بازگشت

تسيب الاخلاق


كان العصر العباسي في أغلب ادواره عصر لهو و مجون قد أقبل الناس فيه علي الطرب و الغناء، و اندفعوا الي الاستمتاع بجميع انواع المحرمات من الادمان علي شرب الخمر، و استعمال الميسر، و منادمة الجواري، و الغلمان و غيرها مما حرمه الله، و قد شجعهم علي ذلك الجهاز الحاكم فانه قد غرق في المنكر و الاثم، و دفع الناس الي ذلك اللهو و انا لنتخذ المقياس في فساد الاخلاق من شعراء ذلك العصر، فانهم يمثلون المجتمع في جميع اتجاهاته و ميوله تمثيلا صحيحا، فقد كان شعرهم لا يصور جدا و لا نشاطا في الحياة العامة، و لا يصور أي واقع للحياة الفكرية، و انما كان شعرهم في وصف العقار و القيان، و البعث الي اللذة و الشهوات، و كان ما أثر عنهم في هذا المجال و صمة في تراث الادب العربي، و فيما يلي هذه البادرة التي تدل علي ذلك:

اجتمع شعراء البلاط العباسي، فقالوا: اين نقضي هذه الليلة سهرتنا



[ صفحه 155]



فأخذ كل واحد يدعوهم الي بيته، فاقترح ابونواس ان تكون هذه الدعوة شعرا لا نثرا و ان تذهب الجماعة الي احسنهم نظما في ذلك، فقال داود بن رزين الواسطي:



قوموا لمنزل لهو

و ظل بيت كنين



فيه من الورد و النر

جس و الياسمين



و ريح مسك ذكي

و فائح المرزجون [1] .

و قنية ذات غنج

و ذات عقل رصين



تشدو بكل طريف

من محكم (ابن رزين)



و قال أبونواس:



لا بل الي ثقاتي

قوموا بنا لحياتي



قوموا نلذ جميعا

بقول هاك و هاتي



... و ذكر لونا من الخلاعة ننزه الكتاب عن ذكره.

و قال الخليع:



الي (الخليع) فقوموا

الي شراب الخليع



الي شراب لذيذ

و أكل جدي رضيع



و نيل أحوي رخيم

بالخندريس صريع [2] .



في روضة جادها صوب

غاديات الربيع



قوموا تنالوا وشيكا

منال كل رفيع



[ صفحه 156]



و قال الرقاشي:



لله در عقار

حلت ببيت (الرقاشي)



عذراء ذات احمرار

اني بها لا أحاشي



و قال عمرو الوارق:



عوجوا الي بيت (عمرو)

الي سماع و خمر



و ناشجات علينا

تطاع في كل أمر



هناك أحلي و أشهي

من صيد باز و صقر



هذا و ليس عليكم

أولي و لا وقت عصر



و قال الحسين الخياط:



قضت عنان علينا

بأن نزور (حسينا)



و أن نقر لديه

باللهو و القصف عينا



فما رأينا كظرف

(الحسين) فيما رأينا



و قالت عنان:



مهلا أفديك مهلا

(عنان) أحري و أولي



بأن تنال لديها

أشهي النعيم و أحلي



لا تطمعوا في سواي

من البرية كلا



يا اخوتي خبروني

أجاز حكمي أم لا؟!



و مضي كل واحد ينظم أبياتا فيها ترغيب علي اللذة و حث علي اللهو و المجون. فاقترح ابونواس الذهاب الي حانة خمار، فقال:



[ صفحه 157]



ألا قوموا الي الكرخ

الي منزل خمار



الي صهباء كالمسك

الي جونة عطار



و بستان به نخل

له زهر باشجار



فان احببتم لهوا

أتيناكم بمزمار [3] .



ان هذا اللون من الأدب المكشوف قد دل علي انتشار الميوعة و فساد الاخلاق و التحلل من الرواسب الدينية التي تحرم ذلك.

