بازگشت

الامام يثقف أصحابه بالرفض للسلطة المنحرفة


و كان يقوم بتثقيف أصحابه بالرفض الفكري للسلطة المنحرفة انطلاقا من عدم شرعيتها ولكنه في الوقت نفسه يعمل علي أن يعالج الموضوع بالحكمة و المرونة العملية، فنراه في بعض الحالات يرفض لبعض أصحابه العمل من حيث المبدأ و يوحي له بالترك المطلق بينما يؤكد علي بعضهم البقاء فيه و يشترط عليهم الالتزام برعاية اخوانه و تفضيلهم علي أساس استحقاقهم لذلك من خلال ظلم الأخرين لهم و اهمالهم لحقوقهم لانتسابهم الي أهل البيت (ع).

فمن الطريق الأول صفوان الجمال و ذلك فيما رواه الكشي في رجاله عن حمدويه قال: حدثني محمد بن اسماعيل الرازي قال: حدثني الحسن بن علي بن فضال: حدثني صفوان بن مهران الجمال قال: دخلت علي أبي الحسن الأول (ع) فقال: يا صفوان كل شي ء منك حسن جميل ما خلا شيئا واحدا، قلت: جعلت فداك أي شي ء؟ قال: أكراؤك جمالك من هذا الرجل - يعني هارون - قلت: والله ما أكريته اشرا و لا بطرا و لا للهو ولكني أكريته لهذا الطريق - يعني طريق مكة - و لا أتولاه ولكن ابعث معه غلماني فقال لي: يا صفوان أيقع كراك عليهم قلت: نعم جعلت فداك فقال لي: أتحب بقاءهم حتي يخرج كراك قلت: نعم، قال: فمن أحب بقاءهم فهو منهم و من كان منهم ورد النار، فقال صفوان: فذهبت وبعت جمالي عن آخرها فبلغ ذلك الي هارون فدعاني و قال: يا صفوان بلغني أنك بعث



[ صفحه 85]



جمالك قلت: نعم قال: لم قلت: أنا شيخ كبير و أن الغلمان لا يفون بالأعمال، فقال: هيهات هيهات أني لأعلم من أشار عليك بهذا، أشارك موسي بن جعفر فقلت: ما لي و لموسي بن جعفر فقال: دع عنك هذا فوالله لولا حسن صحبتك لقتلتك. [1] .

اننا نلاحظ في هذه الرواية أن الامام كان حاسما مع صفوان في ترك عمله من خلال الايحاء بأن القضية ليست قضية العمل في ذاته في شرعيته الذاتية ليدور الحديث حول خصوصيته و أنه ليس للصيد أو للهو و نحو ذلك مما كان يتعارف سفرة الخلفاء له، بل هو لحج بيت الله الحرام، بل القضية قضية الحالة النفسية التي قد يعيشها في الرغبة في بقائهم حتي تخرج اليه أجرته، مما قد يعني بعض التعاطف مع أوضاعهم العامة بشكل غير مباشر، فيما تشتمل عليه من الظلم و العدوان و ارتكاب المحرمات... و ربما يمتد الأمر الي أبعد من ذلك في الاقتراب النفسي بفعل المصالح المتبادلة التي تدفع الانسان الي الانفتاح علي الظلمة الذين يتعامل معهم في معاملاته الحالية، هذا مع ملاحظة أن ذلك قد ينعكس سلبا علي واقع المؤمنين الذين قد يرون صفوان قدوة لهم في ذلك فيقودهم ذلك الي التعامل معهم بشكل منفتح من دون أي تحفظ فيؤثر ذلك علي الموقف كله.

و اذا عرفنا أن عمل صفوان لا يتصل بالقضايا العامة الكبيرة للمسلمين و للشيعة بالخصوص، فلا يكون هناك من ضرر من خروجه و من عمله لهم، بينما يتأكد الموقف الحركي في الأجواء العامة للحركة الامامية في اختزان الرفض النفسي للواقع كله لهؤلاء. و ربما لا يمثل هذا الوقف قاعدة عامة لأمثال هذه الحالة بل لا بد من دراسة الظروف الموضوعية المحيطة بكل حالة للتعرف علي النتائج السلبية أو الايجابية المتصلة بها لتحديد الحكم الشرعي علي أساس ذلك، لا سيما اذا عرفنا أن المسألة هي التعاطف مع هؤلاء و أمثالهم بالرغبة في بقائهم، مما قد يكون بعض الناس في عصمة ذاتية، و مناعة روحية ضد ذلك.



[ صفحه 86]



و من الفريق الثاني علي بن يقطين، فقد ورد في رجال الكشي عن محمد بن اسماعيل عن اسماعيل بن مراد عن بعض أصحابنا أنه لما قدم أبوابراهيم موسي بن جعفر (ع) العراق قال علي بن يقطين: أما تري حالي و ما أنا فيه فقال: يا علي ان لله تعالي أولياء مع أولياء الظلمة ليدفع بهم عن أوليائه و أنت منهم يا علي [2] .

