بازگشت

نشأتها


والشي ء المحقق ان الشيعة قد تكونت في عهد الرسول الأعظم (ص) فهو أول من وضع هذه البذرة الطيبة و نماها و تعاهدها بالسقي و العناية قال الامام كاشف الغطاء (قدس الله مثواه): ان أول من وضع بذرة التشيع في حقل الاسلام - هو نفس صاحب الشريعة الاسلامية - يعني ان بذرة التشيع وضعت مع بذرة الاسلام جنبا الي جنب و سواء بسواء، و لم يزل غارسها يتعاهدها بالسقي و العناية، حتي نمت و أزهرت في حياته، ثم أثمرت بعد وفاته، و شاهدي علي ذلك نفس أحاديثه الشريفة. لا من طرق الشيعة و رواة الامامية حتي يقال: انهم ساقطون لأنهم يقولون بالرجعة، او ان راويهم (يجر النار الي قرصه) بل من نفس احاديث علماء السنة و أعلامهم، و من طرقهم الوثيقة... ثم ذكر (رحمه الله) ما رواه السيوطي في كتاب (الدر المنثور) في تفسير قوله تعالي: «أولئك هم خير البرية قال: أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبدالله، قال: كنا عند النبي (ص) فأقبل علي (ع) فقال النبي (ص): «و الذي نفسي بيده ان هذا و شيعته هم الفائزون يوم القيامة»... و ذكر (رحمه الله) جملة من الاخبار المعتمد عليها المؤيدة لما ذكره» [1] و قال ابوحاتم الرازي: ان اول اسم ظهر في الاسلام هو الشيعة، و كان هذا لقب أربعة من الصحابة هم: أبوذر، و سلمان، و عمار، و المقداد، حتي آن أوان صفين، فاشتهر بين موالي علي (رضي الله عنه)» [2] .



[ صفحه 169]



هذه الفكرة قد نشأت منذ فجر التأريخ، أنشأها النبي (ص) و اعتنقها كبار الصحابة الذين آمنوا بالاسلام، و أبلوا في سبيله بلاءا حسنا، و هم: كأبي ذر و سلمان و عمار و المقداد... و اشباههم من أعلام الاسلام.

و أكد اصالة هذا الرأي جميع البحاث من مؤلفي الشيعة، يقول المرحوم الشيخ المظفري:

«ان الدعوة الي التشيع ابتدأت من اليوم الذي هتف فيه المنقذ الاعظم محمد (ص) صارخا بكلمة لا اله الا الله. فانه لما نزل عليه قوله تعالي: «و اندر عشيرتك الأقربين» جمع بني هاشم و أنذرهم قائلا: «أيكم يؤازرني ليكون أخي و وارثي و وصي و خليفتي فيكم من بعدي؟» فلم يجبه أحد الي ما أراد غير المرتضي، فقال لهم الرسول: هذا أخي و وارثي و وزيري و وصي و خليفتي فيكم بعدي فاسمعوا له و أطيعوا».

و اضاف المظفري بعد ذلك يقول:

«فكانت الدعوة الي التشيع لأبي الحسن من صاحب الرسالة تمشي معه جنبا لجنب مع الدعوة للشهادتين، و من ثم كان أبوذر الغفاري من شيعة علي» [3] .

انا اذا نظرنا الي الواقع نظرة مجردة من جميع الميول و العواطف، و متسمة بالتحقيق العلمي نجد واقعية هذا القول و اصالته و عمقه، و يدعم ذلك ما يلي:

1- ان الرسول الاعظم (ص) ترك لامته من بعده المبادي ء العظيمة التي تتطور بها حياتهم الفردية و الاجتماعية، و خلف لها أعظم تراث لم تجد له الانسانية مثيلا في جميع فترات تأريخها.. فقد اعلن حقوق الانسان، و جاء بالاهداف العريضة التي تحقق أمن الانسان و رخائه و سعادته.



[ صفحه 170]



و النبي (ص) الحريص علي اداء رسالته، و بقائها و استمرارها كان لابد له ان يقيم من بعده من يحمي مبادءه، و يصون رسالته، و يعمل علي نشرها بين جميع شعوب الارض، و من الطبيعي ان ذلك ضرورة حتمية لكل صاحب دعوة و رسالة.

