بازگشت

الاسراف في الاتهام


و لم يكن كل هؤلاء الذين اتهموا بالالحاد و المروق عن الدين زنادقة حقيقين بل كان بعضهم يتهم بالزندقة لأسباب سياسية، فقد اتخذ الخلفاء من هذا الاتهام وسيلة للقضاء علي خصومهم من الهاشميين، و علي هذا النحو أتهم أحد أبناء داود بن علي، و يعقوب بن الفضل، و أتي بهما الي المهدي و لما كان الخليفة المهدي قد ارتبط من قبل بعهد ألا يقتلهما فلم يستطع ذلك



[ صفحه 137]



و انما حبسهما و أشار الي ابنه الهادي أن يقتلهما حينما يتولي الخلافة.

و تعدي الاتهام بالزندقة الي جميع من لا يرضي بحكم الخلفاء أو لا يري جواز الصلاة خلفهم فهذا شريك بن عبدالله القاضي، كان لا يري الصلاة خلف المهدي فأمر به فأحضر عنده فقال له: - في جملة كلامه - يابن الزانية، فقال شريك: مه يا أميرالمؤمنين فلقد كانت صوامة قوامة.

فقال له المهدي: يا زنديق، لأقتلنك، فضحك شريك، و قال: يا أميرالمؤمنين، ان للزنادقة علامات يعرفون بها: شربهم القهوات، و اتخاذهم القينات، فأطرق المهدي و لم يطق جوابا [1] .

و دلت هذه البادرة علي مدي اسرافهم باطلاق الزندقة علي كل من يكرهونه و لا يرضون عنه كما دل جواب شريك علي أن المدار في الزندقة هو شرب الخمر و اتخاذ القينات. فعلي هذا يطلق الزنديق علي كل ماجن خليع، و بهذا الاعتبار ألقي القبض علي آدم حفيد عمر بن عبدالعزيز، فقد أتهم بالزندقة لأنه كان خليعا ماجنا مسرفا في الشراب و جرت علي لسانه أبيات - و هو سكران - فيها مساس للدين قال فيها:



اسقني و اسق خليلي

في مدي الليل الطويل



لونها أصفر صاف

و هي كالمسك الفتيل



في لسان المرء منها

مثل طعم الزنجبيل



ريحها ينفح منها

ساطعا من رأس ميل



من ينل منها ثلاثا

ينس منهاج السبيل



فمتي ما نال خمسا

تركته كالقتيل



ليس يدري حين ذاكم

ما دبير من قبيل



ان سمعي عن كلام

اللائمي فيها ثقيل





[ صفحه 138]



لشديد الوقر اني

غير مطواع ذليل



قل لمن يلحاك فيها

من فقيه أو نبيل



أنت دعها و ارج أخري

من رحيق السلسبيل



تعطش اليوم و تسقي

في غد نعت الطلول



من أجل ذلك أخذه المهدي و رماه بالزندقة، و ضربه ثلثمائة سوطا علي أن يقر بذلك، و هو ينفي عنه التهمة و يقول: و الله، ما أشركت بالله طرفة عين، و متي رأيت قرشيا تزندق؟ ولكنه طرب غلبني و شعر طفح علي قلبي، و أنا فتي من فتيان قريش أشرب النبيذ، و أقول ما قلت علي سبيل المجون، ثم هجر الشراب بعد ذلك و كره أن يري الخمر و يقول:



شربت فلما قيل ليس بنازع

نزعت و ثوبي من أذي اللؤم طاهر [2] .



لقد اتهم آدم بالزندقة و هو لم يكن زنديقا، و انما غلبه الشعر بقول فيه هجر، و لم يقتصر الخلفاء علي ذلك فقد أطلقوا لفظ الزنديق علي كل من يناقش أحاديث الصحابة أو يردها [3] و الغرض من ذلك الحكم علي الشيعة بالمروق عن الاسلام ليستحلوا بذلك اراقة دمائهم، يقول عبدالرحمان بدوي: ان الاتهام بالزندقة في ذلك العصر كان يسير جنبا الي جنب مع الانتساب الي مذهب الرافضة كما لاحظ ذلك الاستاذ (فيدا) [4] .

لقد كان الانتساب لمذهب التشيع في تلك الفترات المظلمة من أهم الجرائم، فان هذه التهمة في نظر المسؤولين فوق جريمة الالحاد، فان المتهم بالكفر و الالحاد تقبل توبته و يعفي عنه، اما المتهم بالولاء لأهل البيت (ع) فانه يحكم عليه بالكفر و المروق عن الدين مع ايمانه بالله و رسوله و اقامته



[ صفحه 139]



لفرائض الاسلام.

و مهما يكن من أمر فقد اتخذ خلفاء بني العباس الاتهام بالزندقة في كثير من الاحيان وسيلة للحكم بالاعدام علي الشيعة وزجهم في غياهب السجون و انما تعسفوا في ذلك لأن الشيعة قد أعلنت الحرب بغير هوادة علي كل ظالم جائر، و قدمت المزيد من التضحيات للقضاء علي الظالمين، و اعتبرت اولئك الحاكمين من أئمة الظلم و الضلال فانبرت الي مناجزتهم و بذلت جميع القوي لتحطيم عروشهم، و سنذكر ذلك مشفوعا بالتفصيل عما قريب.


پاورقي

[1] ابن كثير: 10 / 53.

[2] الأغاني: 1 / 60 - 61.

[3] تأريخ بغداد: 14 / 7.

[4] من تأريخ الالحاد في الاسلام.