقول الرواة - هو أن الرشيد قد جعل ولي عهده محمد بن زبيدة عند جعفر بن محمد بن الأشعث، فساء ذلك يحيي و أحاطت به هواجس مريرة، و خاف أن تنقضي دولته و دولة ولده اذا أفضي الأمر الي محمد، و ان زمام الدولة سيكون بيد جعفر، و كان يحيي قد عرف ميوله و اتجاهه نحو العلويين و انه يذهب الي امامة موسي (ع)، فاختلي به و عرفه بفكرته و ان له ميولا نحو العلويين فسر جعفر بذلك و عرفه بفكرته، و لما علم يحيي ذلك منه سعي به الي الرشيد فتأثر منه، ولكنه لم يوقع به أي



[ صفحه 453]



مكروه لأنه تذكر أياديه و جميل آبائه علي العباسيين.

و دخل جعفر علي الرشيد فوسع له في مجلسه، و جري بينهما حديث استطابه هارون، فأمر له بعشرين الف دينار، فغضب يحيي، فلما كان اليوم الثاني دخل عليه فقال له:

يا أميرالمؤمنين، كنت قد أخبرتك عن جعفر و مذهبه، فتكذب ذلك - و ها هنا أمر في الفيصل -

قال الرشيد: ما هو؟

قال يحيي: انه لا يصل اليه مال من جهة من الجهات الا أخرج خمسه فوجه به الي موسي بن جعفر، و لست أشك في العشرين الف دينار انه وجه خمسها اليه.

قال هارون: ان في هذا لفيصلا.

فأرسل في الوقت خلف جعفر، فلما انتهي اليه الرسول عرف سعاية يحيي به فلم يشك في أن هارون انما دعاه في غلس الليل ليقتله، فأفاض عليه الماء و اغتسل غسل الأموات، و أقبل الي الرشيد فلما وقع بصره عليه و شم منه رائحة الكافور قال له:

ما هذا؟

- يا أميرالمؤمنين، قد علمت أنه قد سعي بي عندك، فلما جاءني رسولك في هذه الساعة لم آمن من أن يكون قد انقدح في نفسك ما يقال علي، فأرسلت الي لتقتلني.

قال هارون: - كلا - ولكن قد أخبرت أنك تبعث الي موسي بن جعفر من كل ما يصير اليك بخمسه، و انك قد فعلت ذلك في العشرين الف دينار التي وهبتها لك، فأحببت أن أعلم ذلك؟.

قال جعفر: الله اكبر يا أميرالمؤمنين، تأمر بعض خدمك ليذهب



[ صفحه 454]



فيأتيك بها بخواتيمها.

فأمر الرشيد بعض خدمه فأتاه بها علي ما هي عليه لم يؤخذ منها شي ء، فبدا السرور علي سحنات وجهه و قال له:

هذا أول ما نعرف كذب من سعي بك الي، صدقت يا جعفر انصرف آمنا، فاني لا أقبل فيك قول أحد.

فخجل يحيي، و باء بالخزي و الخسران، و ازداد غيظه و حنقه و أخذ يعمل جاهدا في اسقاط مكانة جعفر و زوال نعمته، فرأي أن يسعي بالامام موسي (ع) ليتوصل بذلك الي النكاية به، فقال ليحيي ابن أبي مريم: ألا تدلني علي رجل من آل أبي طالب له رغبة في الدنيا فأوسع له منها؟ فقال له: نعم، ذاك علي بن اسماعيل بن جعفر، فأرسل خلفه يحيي و كان آنذاك في الحج، فلما اجتمع به فال له يحيي: اخبرني عن عمك موسي، و عن شيعته و عن المال الذي يحمل اليه فقال: عندي الخبر، و حدثه بما يريد، فطلب منه أن يرحل معه الي بغداد ليجمع بينه و بين الرشيد فأجابه الي ذلك فلما سمع الامام موسي (ع) بسفره مع يحيي بعث خلفه فقال له:

بلغني أنك تريد السفر؟

- نعم.

- الي أين؟

- الي بغداد.

- ما تصنع؟

- علي دين و أنا مملق.

- أنا أقضي دينك، و أكفيك أمورك.

فلم يلتفت الي الامام و وسوست له نفسه و أجاب داعي الهوي فترك الامام و قام من عنده، فقال (ع) له: لا تؤتم أولادي، ثم أمر (ع) له



[ صفحه 455]



بثلاثمائة دينار و أربعة آلاف درهم، و قال (ع): و الله ليسعي في دمي و يؤتم أولادي فقال له أصحابه:

«جعلنا الله فداك، فأنت تعلم هذا من حاله، و تعطيه؟!!»

فقال (ع): نعم حدثني أبي عن آبائه عن رسول الله (ص) أنه قال: ان الرحم اذا قطعت فوصلت قطعها الله.

و خرج لي يطوي البيداء حتي انتهي الي بغداد، فدخل علي الرشيد فقال له بعد السلام عليه.

ما ظننت أن في الارض خليفتين حتي رأيت عمي موسي بن جعفر يسلم عليه بالخلافة.

و قيل: انه قال له: ان الأموال تحمل اليه من المشرق و المغرب، و ان له بيوت أموال، و انه اشتري ضيعة بثلاثين الف دينار، و سماها «البسرية».

فلما سمع ذلك الرشيد فقد صوابه و أحرقه الغيظ، و أمر لعلي بمائتي الف درهم علي أن يستحصلها من بعض نواحي المشرق فمضت الرسل لجباية المال اليه فدخل بيت الخلاء فزحر فيه و سقطت امعاؤه فأخرج منه و هو يعاني آلام الموت فقيل له: ان الأموال قد وصلتك فقال: ما أصنع بها و قد أتاني الموت و قيل: انه رجع الي داره فهلك فيها في تلك الليلة التي اجتمع بها مع هارون [1] و قد باع آخرته بدنياه و لم ينتفع بها و باء بالخزي و العذاب الأليم

و ذكرت بعض المصادر أن من جملة الوشاة بالامام يعقوب بن داود [2] و هذا القول ضعيف للغاية فان يعقوب قد سجنه المهدي في المطبق - لاطلاقه



[ صفحه 456]



بعض العلويين، و بقي في السجن طيلة خلافة المهدي و الهادي، فلما ولي هارون الخلافة توسط في اطلاق سراحه البرامكة، فأخرج من السجن و قد فقد بصره فخيره الرشيد بين المقام في بغداد أو السكني في بعض الأقاليم الاسلامية، فاختار سكني يثرب، فمكث فيها بعيدا عن السياسة مشغولا بنفسه حتي وافاه الأجل المحتوم، و بعد هذا فكيف يظن بوشايته بالامام؟


پاورقي

[1] عيون اخبار الرضا، غيبة الشيخ الطوسي، البحار، المناقب، و قيل ان الساعي به هو محمد بن اسماعيل.

[2] عيون أخبار الرضا.