بازگشت

موقفه من القياس


جاء في الحديث عن الامام موسي الكاظم (ع) ما رواه المفيد بسنده عن الحسن بن فضال عن أبي الفراء عن سماعة عن العبد الصالح: سألته فقلت: ان أناسا من أصحابنا قد لقوا أباك وجدك و سمعوا منهما الحديث فربما كان شي ء يبتلي به بعض أصحابنا و ليس في ذلك عندهم شي ء يفتيه، و عندهم ما يشبهه، يسعهم أن يأخذوا بالقياس؟ فقال: لا، انما هلك من كان قبلكم بالقياس، فقلت له: لم لا يقبل ذلك؟ فقال: لأنه ليس من شي ء الا جاء في الكتاب و السنة [1] .

ان هذا الحديث يوحي بأن رفض القياس كان بسبب عدم الحاجة اليه لشمولية الكتاب و السنة لكل ما يحتاجه الناس من الأحكام الشرعية في شؤون الحياة العامة و الخاصة بحيث يمكنهم أن يجدوا فيها المعالجة الخاصة للقضايا الجزئية، و المعالجة العامة للقواعد الكلية المنفتحة علي أكثر من موقع... فيكون الرجوع الي القياس رجوعا الي ما لا ضرورة له، بالاضافة الي أنه لا يملك أساسا للحجية لشأنه يعتمد علي الظن الذي لا يغني من الحق شيأ، لا سيما أن علل التشريع قد لا تكون واضحة وضوحا كليا بالمستوي الذي يستطيع الانسان أن يدرك معه أساس التشريع في هذا المورد بشكل قطعي ليستنتج من ذلك حكم المورد الآخر الذي يشابهه، فقد يدرك الانسان جانبا من المدرك و يغفل عن الكلية التي تزن الأمور بميزان دقيق، حيث يختلف الناس في الموضوع حسب الانطباعات الذاتية في فهمهم لأسرار الحكم و الموضوع معا.

و في ضوء هذا الحديث لا بد للمجتهد من التتبع في كل موارد الكتاب و السنة للتدقيق فيها لاستخراج الأحكام الشرعية من خلال القواعد العامة التي تشير الي الحكم الشرعي سلبا أو ايجابا، بحيث يكون الكتاب و السنة هما المصدران للتشريع دون غيرهما، حتي أن الذين يذكرون العقل و الاجماع



[ صفحه 41]



كمصدرين للحكم الشرعي، يؤكدون حجيتهما من حيث أنهما كاشفان عن الحكم الشرعي فيما يكتشفه العقل القطعي من ملاكات الأحكام أو فيما يستلزمه الاجماع من قول المعصوم أو فعله أو تقريره. و قد تحدث الامام الكاظم حول هذا الموضوع بطريقة أكثر صراحة و ذلك في حوار مع بعض أصحابه و ذلك فيما رواه الكلبي عن علي بن ابراهيم عن محمد بن عيسي بن عبيد بن عبدالرحمن عن سماعة بن مهران عن أبي الحسن موسي عليه السلام قال: قلت: أصلحك الله انا نجتمع فنتذاكر ما عندنا فلا يرد علينا شي ء الا و عندنا فيه شي ء مسطر و ذلك مما أنعم الله به علينا بكم ثم يرد علينا الشي ء الصغير ليس عندنا فيه شي ء فينظر بعضنا الي بعض و عندنا ما يشبهه فنقيس علي أحسنه؟ فقال: و ما لكم و للقياس انما هلك من هلك من قبلكم بالقياس [2] .

ثم قال: اذا جاءكم ما تعلمون فقولوا و ان جاءكم ما لا تعلمون فها، و هوي بيده الي فيه، ثم قال: لعن الله أبا فلان كان يقول: قال علي و قلت أنا و قالت الصحابة و قلت، ثم قال: أكنت تجلس اليه؟ فقلت: لا ولكن هذا كلامه، فقلت: أصلحك الله أتي رسول الله الناس بما يكتفون به في عهده؟ قال: نعم و ما يحتاجون اليه الي يوم القيامة، فقلت: ضاع من ذلك شي ء؟ قال: لا هو عند أهله [3] .

فنحن نلاحظ أن المسألة هي عدم وجود فراغ في الشريعة يدعو الي اللجوء للقياس... و اذا كان الناس لا يجدون لديهم مصدر ذلك فان الأساس في هذا الشعور بالفراغ هو ابتعادهم عن سؤال أئمة أهل البيت الذين يملكون علم ذلك كله، و معارضتهم لهم فيما يقولون و فيما يروون عن النبي (ص)..

و قد قال في حديث آخر يوضح فيه المسألة فيما رواه عثمان بن عيسي قال: سألت أباالحسن موسي عن القياس قال: ما لكم و القياس ان الله لا يسأل كيف أحل و كيف حرم [4] و في هذا دلالة علي عنصر التعبد في فهم الحكم



[ صفحه 42]



الشرعي و عدم النفاذ الي عمق العلل الواقعية من خلال الظنون السطحية.