و قد جاء في قرب الاسناد عن محمد بن عيسي عن علي بن يقطين او عن زيد عن علي بن يقطين أنه كتب الي أبي الحسن موسي عليه السلام أن قلبي يضيق مما أنه عليه من عمل السلطان و كان وزيرا لهارون - فان آذنت لي جعلني الله فداك هربت منه فرجع الجواب لا آذن لك بالخروج من عملهم واتق الله [3] .

و قد جاء في الكافي عن محمد بن يحيي عمن ذكره عن علي بن أسباط عن ابراهيم بن أبي محمود عن علي بن يقطين قال: قلت لأبي الحسن (ع) ما تقول في أعمال هؤلاء قال: ان كنت فاعلا فاتق أموال الشيعة قال: فاخبرني علي أنه كان يجيبها من الشيعة علانية و يرددها عليهم في السر [4] .

فقد نلاحظ أن هذا الرجل كان يمثل مركز قوة في مركز الخلافة و كان الامام الكاظم (ع) يري فيه ضمانة كبيرة لدفع الظلم عن أولياء الله و عن حماية أموالهم و أنفسهم.. مما يجعل وجوده ضروريا علي مستوي حماية الحركة الاسلامية الامامية في أتباعها و مواقعها لذلك لم يرض له الامام بالاستقالة بل فرض عليه البقاء بالشروط الشرعية التي تتمثل في السير في هذا الخط.

و قد نقلت كتب سيرة الامام الكاظم (ع) أنه كان يتعهد عليا بالرعاية له في عمله حتي لا يقع في مكيدة الذين يدبرون له المكائد للايقاع به عند



[ صفحه 87]



الرشيد، و نستوحي من ذلك ضرورة التوفر علي اختيار بعض الشخصيات الموثوقة التي تملك الكفاءة و الأمانة الدينية للدخول في مراكز النفوذ الرسمي في الدول الظالمة أو المنحرفة... من أجل المصالح الاسلامية العليا علي مستوي حماية الاسلام أو المسلمين أو التيارات الاسلامية الفاعلة لأن وجودها في هذه المواقع يحفظ الكثير من الأوضاع و المواقف و يحقق الكثير من الايجابيات علي أكثر من صعيد.

و من الفريق الثالث زياد بن أبي سلمة، فقد جاء في الكافي فيما رواه الحسين بن الحسن الهاشمي عن صالح بن أبي حماد عن محمد بن خالد عن زياد بن أبي سلمة قال: دخلت علي أبي الحسن موسي (ع) فقال لي: يا زياد انك لتعمل عمل السلطان قال: قلت أجل. قال لي: و لم. قلت: أنا رجل لي مروة و علي عمل و ليس وراء ظهري شي ء فقال لي: يا زياد لأن أسقط من حالق [5] فاتقطع قطعة أحب الي من أن أتولي لأحد منهم عملا أو اطأ بساط رجل منهم الا لماذا؟ قلت: لا أدري جعلت فداك، قال: الا لتفريج كربة مؤمن أو لك أسره أو قضاء دينه يا زياد، أن أهون ما يصنع الله بمن تولي لهم عملا أن يضرب عليه سرادق من نار الي أن يفرغ الله من حساب الخلائق يا زياد. فأن وليت شيئا من أعمالهم فأحسن الي اخوانك فواحدة بواحدة والله من وراء ذلك يا زياد و أيما رجل منكم تولي لأحد منهم عملا ثم ساوي بينكم و بينهم فقولوا له أنت منتحل كذاب يا زياد اذا ذكرت قدرتك علي الناس فاذكر مقدرة الله عليك غدا و نفاد ما أتيت اليهم عنهم و بقاء ما أتيت اليهم عليك [6] .

و نلاحظ في هذه الرواية أن عمل السلطان الجائر - في كلام الامام - يمثل خطيئة كبيرة تتعدي خطورة الهلاك الجسدي في نتائجها السلبية علي الانسان في مسؤوليته أمام الله لأنها تمثل لونا من ألوان الدعم العملي



[ صفحه 88]



للسلطان الجائر في التفاف الناس حوله و تقوية سلطته و تنظيم أموره في حكمة و تثبيت قواعد ملكه، الأمر الذي يسي ء الي سلامة الخط المستقيم في الشريعة، و الي اهتزاز العدل في الحكم في حياة الناس.

ولكن هذا الموقف السلبي من الحكم الجائر لا يبقي في دائرته السلبية اذا كانت هناك قضايا مهمة تتصل بحل مشاكل المؤمنين من خلالهم، فيما لا يمكن فيها الحل الا من هذا الطريق، و ذلك في النطاق المرحلي المحدود الذي لا يحمل أية امكانية لعملية التغيير كما هو الحال في المرحلة التي كان الامام يعيش فيها أو في المراحل المماثلة لها.. فان من الواضح أن السلبية المطلقة قد تعطل الكثير من مصالح المؤمنين المستضعفين و تتحول الي مشكلة معتقدة كبيرة لا سيما اذا كانت الظروف الموضوعية لا تسمح بسقوط هذا الحكم علي مستوي المراحل المنظورة، و في الوقت الذي يسيطر فيه علي مقدرات الواقع الحياتي كله، مما يستوجب الرج الشديد عليهم و هو منفي في الشريعة في قوله تعالي: «ما جعل عليكم في الدين من حرج».

