بازگشت

علم الحساب


حج الرشيد و ابتدأ بالطواف، و منعت العامة من ذلك لينفرد وحده، فبينما هو في ذلك اذ ابتدر أعرابي البيت، و جعل يطوف معه.

فقال الحاجب: تنح يا هذا عن وجه الخليفة، فانتهرهم الأعرابي و قال: ان الله ساوي بين الناس في هذا الموضع فقال «سواء العاكف فيه و الباد».

فأمر الحاجب بالكف عنه، فكلما طاف الرشيد طاف الأعرابي أمامه، فنهض الي الحجر الأسود ليقبله فسبقه الأعرابي اليه و التثمه، ثم صار الرشيد الي المقام ليصلي فيه فصلي الأعرابي أمامه.

فلما فرغ هارون من صلاته استدعي الأعرابي فقال الحجاب: أجب أميرالمؤمنين فقال: ما لي اليه حاجة فأقوم اليه، بل ان كانت الحاجة له فهو بالقيام الي أولي. قال: صدق فمشي اليه و سلم عليه فرد عليه السلام. فقال هارون اجلس يا أعرابي؟ فقال: ما الموضع لي فتستأذنني فيه بالجلوس، انما هو بيت الله نصبه لعباده، فان أحببت أن تجلس فاجلس، و ان أحببت أن تنصرف فانصرف.

فجلس هارون و قال: ويحك يا أعرابي مثلك من يزاحم الملوك؟ قال: نعم وفي مستمع، قال: فاني سائلك فان عجزت آذيتك قال: سؤالك هذا سؤال متعلم أو سؤال متعنت؟ قال: بل سؤال متعلم قال: اجلس مكان السائل من المسؤول و سل و أنت مسؤول.

فقال هارون: أخبرني ما فرضك؟ قال ان الفرض رحمك الله واحد و خمسة، و سبعة عشر، و أربع و ثلاثون، و أربع و تسعون، و مائة و ثلاثة



[ صفحه 50]



و خمسون، علي سبعة عشر، و من اثني عشر واحد، و من أربعين واحد، و من مائتين خمس، و من الدهر كله واحد، و واحد بواحد.

قال: فضحك الرشيد و قال: ويحك أسألك عن فرضك، و أنت تعد علي الحساب، قال: أما علمت أن الدين كله حساب، و لو لم يكن الدين حسابا لما اتخذ الله للخلائق حسابا، ثم قرأ (و ان كان مثقال حبة من خردل أتينا بها و كفي بنا حاسبين). قال: فبين لي ما قلت؟ و الا أمرت بقتلك بين الصفا و المروة.

فقال الحاجب: تهبه لله و لهذا المقام قال: فضحك الأعرابي من قوله، فقال الرشيد: مما ضحكت يا أعرابي؟ قال: تعجبا منكما، اذ لا أدري من الأجهل منكما، الذي يستوهب أجلا قد حضر، أو الذي استعجل أجلا لم يحضر.

فقال الرشيد: فسر ما قلت؟ قال: أما قولي الفرض واحد: فدين الاسلام كله واحد، و عليه خمس صلوات، و هي سبع عشر ركعة، و أربع و ثلاثون سجدة، و أربع و تسعون تكبيرة، و مائة و ثلاث و خمسون تسبيحة، و أما قولي من اثني عشر واحد: فصيام شهر رمضان من اثني عشر شهرا، و أما قولي من الأربعين واحد فمن ملك أربعين دينارا أوجب الله عليه دينارا، و أما قولي: من مائتين خمسة، فمن ملك مائتي درهم أوجب الله عليه خمسة دراهم.

و أما قولي فمن الدهر كله واحد فحجة الاسلام، و أما قولي واحد من واحد، فمن أهرق دما من غير حق وجب اهراق دمه قال الله تعالي: (النفس بالنفس). فقال الرشيد: لله درك و أعطاه بدرة فقال: فبم استوجبت منك هذه البدرة يا هارون؟ بالكلام أو بالمسألة؟ قال: بالكلام. قال: فاني سائلك عن مسألة فان أتيت بها كانت البدرة لك تصدق بها في هذا الموضع الشريف، و ان لم تجبني أضفت الي البدرة بدرة أخري لأتصدق بها علي فقراء الحي من قومي، فأمر بايراد أخري و قال سل عما بدا لك.