و قد عالج الامام الكاظم (ع) هذه المسألة في حوار جري بينه و بين أبي يوسف صاحب أبي حنيفة في مسألة تظليل المحرم الذي يلتزم أئمة أهل البيت (ع) بحرمته علي المحرم في حال السير، و يجوزونه له في حال النزول، بينما يلتزم أهل السنة بجواز ذلك له مطلقا و قد روي ذلك الكليني في الكافي عن عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد عن جعفر بن المثني الخطيب عن محمد بن الفضيل و بشر بن اسماعيل قال: قال لي محمد (بن اسماعيل) ألا أسرك يابن مثني؟ قال: قلت: بلي وقمت اليه، قال: دخل هذا الفاسق آنفا فجلس قبالة أبي الحسن عليه السلام ثم أقبل عليه فقال له: يا أباالحسن ما تقول في المحرم أيستظل علي المحمل؟ فقال له: لا، قال: فيستظل في الخبأ؟ فقال له: نعم، فأعاد عليه القول شبه المستهزي ء يضحك فقال: يا أباالحسن فما فرق بين هذا و هذا.

فقال: يا أبايوسف ان الدين ليس بقياس كقياسكم أنتم تلعبون بالدين، انا صنعنا كما صنع رسول الله (ص) و قلنا كما قال رسول الله (ص): كان رسول الله يركب راحلته فلا يستظل عليها و تؤذيه الشمس فيستر جسده بعضه ببعض و ربما ستر وجهه بيده و اذا نزل استظل بالخبأ و فيي ء البيت و فيي ء الجدار [5] .

فنحن نلاحظ أن أبايوسف نظر الي المسألة من خلال أن طبيعة الظل واحدة فاذا كان الاحرام يفرض جواز التظليل للمحرم عند النزول، فلا بد أن يكون الحكم كذلك حال السير، لوحدة الأساس في الحكم الشرعي بين الموردين.

ولكن الامام الكاظم (ع) أرشده الي دراسة المسألة من خلال المصدر الأساس للحكم الشرعي من فعل رسول الله (ص) الذي التزم بعدم التظليل في حال السير بالطريقة التي توحي بحرمته علي المحرم، فلم يلجأ الي



[ صفحه 43]



الاستظلال بالمحمل أو بما يشبهه من الأغطية مع حاجته الي ذلك لأن الشمس تؤذيه، بل كان يستر جسده بعضه ببعض و ربما ستر وجهه بيده، بينما كان يتفيأ بالخبأ و فيي ء البيت و الجدار عند النزول مما يوحي بحلية ذلك، و أن المسألة ليست مسألة خصوصية التظليل في ذاته، بل هي - الي جانب ذلك - خصوصية السير في اتجاه الغاية الي الله، فيما هو الحج و العمرة، فكان اجتهاد أبي يوسف في المسألة اجتهادا في مقابل النص في عمق المسألة، لأنه لم ينتبه الي امتناع النبي من التظليل في حال السير، بل نظر الي ممارسته له في حال النزول فابتعدت عنه جذورها.

و قد ورد في بعض الروايات أن الامام موسي الكاظم سأل أبايوسف عندما سأله عن الفرق بين التظليل للحرم في الركوب و في النزول، فقال له: ما تقول في الطامث أتقضي الصلاة قال: لا، قال: فتقضي الصوم؟ قال: نعم، قال: و لم؟ قال: هكذا جاء فقال أبوالحسن: و هكذا جاء هذا.

و هذا هو الذي أراد أهل البيت أن يؤكدوه، و هو أن دين الله لا يصاب بالعقول، لأن العقول قد تدرك بعض الأمور ولكنها قد تغفل عن ادراك البعض الآخر مما يوحي بأن الحكم الشرعي لم يستكمل ملاكه بشكل دقيق و هذا ما نلاحظه في اختلاف الحكم في بعض الموارد المتشابهة في أكثر من وجه كما في الصلاة و الصوم اللذين تجمعهما الناحية العبادية، ولكن حكمهما في القضاء مختلف، و هكذا أمر الله في كتابه بالطلاق و أكد فيه شاهدين و لم يرض بهما الا عدلين، و أمر في كتابه بالتزويج و أهمله بلا شهود. و ربما نستفيد من الحديث الأول الذي يؤكد عدم الحاجة الي القياس لوفاء الكتاب و السنة بجميع الأحكام، ان الأمر لو لم يكن كذلك بحيث كانت هناك حاجة ملحة الي معرفة الحكم الشرعي لبعض الأمور و لم يكن لدينا طريق الي معرفته من الكتاب أو السنة، فان من الممكن أن نلجأ الي القياس أو نحوه من الطرق الظنية في حال الانسداد انطلاقا من أن الاعتماد علي الطرق الظنية العقلائية أو الشرعية كان مرتكزا علي الحاجة اليها لادارة شؤون الحياة العامة للناس بحيث لولاها لاختل نظام حياتهم لأن العلم - وحده - لا يكفي في



[ صفحه 44]



ذلك، ولكننا قد لا نحتاج الي ذلك لأن في القواعد العامة كفاية و لأن في توسعة الاستظهار بالغاء الخصوصية التي تجمد الحكم في مورد خاص من جهة الفهم العرفي الذي لا يجد للخصوصية أساسا في الحكم و نحو ذلك.

انها ملاحظات سريعة نثيرها أمام هذا الحديث، فيما نريد اثارته من ملاحظات لابد للبحث الأصولي من أن يتوفر علي تدقيقها بشكل أكثر دقة و تركيزا و الله العالم.


پاورقي

[1] الاختصاص: ص 381 (نقلا عن مسند الامام الكاظم ج 2 ص 7).

[2] الكافي ج 1 ص 57.

[3] الكافي: ج 1 / 57.

[4] الكافي: ج 1 / 57.

[5] الكافي ج 4 / 351.