2- و هناك ضرورة تلزم النبي (ص) بأن يعهد بالأمر من بعده، و هي ان هناك قوي حاقدة علي الاسلام تكيد له في وضح النهار و في غلس الليل، و تسعي جاهدة لاطفاء نوره و اخماد ضوئه، و هي فئات المنافقين الذين ذمهم القرآن الكريم و حذر منهم الرسول العظيم (ص)، و يمثل هذه القوي الغادرة أبوسفيان، و أكثر بني أمية، فكيف يترك النبي (ص) أمر الخلافة من بعده و يجعل الأمر فوضي، فان معني ذلك أن يمكن قوي البغي و الشر أن تنقض علي اهدافه و تطوي مبادءه و رسالته، و من المستحيل أن يصدر من النبي (ص) ذلك.

و مضافا لذلك فان الجزيرة العربية لم تألف الدعوة الي النظام و الاستقرار التي عنت بهما رسالة الاسلام ففيها التطور الهائل في عالم الاقتصاد و السياسة و الادارة، و سائر التنظيمات الاخري، التي تعني بالأمن العام، و الحفاظ علي الاستقرار السياسي، و التوازن العام في حياة الجماعة و الفرد، و لم تع الجزيرة بصورة جازمة هذه التطور الهائل، و لا الابعاد الحقيقية لرسالة الاسلام، و نهضته الجبارة، فكان من المحتم أن ينصب الرسول (ص) قائما من بعده لتستمر رسالته في فعالياتها و معطياتها.

و شي ء آخر بالغ الخطورة يلزم الرسول الاعظم (ص) بنصب خليفة من بعده و هو الوضع الخارجي فالروم و الفرس، و غيرهما من دول العالم كانت تشعر بخوف بالغ من تقدم الاسلام و انتشاره، و تعطش شعوبها الي اعتناقه لينقذها من الجور و الظلم و يحميها من الاستبداد و الاستغلال...



[ صفحه 171]



و كانت تلك الدول تتربص بالاسلام الدوائر، و تستعد بزج جميع قواها العسكرية للقضاء عليه، و من الطبيعي أن جميع ذلك يعلمه النبي (ص) و لم يغب عنه، فكيف يهمل أمر الخلافة من بعده، و هي بمنزلة العمود الفقري لأمته.

ان الفوضي الداخلية، و الخطر الخارجي يحتمان علي النبي (ص) أن يعني أشد العناية بأمر الخلافة، و ان يوليها المزيد من اهتمامه، و القول بانه (ص) قد أهمل ذلك لا يحمل أي طابع من التحقيق العلمي، كما انه بعيد كل البعد عن منطق القيادة الواعية الحكيمة الماثلة في شخصية الرسول (ص) التي لم تجد لها الانسانية مثيلا في وعيها و ادراكها لحقائق الامور.

و لا أحسب أن هناك شخصا يتجرد من رواسب العصبية و التقليد و ينظر الي الواقع بدقة و عمق يشك في أن النبي (ص) قد أهمل امر الخلافة، و انه لم يجعلها من جوهر الامور التي عني بها أشد العناية و الاهتمام.

3- و اذا لا حظنا سير الاحداث التي أثرت عن النبي (ص) نجد أنه قد عين الرائد، و دلل علي القائد الذي يتحمل مسؤولية القيادة الفكرية و السياسية من بعده، و انه - بصورة جازمة - قد تبني هذه الجهة بشكل ايجابي، و فرغ من اعدادها، و ذلك للحفاظ علي مستقبل دعوته، و حماية مكاسبها الاجتماعية من الانهيار و الاضمحلال.

