بازگشت

هباته للشعراء


و أسرف هارون في الانفاق علي الشعراء فبذل لهم بسخاء الأموال الوفيرة، و منحهم الثراء العريض لأنهم قد بالغوا في الثناء عليه فأفاضوا عليه صفات المتقين و حماية الدين و الحفاظ عليه، و انه ظل الله في أرضه لا تقبل الأعمال عند الله الا برضاه و طاعته فاذا سخط هارون علي أحد فلا تنفعه صلاته و عبادته، و جاء هذا المعني صريحا فيما نظمه منصور النمري بقوله:



أي امريء بات من هارون في سخط

فليس بالصلوات الخمس ينتفع



ان المكارم و المعروف أودية

أحلك الله منها حيث تتسع



اذا رفعت امرءا فالله يرفعه

و من وضعت من الأقوام متضع



[ صفحه 37]



و قد اتخذ هارون هؤلاء الشعراء بوقا للدعاية و التهريج فأشاعوا بين الناس فيما نظموه ان هارون حامي الاسلام، و ممثل العدالة الاسلامية في الارض و انه قد بسط الحق في جميع انحاء البلاد، و من هؤلاء الذين نعتوه بالعدالة و حماية الدين داود بن رزين بقوله:



بهارون لاح النور في كل بلدة

و قام بها في عدل سيرته النهج



امام بذات الله أصبح شغله

و اكثر ما يعني به الغزو و الحج



تضيق عيون الناس عن نور وجهه

اذا ما بدا للناس منظره البلج [1] .

و مدحه بعض الأمويين بقصيدة جاء فيها:



يا أمين الله اني قائل

قول ذي لب و صدق و حسب



لكم الفضل علينا و لنا

بكم الفضل علي كل العرب



عبد شمس كان يتلو هاشما

و هما بعد لأم و لأب



فصل الارحام منا انما

عبد شمس عم عبدالمطلب



فأمر له بكل بيت الف دينار و قال: لو زدتنا لزدناك [2] و قد غالي الشعراء في مدحه و أطنبوا في الثناء عليه، و بالغ هو في اكرامهم و الانعام عليهم حتي أغناهم، و من جملة صلاته لهم مارواه الطبري قال: «دخل سعيد بن سلم بن قتيبة الباهلي علي الرشيد في مجلس شعره، و الشعراء يلقون أمامه قصائدهم، فقال: يا أميرالمؤمنين، بالباب اعرابي من باهلة ما رأيت قط أشعر منه فاذن للاعرابي فدخل و عليه جبة خز و رداء يماني، قد شد وسطه ثم ثناه علي عاتقه، و عمامة قد عصبها علي خديه، و أرخي لها عذبة و أنشده من غرر الشعر الجيد في مدحه و كان في مجلسه الكسائي و ابن سلم و الفضل بن الربيع، فلما انتهي قال الرشيد: اسمعك مستحسنا و أنكرك متهما عليك فان كان هذا الشعر أنت قلته من نفسك فقل لنا بيتين في هذين



[ صفحه 38]



و أشار الي الامين و المأمون و كانا حاضرين، فقال:



هما طنباها بارك الله فيهما

و أنت أميرالمؤمنين عمودها



بنيت بعبد الله بعد محمد

ذري قبة الاسلام فاهتزعودها



فأعطاه الرشيد مائة الف درهم [3] و دخل عليه أشجع السلمي و كان ثقيلا عليه فقال له:

«يا أميرالمؤمنين، ان رأيت أن تأذن لي في انشادك، فاني ان لم أظفر منك ببغيتي في هذا اليوم فلن أظفر بها».

قال له الرشيد: و كيف ذاك؟

قال أشجع: لاني مدحتك بشعر لا أطمع من نفسي و لا من غيري في أجود منه، فان أنا لم اهزك في هذا اليوم فقد حرمت منك ذلك الي آخر الدهر.

فقال الرشيد: هات اذن نسمع، فأنشده قصيدته الي أن بلغ الي قوله:



و علي عدوك يابن عم محمد

رصدان ضوء الصبح و الاظلام



فاذا تنبه رعته و اذا هذي

سلت عليه سيوفك الاحلام



فقال الرشيد: هذا والله المدح الجيد و المعني الصحيح لا ما عللت به مسامعي هذا اليوم - و كان قد أنشده في ذلك اليوم جماعة من الشعراء - ثم أنشده قصيدته التي يقول فيها:



ملك أبوه و امه من نبعة

منها سراج الأمة الوهاج



شربا بمكة في ذرا بطائحها

ماء النبوة ليس فيه مزاج



فلما سمع هذين البيتين كاد يطير فرحا، ثم قال له: يا أشجع لقد دخلت الي و أنت أثقل الناس علي قلبي، و انك لتخرج من عندي و أنت



[ صفحه 39]



أحب الناس الي، فقال أشجع:

ما الذي أكسبتني هذه المنزلة؟

قال الرشيد: الغني فاسأل ما بدا لك. قال: الف الف درهم، قال: ادفعوا اليه [4] .

و يقول الاصفهاني ان مجموع ما أخذ ابراهيم الموصلي من الرشيد كان أكثر من مائتي الف دينار [5] و قد حفلت كتب التأريخ بعطائه الوفير للشعراء و نوادر قصصهم معه، و نحن لا نشك في ان السخاء من أطيب الصفات و أرفعها ولكن اذا كانت الاموال التي ينفقها الشخص من أمواله الخاصة، و أما بذل أموال المسلمين و الاسراف في عطائها فان ذلك خيانة لله و للمسلمين.


پاورقي

[1] العقد الفريد: (ج 3 ص 258).

[2] مروج الذهب 382: 3.

[3] الطبري: (ج 3 ص 261).

[4] طبقات الشعراء: ص 252.

[5] الأغاني: (ج 5 ص 20).