بازگشت

الامام في حبس الرشيد


و قضي الامام (ع) فترة طويلة في سجون الظلمة، و روي أنه بقي في سجن هارون سبع أو عشر سنوات و لم يخرج (ع) من سجنه الا مقتولا.

و كان (ع) قد تفرغ للعبادة في السجن، و لم يكن يفتح له الباب الا للطهور و الطعام، و قد ذكرنا شطرا من عبادته في بابه.

و قد اعترف هارون في قرارة نفسه بورع الامام، عندما أشرف علي السجن من علي السطح فوجد الامام ساجدا، فقال للربيع: يا ربيع ما ذاك الثوب الذي أراه كل يوم في ذلك الموضع؟! فقال: يا أميرالمؤمنين ما ذاك بثوب و انما هو موسي بن جعفر (ع) له كل يوم سجده بعد طلوع الشمس الي وقت الزوال. قال الربيع: فقال لي هارون: أما ان هذا من رهبان بني هاشم، قلت: فما لك قد ضيقت عليه في الحبس؟! قال: هيهات لابد من ذلك [1] و مع ذلك فقد كان الامام يجابه هارون و لا يسكت علي الضيم، فقد بعث اليه برسالة و هو في سجنه: انه لن ينقضي عني يوم من البلاء الا انقضي عنك معه يوم من الرخاء، حتي نقضي جميعا الي يوم ليس له انقضاء يخسر فيه المبطلون [2] .

و كانت هذه الرسالة ايعاذا و لذعا لهارون، بأن جورك لن يدوم، و أخالنا يوما نقف فيه بين يدي الجبار.



[ صفحه 103]



فالامام (ع) كان يتخذ مواقفا عدة من هارون فبين الليونة في كلامه آنا عندما يراه مغتاظا و قد قرر قتل الامام أو تعذيبه أو...، و من المجابهة و التحدي آنا أخري كي لا يتمادي في غيه و طغيانه.

و قد حاول الرشيد اذلال الامام للرضوخ تحت سلطنته و الاعتراف له بالأحقية، و لكن الامام (ع) أبي ذلك.

فقد قال هارون ليحيي بن خالد انطلق اليه (ع) و أطلق عنه الحديد و بلغه عني السلام و قل له: يقول لك ابن عمك انه قد سبق مني فيك يمين أني لا أخليك حتي تقر لي بالاساءة و تسألني العفو عما سلف منك، و ليس عليك في اقرارك عار و لا في مسألتك اياي منقصة، و هذا يحيي بن خالد هو ثقتي و وزيري و صاحب أمري، فسله بقدر ما أخرج من يميني، و انصرف راشدا [3] .

فالامام (ع) لم ينطق بشي ء من الاعتراف، بل بقي صامدا في موقفه، و لكنه أخبره بأنه بقي من أجله أسبوع.

حاول هارون الاستمالة الي الامام (ع) برغبته في اخراجه من السجن،و بعطفه عليه باكرامه بأنواع الأغذية، و لكنه لم يتحمل ذلك حقيقة فقال: «لكن البقاء في السجن أبقي لمودتك عندي».

فعن الفضل بن الربيع عن أبيه قال: بعثني هارون الي أبي الحسن (ع) برسالة و هو في حبس السندي بن شاهك فدخلت عليه و هو يصلي فهبته أن أجلس، فوقفت متكأ علي سيفي، فكان (ع) اذا صلي ركعتين و سلم واصل بركعتين أخراوين، فلما طال وقوفي، و خفت أن يسأل عني هارون و حانت منه تسليمة فشرعت في الكلام فأمسك، و قد كان قال لي هارون لا تقل بعثني أميرالمؤمنين اليك، و لكن قل بعثني أخوك و هو يقرؤك السلام و يقول لك: انه بلغني عنك أشياء أقلقتني، فأقدمتك الي، و فحصت عن ذلك فوجدتك نقي الجيب، بريئا من العيب، مكذوبا عليك، فيما رميت به، ففكرت بين اصرافك الي منزلك، و مقامك ببابي فوجدت مقامك ببابي،



[ صفحه 104]



أبرأ لصدري، و أكذب لقول المسرعين فيك، و لكل انسان غذاء قد اغتذاه، و ألفت عليه طبيعته، و لعلك اغتذيت بالمدينة أغذية لا تجد من يصنعها لك هاهنا، و قد أمرت الفضل أن يقيم لك من ذلك ما شئت، فمره بما أحببت و انبسط فيما تريده، قال: فجعل (ع) الجواب في كلمتين من غير أن يلتفت الي فقال: لا حاضر مال فينفعني و لم أخلق سؤولا، الله أكبر و دخل في الصلاة.