لقد اختار الرسول الاعظم (ص) للمرجعية العامة و القيادة الزمنية الامام اميرالمؤمنين عليه السلام - كما سندلل عليه - و لم يكن هذا الاختيار بدوافع الاثرة، و حب القرابة، فان ذلك بعيد اشد البعد عن منطق النبوة التي لا تخضع لغير الحق و العدل و صالح الامة... و انما رشح الرسول (ص) الامام (ع) لهذا المنصب الخطير لما تتوفر فيه من القابليات الفذة و النزعات الكريمة، و القدرة الفائقة علي تحمل المسؤوليات الضخمة، فقد كان الامام ألصق



[ صفحه 172]



الناس برسول الله، و اكثرهم ادراكا و وعيا لاهدافه و مبادئه، واشيههم في التزامه بحرفية الاسلام، و قد صحب النبي (ص) منذ طفولته اليافعة، و غذاه (ص) بعلومه و نمي ملكاته. و قد اعرب (ع) عن ذلك بقوله:

«و قد علمتم موضعي من رسول الله (ص) بالقرابة القريبة. و المنزلة الحضيضة. وضعني في حجره. و أنا ولد يضمني الي صدره. و يكنفني في فراشه، و يمسني جسده. و يشمني عرفه. و كان يمضغ الشي ء ثم يلقمنيه. و ما وجد لي كذبة في قول. و لا خطلة في فعل... و قد كنت أتبعه اتباع الفصيل اثر أمه. يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علما. و يأمرني بالاقتداء به. و لقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه و لا يراه غيري. و لم يجمع يومئذ بيت واحد في الاسلام غير رسول الله و خديجة. و أنا ثالثهما أري نور الوحي و الرسالة و أشم ريح النبوة...».

ان هذه المسيرة الكبري التي قطعها الامام مع النبي. و تعاهده (ص) له بالرعاية و العطف. و خوض الامام معه في ميادين الكفاح. و ميادين التجربة العلمية لنجاح الدعوة الاسلامية. و معرفته بأساليبها و فلسفتها. و ما يتمتع به من المواهب و العبقريات كل ذلك يوجب ترشيحه لمنصب الخلافة تقديما للافضل علي غيره و ضمانا لصالح الامة.

4 - أما الاحداث التي أثرت عن النبي (ص) في ترشيحه و تعيينه للامام خليفة من بعده فقد بلغت من الكثرة ما وضعت لها كتب خاصة كا (لوصية) للمسعودي و (الالفين) للعلامة و (تلخيص الشافي) للشيخ الطوسي و غيرها و قد دون العلامة الحلي في كتابه ما يربو علي ثلاثين كتاب ألفت في وصية النبي (ص) للامام [4] و قد تمسك المتكلمون من الشيعة علي ذلك بسيل من الأدلة و نشير الي بعضها:



[ صفحه 173]



أولا - استدلت الشيعة علي ما ذهبت اليه بحديث المنزلة فقد قال (ص) لعلي: «أنت مني بمنزلة هارون من موسي الا انه لا نبي بعدي) [5] .

و يري الشيخ المفيد أن هذا الحديث نص علي امامة الامام «لأن رسول الله صلي الله عليه و آله حكم له بالفضل علي الجماعة و النصرة و الوزارة و الخلافة في حياته و بعد وفاته و الامامة له بدلالة أن هذه المنازل كلها كانت لهارون من موسي في حياته. و ايجاب جميعها لاميرالمؤمنين الا ما أخرجه الاستثناء منها ظاهرا و أوجبه بلفظة بعد له من بعد وفاته بتقدير ما كان يجب لهارون من موسي لو بقي بعد أخيه فلم يستئنه النبي (ص) فبقي لاميرالمؤمنين بعموم ما حكم له من المنازل..» [6] .

ثانيا - ان من أوثق الأدلة و اكثرها وضوحا، و استيعابا للموقف الذي تذهب اليه الشيعة حديث غدير خم، فقد نصب النبي (ص) في ذلك اليوم الخالد الامام أميرالمؤمنين (ع) علما من بعده و طلب من المسلمين ان يبايعوه بالامرة، و قد أخذ (ص) بيده عليا و هو يخاطب الناس قائلا: «هذا خليفتي فيكم من بعدي فاسمعوا له و أطيعوا» [7] .

و حديث الغدير من الأدلة الحاسمة التي لا تقبل الجدل و النقاش، و هو جزء من رسالة الاسلام - فمن انكره فقد انكر الاسلام - كما يقول العلائلي -.

