المانوية
و أكثر المبادي ء الالحادية انتشارا في ذلك العصر: الفكرة «المانوية» و هي فكرة قديمة أسسها ماني بن فاتك الفارسي الحكيم، و قد ولد سنة» 215 أو 216 م» و قد ظهر في زمن شابور، و قتله بهرام، و كان يقول: بنبوة المسيح، و ينكر نبوة موسي، و زعم أن العالم مصنوع مركب من اصلين قديمين: النور و الظلمة، و انهما أزليان، و أنكر وجود شي ء الا من أصل
[ صفحه 127]
قديم [1] .
و قد ذهبت المانوية الي التناسخ استنادا الي ما ذكره ماني في بعض كتبه حيث قال: (ان الأرواح التي تفارق الاجسام نوعان: أرواح الصديقين و أهل الضلالة، اما أرواح الصديقين اذا فارقت الاجساد أسرت في عمود الصبح الي النور الذي فوق الفلك فبقيت في ذلك العالم علي السرور الدائم و أما أرواح أهل الظلال اذا فارقت الأجساد، و أرادت اللحوق بالنور الأعلي ردت منعكسة الي السفل فتتناسخ في أجسام الحيوانات الي أن تصفوا من شوائب الظلمة ثم تلتحق بالنور العالي [2] .
و قد فرض ماني علي أصحابه العشر في الأمول كلها، و الصلوات الأربع في اليوم و الليلة و الدعاء الي الحق، و ترك الكذب و القتل و السرقة و الزنا و السحر و عبادة الأوثان، و ان يأتي علي ذي روح، كما انه عد وجود الانسان جناية جناها أهله و يجب انقراضه [3] كما انه يري ان ما يصدر عن الانسان من خير فمصدره اله الخير، و ما يصدر منه من شر فمصدره اله الشر، و قد صور بعض أفكاره أبونؤاس في هجائه لأبان، أحد أقطاب هذه الفكرة بقوله:
جالست يوما (أبانا)
لا در در (أبان)
و نحن حضر رواق الأ
مير بالنهروان
حتي اذا ما صلاة [4] الأ
ولي دنيت لأذان
فقام ثم به ذو
فصاحة و بيان
[ صفحه 128]
و كلما قال قلنا [5] .
الي انقضاء الأذان
فقال [6] : كيف شهدتم
بذا بغير عيان؟
لا أشهد - الدهر - حتي
تعاين العينان
فقلت: (سبحان ربي!!)
فقال: (سبحان ماني)
فقلت: (عيسي رسول الله)
فقال: من شيطان
فقلت: موسي نجي
المهيمن المنان
فقال: ربك ذو مقلة
اذا و لسان؟
أنفسه خلقته
أم من؟ فقمت مكاني
عن كافر يتمري [7] .
بالكفر بالرحمن [8] .
و قلت المانوية ببث الحركات الالحادية في العصر العباسي، و كان من أعلامها ابن المقفع، فقد قام بترجمة كتب ماني، و ابن ديصان، و مرقيون من الفارسية الي العربية [9] كما وضع كتابا يبشر بالمانوية، و يحمل فيه علي المبادي ء الاسلامية، و قد افتتحه باسم النور الرحمن الرحيم، و قال المهدي: ما وجدت كتاب زندقة قط الا و أصله ابن المقفع [10] و اجتاز علي بيت نار للمجوس فتمثل:
يا بيت عاتكة الذي أتغزل
حذر العدي و بك الفؤاد موكل
[ صفحه 129]
اني لأمنحك الصدود و انني
قسما اليك مع الصدود لأميل [11] .
و نسب اليه قلة الاحترام للقرآن و محاولته لمعارضته [12] و شكك «فرنشيكو جبرييلي» في نسبة ذلك اليه [13] ، و ان قتله لم يكن سببه الاتهام بالزندقة، وانما كان من اجل كتابته للأمان لعبدالله بن علي علي المنصور، و الذي لم يجد فيه المنصور ثغرة ينفذ منها لنقض ذلك العهد مما أثار غضب المنصور فأمر بقتله [14] .
و علي اي حال فان المانوية كانت من اكثر المبادي ء التي دهمت المسلمين في ذلك العصر.
پاورقي
[1] الملل و النحل: 1 / 224.
[2] الفرق بين الفرق: ص 271.
[3] الملل و النحل: 1 / 228.
[4] أراد بالصلاة الأولي صلاة الصبح.
[5] المراد أنه كلما قال المؤذن: قولا رددناه بعده.
[6] أي قال أبان: كيف شهدتم بقول المؤذن أشهد أن لا اله الا الله و ان محمدا رسول الله و لستم شهود عيان.
[7] يتمري بالكفر: أي يتزين به.
[8] أبونواس قصة حياته لعبدالرحمن صدقي: ص 63.
[9] الاغاني: 12 / 87.
[10] معجم الادباء / 15، الامالي 1 / 93 - 94.
[11] الامالي 1 / 94.
[12] من تأريخ الالحاد في الاسلام: ص 43.
[13] مجلة الدراسات الشرقية 13 / 1932، و ترجمه الدكتور عبدالرحمن بدوي، و نشره في كتابه الالحاد في الاسلام ص 40 - 64.
[14] الجهشياري: ص 110.