ان سمة الحياة في ذلك العصر يمثلها الشعراء، فقد استأثرت عواطفهم و أحاسيسهم باللهو و المجون، و تعلقت قلوبهم بالخمر فعكفوا علي وصفها و الثناء عليها، و قد كرس ابونواس مجهوده الفكري علي «وصف الأكواب و الكؤوس و الدنان و السقاة و الخمارين و الندمان و الكروم، و لم يفته أن يذكر اصناف الخمور، و طريقة صنعها، و لم ينس أن يفرق بين هذه و تلك في الطعم و اللون و الرائحة، و لم يقصر في بيان النشوة، و دبيبها في الاعضاء و سورتها في الرؤوس، و لم يكن بيانه بيان الذي يتعمد ذلك لغرض فني فحسب بل كان بيان الذي تمكن من نفسه الحب، فجعله يلتفت الي كل ما يتصل بها و ينظر الي ما لا يراه سواه، و يحس فيها بما لم يحس به احد.

و قد وصل حبه الي الخمر الي حد العبادة و التقديس، و قد شاعت خمرياته، وافتتن الناس بها، و كان الجاحظ معجبا اعجابا شديدا بهذه الابيات:



و دار ندامي عطلوها و أدلجوا

بها اثر منهم جديد و دارس



مساحب من جر الزقاق علي الثري

و اضغاث ريحان جني و يابس



حبست بها صحبي فجددت عهدهم

و اني علي أمثال تلك لحابس



[ صفحه 158]



أقمنا بها يوما و يوما و ثالثا

و يوما له يوم الترحل خامس



تدار علينا الراح في عسجدية

حبتها بألوان التصاوير فارس



و قرارتها كسري و في جنباتها

فهي تدريها بالقسي الفوارس



فللخمر ما زرت عليه جيوبها

و للماء مادارت عليه القلانس [4] .



و قد ذكر في مطلعها حنينه و حبه للخمر، و قد اقترن شرب الخمر مع الغناء و الرقص في ذلك العصر و كانت الأميرات و سيدات الطبقة الراقية في بغداد يشتركن في حفلات موسيقية خاصة [5] ، كما انتشرت الدور الخاصة التي أعدت للخمر و الغناء و ضرب الدفوف و الطبول، كما كانت البساتين في ضواحي بغداد تعج بحانات الخمر التي يختلف اليها الشعراء و الشباب و الفتيات و قد وصف مطيع بن اياس في بعض شعره حانة بستان صباح [6] التي كان يتعاطي فيها الخمر، كما استحالت الأديرة الي حانات شرب، و ميادين الي الغزل و المجون، و قد وصف ابونواس راهباتها و خمرها بقوله:



يا دير حنة من ذات الاكيراح

من يصح عنك فاني لست بالصاحي



رأيت فيك ظباء لا قرون لها

يلعبن منا بألباب و أرواح [7] .



و قد تحولت بغداد بل جميع انحاء العراق الي دور للهو و العبث و المجون و انساب الناس وراء الشهوات، و نبذوا القيم الاسلامية التي تحرم ذلك، و أدي ذلك الي انحطاط الاخلاق، و انغماس الناس في الاثم و المنكر، و الفساد، و امتد الفجور الي الغزل بالغلمان، و قد افرط ابونواس و امثاله



[ صفحه 159]



من الشعراء في ذلك، الامر الذي ادي الي انحلال الاخلاق و شيوع الخلاعة و الابتذال.

ومما لا شبهة فيه ان سياسة الحكم العباسي الاول هي المسؤولة عن هذه الموجة من التحلل و الفجور، فان اولئك الملوك قد اسهموا في ايجاد هذا العبث و اللهو، و اشاعة المنكر و الفساد فلم تكن هناك سوءة الا و تضاف اليهم، و لا استهانة بالعرف الاجتماعي او القيم الاسلامية الا و هم سببها و اصلها.


پاورقي

[1] المرزجون: نبت طيب الرائحة. و الكلمة فارسية.

[2] الخندريس: الخمرة القديمة.

[3] حديث الأربعاء: 2 / 46 - 48.

[4] ابن المعتز ص 206.

[5] مختصر تاريخ العرب: ص 391 - 392.

[6] الاغاني 13 / 321.

[7] الديارات النصرانية في الاسلام لحبيب زيات ص 22.