ثالثا - ان هناك كوكبة من الاخبار تدل علي ما تذهب اليه الشيعة



[ صفحه 174]



كقوله (ص): أمام المسلمين، و قد أخذ بيد علي (ع) «ان هذا أخي و وصي و خليفتي فيكم فاسمعوا له و اطيعوا» [8] و هناك العشرات من امثال هذا الحديث، و هي تدل بوضوح علي أنه (ص) قد فرغ من تعيين الامام (ع) و جعله خليفة علي المسلمين من بعده.

رابعا - ان الاحداث الخطيرة التي رافقت وفاة الرسول الاعظم (ص) تدل علي انه كان يسعي في آخر لحظة من حياته لتعزيز خلافة الامام و دعمها بجميع الوسائل، و يتضح ذلك مما يلي:

1 - تجهيزه (ص) لجيش أسامة - و هو في الساعة الأخيرة من حياته - و الزامه للمسلمين و فيهم كبار الصحابة بالالتحاق الفوري و السريع بالجيش، و أمره (ص) بمغادرتهم يثرب بأسرع وقت، و من الظاهر ان غرضه من ذلك اخلاء عاصمته من الحزب الطامع بالخلافة، ولكن القوم تثاقلوا، و لم يخضعوا للأوامر المشددة، و راحوا يلتمسون لهم المعاذير.

2 - استدعاء النبي (ص) بالدواة و الكتف ليكتب للامة كتابا لن تضل من بعده في جميع مراحل اجيالها الصاعدة، و علم الطامعون بالحكم قصده من تعزيزه لخلافة الامام، فأثاروا نزاعا حادا، و اتهموا النبي (ص) بالهجر فأفسدوا عليه الامر، و حالوا بينه و بين قصده، فزجرهم (ص) و أمرهم بمغادرة بيته، و التفت الي الحاضرين، فأوصاهم بأهل بيته خيرا، و من البديهي انه (ص) أراد بهذه العملية تدعيم بيعة الغدير، و توثيقها، و لكن القوم قد حجبوه عن ذلك.

خامسا - احتجاج العترة الطاهرة علي ابي بكر، و امتناعها عن بيعته و خصوصا الموقف الايجابي الذي وقفته سيدة النساء فاطمة (ع) من ابي بكر و احتجاجها الرائع عليه، و وصيتها بأن يدفنها الامام في غلس الليل البهيم



[ صفحه 175]



و لا يعلم أي أحد من أعضاء حكومة أبي بكر، كل ذلك يدل بوضوح لا خفاء فيه علي قيام النبي (ص) بنصب الامام خليفة من بعده.

ان الاحتجاجات الصارخة التي صدرت من سيدة النساء (ع) و العترة الطاهرة و من اعلام الاسلام و قادة نضاله كعمار بن ياسر و ابي ذر و سلمان الفارسي و المقداد من أوثق الأدلة علي ما ذكرناه.. و فيما أحسب ان خصوص احتجاج بضعة النبي (ص) و ريحانته، و موقفها المتسم بالشدة و العنف مع أبي بكر قد ركز الفكرة الشيعية، و أمدها بالاصالة و البقاء، فقد اتخذت الشيعة من ذلك أدلة وثيقة علي ما يذهبون اليه من أحقية أهل البيت (ع) بالخلافة.

الي هنا ينتهي بنا الحديث عن تأسيس الشيعة، و انها حسب هذا العرض الموجز من الأدلة قد نشأت في عهد صاحب الرسالة (ص) فهو اول من غرس بذرتها، و نمي أصولها.


پاورقي

[1] أصل الشيعة و أصولها - طبع بيروت - ص 87 - 88.

[2] روضات الجنات ص 88، نقلا عن كتاب الزينة.

[3] تاريخ الشيعة: ص 9.

[4] اثبات الوصية: ص 3 - 4.

[5] مسند الامام احمد بن حنبل 1 / 179، حلية الاولياء 7 / 195، تأريخ بغداد 1 / 324، خصائص النسائي ص 14، أسد الغابة 4 / 46، صحيح الترمذي 2 / 301، تأريخ الطبري 2 / 368، كنز العمال 3 / 154، مجمع الزوائد 9 / 109.

[6] النكت الاعتقادية: ص 51.

[7] تلخيص الشافي 2 / 70 - 56.

[8] تأريخ الطبري 2 / 63، الكامل 2 / 22.