فقال: أخبرني عن الخنفساء تزق أم ترضع ولدها؟ فحرد هارون و قال: ويحك يا أعرابي مثلي من يسأل عن هذه المسألة؟! فقال: سمعت ممن سمع من رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم يقول من ولي أقوما وهب له من العقل



[ صفحه 51]



كعقولهم، و أنت امام هذه الأمة يجب أن لا تسأل عن شي ء من أمر دينك، و من الفرايض، الا أجبت عنها فهل عندك له الجواب؟

قال هارون: رحمك الله لا فبين لي ما قلته، و خذ البدرتين، فقال: ان الله تعالي لما خلق الأرض، خلق دبابات الأرض التي من غير فرث و لا دم خلقها من التراب، و جعل رزقها و عيشها منه، فاذا فارق الجنين أمه لم تزقه و لم ترضعه و كان عيشها من التراب.

فقال هارون: «والله ما ابتلي أحد بمثل هذه المسألة، و أخذ الأعرابي البدرتين و خرج، فتبعه بعض الناس، و سأله عن اسمه فاذا هو موسي بن جعفر (ع) فأخبر هارون بذلك فقال: والله لقد كان ينبغي أن تكون هذه الورقة من تلك الشجرة» [1] .

لقد ذكرت هذه الرواية بطولها، لأنه قد يستشكل بها بأنه، كيف كان عظم حلم هارون عن الأعرابي، مع مجابهة الأعرابي له فعلا و قولا؟ و كيف لم يعرف هارون ابن عمه موسي بن جعفر؟ و هل يشترط في ولي أمر المسلمين أن يعرف علم البشر قاطبة حتي التي لا تتعلق بأحكام الدين؟

لكن بعد النظر الي تاريخ سنة الحج ينحل الاشكال، اذ أن هارون قد تولي الخلافة سنة 170 ه و حج في نفس تلك السنة و لم يحج بعدها الي سنة 174 ه [2] .

ففي السنة الأولي لخلافته أراد شد أواصر المحبة باستعمال الليونة و الحلم بين الرعية، خاصة بأن جعفر بن الهادي - ابن أخ هارون - كان منافسا لهارون علي الخلافة، بل انه بويع بالخلافة قبل هارون، ثم خلعها عن نفسه بالتهديد بالقتل [3] .

اضافة الي أن هارون نفذ صبره و حلمه فورا، اذ أنه هدد الأعرابي بالقتل بين الصفا و المروة، فهل هذا يتعقب هذا الجزاء؟!!

و قد قلنا بأن ذلك كان في السنة الأولي للخلافة، لأنه من المستحيل



[ صفحه 52]



أن يبقي هارون أكثر من أربع سنوات و لم يتعرف علي الامام الكاظم (ع) الذي كان المنافس الوحيد له في نظره، مع ذياع صيته.

ثم ان هارون قد طرد الطالبيين من بغداد الي المدينة المنورة - خلا العباس بن الحسن بن عبدالله بن علي بن أبي طالب [4] في سنة 171 أي بعد سنة واحدة من حكمه، فكيف بدأت العداوة بين العباسيين و الطالبيين و لم يتعرف علي الامام الكاظم (ع) الا بعد مدة طويلة؟

أما عدم معرفته له في السنة الأولي فهذا ممكن لأن الامام الكاظم (ع) كان يسكن في المدينة، و هارون في بغداد، مع احتمال أن يكن الأعرابي ملثما، اذا كان قد رآه و لكنه لم يعرفه من خلال صوته، لعدم العلاقة الشديدة بينهما في أوائل خلافة هارون.

ثم ان كان لا يشترط في ولي أمر المسلمين، الحيازة علي جميع علوم عصره، و لكن الامام (ع) شرط عليه السؤال بداية و قد رضخ و قبل هارون ذلك، فلزمه، و ان لم يكن حكما شرعيا يتعلق بأمور الدين.

اضافة الي قول الامام (ع) يجب أن لا تسأل عن شي ء من أمر دينك و من الفرايض الا أجبت فقد يتعلق بذلك حكم شرعي فما الجواب اذن!!


پاورقي

[1] مناقب ابن شهرآشوب ج 4 ص 312.

[2] الكامل في التاريخ ج 4 ص 23، الطبري ج 8 ص 234.

[3] نفس المصدر.

[4] ميزان الاعتداد ج 4 ص 201.