قال: فرجعت الي هارون فأخبرته فقال لي: فما تري في أمره؟ فقلت: يا سيدي لو خططت في الأرض خطة فدخل فيها، ثم قال لا أخرج منها ما خرج منها، قال: هو كما قلت و لكن مقامه عندي أحب الي [4] .

فقد ظن هارون أن الامام (ع) يميل الي الدعة و السعة و الرفاهية، و التلذذ بأصناف الأطعمة و الأشربة، كما هو عليه، و لكن الامام (ع) وعظ هارون بأن لا يكون مغرورا بماله كقارون، لأن للانسان هدفا أسمي و أنبل من أن يسأل لذة بطنه، مع تضييع الغاية التي خلق لها.

و حاول الربيع الانة قلب الرشيد بقوله ان الامام كان قد أعطاك وعدا بأن لا يخرج عليك و هو لا و لن ينقض العهد، فلما هذا التضييق و السجن اذن؟!!

فلم يكن عند هارون من حجة، الا قوله «مقامه عندي أحب الي»!!!. و لما طال مقام الامام (ع) في السجن بعث بتهديد الي - وزير هارون - يحيي بن خالد البرمكي ليخرج بنفسه عن طريق المعجزة.

فقد روي الشيخ الطوسي في غيبته عن داود بن زربي: قال بعث الي العبد الصالح (ع) و هو في الحبس فقال: ائت هذا الرجل يعني يحيي بن خالد، فقل له: يقول لك أبوفلان: ما حملك علي ما صنعت؟ أخرجتني من بلادي و فرقت بيني و بين عيالي؟ فأتيته فأخبرته فقال: زبيده طالق، و اغلظ عليه أغلظ الايمان، لوددت أنه غرم الساعة ألفي ألف، و أنت خرجت، فرجعت اليه فأبلغته فقال: ارجع اليه فقل له: يقول لك: والله



[ صفحه 105]



لتخرجنني أو لأخرجن [5] .

فالامام (ع) الذي أقر له جميع المسلمين بما فيهم الخاصة و العامة بكراماته و مناقبه، ألا يسهل عليه الخروج من السجن بطريق المعجزة؟!.

و لكن (ع) أراد أن تجري الأمور بأسبابها، و لتكن حجة عليهم و انذارا بعذاب شديد.

و لما حبس الامام، و أظهر الدلائل و المعجزات و هو في الحبس، تحير الرشيد، فدعا يحيي بن خالد البرمكي فقال له: يا أباعلي أما تري ما نحن فيه من هذه العجائب، ألا تدبر في أمر هذا الرجل تدبيرا تريحنا من غمه.

فقال له يحيي: الذي أراه لك يا أميرالمؤمنين أن تمتن عليه، و تصل رحمه، فقد والله أفسد علينا قلوب شيعتنا...، ثم قال هارون «ان لم يدع النبوة بعد أيام فما أحسن حالنا» [6] فيحيي أشار علي هارون بالمن علي الامام و اخراجه من السجن، ليس محبة و ولاء له، لأنه قد ورد في رواية صحيحه أنهم كانوا من المبغضين لآل البيت، بل يحيي هو الذي سعي في قتل الامام (ع) و في رواية أنه دس اليه السم في رطب.

و لكن أرادوا من سجن الامام (ع) تحجيم أمره و تخويف شيعته بالابتعاد عنه بقدر المستطاع، فوقعت الكارثة علي رؤوسهم و قصمت ظهورهم، اذ عكس الأمر، فأفسدت قلوب شيعة هارون و أزلامة، و كادوا أن ينقلبوا عليه، لما رأوا هذا الظلام الحالك عليه، و مع ذلك فلو أطلقت حريته لانضمت اليه الحشود الواعية و غيرها فبقوا في حيرة من أمرهم لا يدرون ما يفعلون، و هكذا دوما تبقي الغصة شوكة في حلق المنافقين، و حرجة في صدورهم، و قوله ان لم يدع النبوة فظاظة و قسوة عن الحق، و استهزاء به.



[ صفحه 106]




پاورقي

[1] عيون الأخبار ج 1 ص 95.

[2] بحار ج 48 ص 148، تذكرة الخواص ص 314، نورالأبصار ص 152، الفصول المهمة ص 241، الكامل في التاريخ ج 4 ص 59، الأنوار البهية 164، كشف الغمة ج 3 ص 44.

[3] الأنوار البهية ص 165.

[4] الأنوار البهية ص 165.

[5] البحار ج 48، ص 237.

[6] نفس المصدر ص 230.