بازگشت

في مقره الأخير


و أحاطت الجماهير بالجثمان المقدس و هي تتسابق الي حمله و التبرك به، فجاءت به الي مقابر قريش، فحفر له قبر هناك و أنزله في مقره الأخير سليمان بن أبي جعفر و هو مذهول اللب خائر القوي، و بعد فراغه من مراسيم



[ صفحه 529]



الدفن، أقبلت اليه الناس و هي تعزيه و تواسيه بالمصاب الأليم، و هو واقف يشكرهم علي ذلك.

و انصرف المشيعون و هم يعددون فضائل الامام و مناقبه، و يذكرون ما عاناه من المحن و الخطوب، و كان فقده من أعظم النكبات التي مني بها العالم الاسلامي في ذلك العصر، فقد فقد المسلمون علما من أعلام العقيدة الاسلامية و غصنا يانعا من دوحة النبوة، و اماما من أئمة المتقين و المنيبين.

لقد عاش الامام (ع) في حياته عيشة المتقين و الصالحين، فآثر طاعة الله علي كل شي ء و عمل جاهدا علي رفع كلمة الحق و تحطيم الباطل فلم يجار هارون، و لم يصانعه، بل كان من أقوي الجبهات المعادية له، و قد تحمل في سبيل ذلك جميع ضروب الأذي و الآلام، حتي لفظ أنفاسه الأخيرة و هو في ظلمات السجون، ففاز بالشهادة، و جعل الله ذكره خالدا و حياته قدوة، و مرقده ملجأ للمنكوبين و ملاذا للملهوفين كما من عليه فجعله من أئمة أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا».

و بعد: فاني قد فرغت من تأليف هذا الكتاب، و أتمت المطبعة صفحاته الأخيرة، و أود أن أسجل شيئا من الخير أن لا يضيع، و هو ان هذا الكتاب ما هو الا صفحة من تأريخ هذا الامام العظيم، و ترجمة موجزة لحياته، و لا أزعم أني قد ألممت بسيرته، أو ترجمت له ترجمة صورت جميع أبعاد حياته فذاك أمر غير ممكن، فان العشرات من أمثال هذا الكتاب بصورة جازمة لا يمكن أن تحكي واقعه أو تلم بسيرته، و بجميع ما أثر عنه.

لا أقول ذلك لأغض من هذا الجهد الشاق الذي أنفقته، و لا لأصطنع التواضع، و لا أنا مدفوع بدافع الغلو و الافراط في الحب.. و انما الواقع يمليه



[ صفحه 530]



علي، فان ماروي عنه من الأخبار المتعلقة بأحكام الدين و فروعه من العبادات و المعاملات و العقود و الايقاعات تستدعي وضع عدة كتب لها، فموسوعات الحديث و موسوعات الفقه الاستدلالي قد حفلت بالشي ء الكثير من رواياته التي هي من مدارك الفتيا في الفقه الشيعي... مضافا الي ما أثر عنه من الحكم و الآداب، و قواعد السلوك و الأخلاق، و آرائه في السياسة و الاقتصاد، و الفلسفة، و علم الكلام، و غيرها مما لم نذكر منه الا النزر اليسير، فاذن ليس هذا الكتاب كما كنت اعتقد - و استغفر الله - انه ملم بحياة الامام، و مستوعب لسيرته و شؤونه، و انما يصور لحظة من حياته، و يعطي مثلا موجزا عنها.

لقد أصبحت و أنا مؤمن أشد الايمان ان هذا الامام العظيم كنز من كنوز الاسلام التي لا تنفذ، و انه ملأ فم الدنيا بفضائله، و مناقبه و مآثره، و ان سمو شخصيته العظيمة التي ملكت قلوب المسلمين فآمنوا بامامته، هي التي أثارت عليه احقاد هارون الرشيد و اضغانه، فقدم علي ترويعه، و زجه في ظلمات السجون، و قتله مع علمه أنه لم يحرض عليه، و لم يوجب علي شيعته الخروج علي سلطانه.

و اني أعود الي الاعتذار من سيدي العظيم خوفا من أن أكون قد جافيت الواقع، او ابتعدت عن القصد في بعض ما كتبته عنه راجيا أن يمنحني القبول، و أن يتلطف علي بالرضا، و أن تنالني شفاعته يوم الوفادة علي الله.