هذا هو الذي يجعلنا نستوحي سعة مجال الرخصة للعمل مع السلطة الجائرة. و ايجاد العلاقات معهم من أجل القضايا العامة المتصلة بحياة المؤمنين المستضعفين، أو القضايا الخاصة المرتبطة ببعضهم التي ترقي الي مستوي الأهمية في حياتهم.

و لعل من الطبيعي أن لا تتحول العلاقة الي حالة استسلام للحكم و اقرار له بحيث تحقق له الشرعية العامة في نظر المسلمين، لا سيما اذا كانت العلاقة من قبل الأشخاص الذين ترتبط الشرعية الفقهية بأقوالهم و أفعالهم فلا بد لهم في الحالات الطارئة أو في الخطوط العامة من تثقيف الأمة بالواقع غير الشرعي للسلطة و بالدوائر الشرعية التي تتحرك فيها الرخصة فيما تحمله من العناوين الثانوية أو فيما تختزنه من المصالح العامة التي ترقي الي درجة الأهمية المزاحمة للمفاسد الأقل أهمية حيث تجمد الحكم الشرعي بالمنع الي وقت ما..

و قد نحتاج الي تسجيل ملاحظة مهمة في الجو العام لمثل هذه القضية



[ صفحه 89]



و هي ضرورة اعتماد الدقة و الحذر في عملية توعية الأمة بالجانب السلبي المتمثل في علاقة الناس بالحكم الجائر، سواء كان ذلك في لقاءات علماء الدين بهم، أو علاقاتهم بهم أو في لقاءات الفعاليات الاجتماعية و الثقافية و الاقتصادية الأخري أو في اقامة العلاقات بينهم و بين بعض التيارات الاسلامية السياسية، فقد ينطلق الكثيرون في الوقوف ضد ذلك بشكل قوي ضاغط من خلال المفاهيم العامة الرافضة للظلم و رموزه، أو المضادة للكفر و مواقعه، لترمي الذين يقيمون تلك العلاقات بالانحراف و الخيانة من دون التفات الي الظروف الموضوعية المحيطة بالموقف، أو الي المصالح الاسلامية في مواقعها الضيفة لأنها تخشي من الاتهامات الحادة التي قد توجه اليها اذا تحركت في خط الانفتاح السياسي علي الأخري كما قد يؤدي الي العزلة و الشلل في النشاط القيادي علي مستوي القضايا العامة المرتبطة بأكثر من محور دولي أو اقليمي من القوي التي تختلف عن الاسلام في خطوطه و مفاهيمه العامة. ولكنها تلتقي ببعض مواقعه و تتحرك في الخط المرحلي نحو أهدافه أو ترتبط ببعض القضايا الحيوية في حاجاته و مصالحه. و تلك هي خطورة اعطاء العناوين العامة للمفاهيم الاسلامية من دون تحديد الخطوط التفصيلية الفاصلة بين الرخصة و المنع.. حيث يتحول ذلك الي ذهنية عامة قد يقفز فيها النقد الي بعض المواقع التي لا يجوز للنقد أن يقترب منها باعتبار أنها تمثل مصدر الشرعية للخط و للموقع.. فاذا كنا نثقف الأمة علي أن الاقتراب من مواقع السلطة الجائرة أو ايجاد بعض العلاقات معها يمثل انحرافا عن خط الاستقامة في رفض الخط الجائر في الحكم، بعيدا عن ملاحظة كل الظروف الموضوعية المحيطة بالموقف فكيف يمكن أن نفسر سلوك الأئمة في ذلك مما يوجب وقوع الذهنية العامة في حيرة، و هل يكفي في ذلك الحديث عن التقية كعنصر وحيد للرخصة، في الوقت الذي قد لا نجد فيه للتقية موضعا في بعض المواقف.

اننا ندعو الي تقديم الاستثناءات الي جانب القاعدة و الخطوط الصغيرة



[ صفحه 90]



في دائرة الخطوط الكبيرة حتي تتحرك ثقافة الأمة في مسألة القيم الروحية و الأخلاقية و السياسية في الخط الاسلامي الواقعي الذي لا ينطلق من فرضية اعتبار القيمة الاسلامية حركة مثالية في المطلق، بل ينطلق من اعتبارها حركة واقعية في واقع المصلحة الانسانية العليا في حدودها الطبيعية المتوازنة..

انطلاقا من حركة المفهوم من النص، و في السيرة الشريفة للنبي (ص) و للأئمة من أهل البيت (ع).


پاورقي

[1] رجال الكشي ص 374 - 373.

[2] رجال الكشي ص 367.

[3] قرب الاسناد ص 170.

[4] الكافي ج 5 ص 110.

[5] الحالق.. المكان المشرف العالي.

[6] الكافي ج 5 ص 109.