بازگشت

احتجاجاته و مناظراته مع هارون


لما بعث هارون خلف الامام (ع) لجبايته، و كاد الشر يتطاير من عينيه لغيظه و شدته، دعا الامام (ع) بدعاء فسكن هارون، ثم قال له: أريد أن أسألك عن أشياء تتلجلج في صدري منذ حين، لم أسأل عنها أحدا، فان أنت أجبتني عنها خليت عنك، و لم أقبل قول أحد فيك، و قد بلغني أنك لم تكذب قط فاصدقني عما أسألك مما في قلبي. فقال (ع): ما كان علمه عندي فاني مخبرك به ان أنت آمنتني؟ قال: لك الأمان ان صدقتني و تركت التقية التي تعرفون بها معشر بني فاطمة، فقلت ليسأل أميرالمؤمنين عما شاء.

قال أخبرني لم فضلتم علينا و نحن و أنتم من شجرة واحدة، و بنو عبدالمطلب نحن و أنتم واحد، انا بنوالعباس و أنتم ولد أبي طالب، و هما عما رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و قرابتهما منه سواء؟

فقال (ع): نحن أقرب قال: و كيف ذلك؟ قلت لأن عبدالله و أباطالب لأب و أم، و أبوكم العباس ليس هو من أم عبدالله، و لا أم أبي طالب، قال: فلم أدعيتم أنكم ورثتم النبي صلي الله عليه و آله و سلم و العم يحجب ابن العم، و قبض رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و قد توفي أبوطالب قبله و العباس عمه حي؟ فقال له (ع): ان رأي أميرالمؤمنين أن يعفيني من هذه المسألة و يسألني عن كل باب سواه يريده؟ فقال: لا أو تجيب فقلت: فآمني؟ قال: قد آمنتك قبل الكلام.

فقال (ع): ان في قول علي بن أبي طالب (ع) أنه ليس مع ولد الصلب ذكرا كان أو أنثي لأحد سهم الا للأبوين و الزوج و الزوجة، و لم يثبت للعم مع ولد الصلب ميراث، و لم ينطق به الكتاب، الا أن تيما و عديا و بني أمية قالوا: العم والد رأيا منهم بلا حقيقة، و لا أثر عن النبي صلي الله عليه و آله و سلم.



[ صفحه 118]



و من قال بقول علي (ع) من العلماء قضاياهم خلاف قضايا هؤلاء، هذا نوح بن دراج يقول: في هذه المسألة بقول علي و قد حكم به، و قد ولاه أميرالمؤمنين المصرين الكوفة و البصرة، و قد قضي به، فأنهي الي أميرالمؤمنين فأمر باحضاره و احضار من يقول بخلاف قوله: منهم سفيان الثوري، و ابراهيم المدني، و الفضيل بن عياض، فشهدوا أنه قول علي في هذه المسألة، قال لهم: فيما أبلغني بعض العلماء من أهل الحجاز: فلم لا تفتون به و قد قضي به نوح بن دراج؟ فقالوا: جسر نوح و جبنا، و قد أمضي أميرالمؤمنين قضيته بقول قدماء العامة عن النبي صلي الله عليه و آله و سلم أنه قال: علي أقضاكم، و كذلك قال عمر بن الخطاب علي أقضانا، و هو اسم جامع لأن جميع ما مدح به النبي صلي الله عليه و آله و سلم أصحابه من القراءة و الفرائض و العلم داخل في القضاء.

قال: زدني يا موسي: قال (ع): المجلس بالأمانات و خاصة مجلسك؟ فقال: لا بأس عليك فقال (ع): ان النبي لم يورث من لم يهاجر فقال: ما حجتك فيه؟ قال (ع): قول الله تبارك و تعالي: و الذين آمنوا و لم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شي ء حتي يهاجروا». و ان عمي العباس لم يهاجر، فقال هارون: أسألك يا موسي هل أفتيت بذلك أحدا من علمائنا؟ أم أخبرت أحدا من الفقهاء في هذه المسألة بشي ء؟ فقلت: اللهم لا، و ما سألني عنها الا أميرالمؤمنين.

ثم قال: لم جوزتم للعامة أن ينسبوكم الي رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و يقولون لكم: يا بني رسول الله، و أنتم بنو علي، و انما ينسب المرء الي أبيه، و فاطمة انما هي وعاء، و النبي صلي الله عليه و آله و سلم جدكم من قبل أمكم؟ فقال (ع): يا أميرالمؤمنين لو أن النبي صلي الله عليه و آله و سلم نشر فخطب اليك كريمتك هل كنت تجيبه؟ فقال: سبحان الله و لم لا أجيبه؟! بل أفتخر علي العرب و العجم و قريش بذلك، فقال (ع): لكنه صلي الله عليه و آله و سلم لا يخطب الي و لا أزوجه فقال: و لم؟ فقال (ع): لأنه ولدني و لم يلدك. فقال: أحسنت يا موسي.

ثم قال: كيف قلتم انا ذرية النبي، و النبي صلي الله عليه و آله و سلم لم يعقب؟ و انما العقب للذكر لا لأنثي، و أنتم ولد الابنة و لا يكون لها عقب؟ فقال (ع): أسألك بحق القرابة و القبر و من فيه الا ما أعفيتني عن هذه المسألة فقال:



[ صفحه 119]



لا أو تخبرني بحجتكم فيه يا ولد علي، و أنت يا موسي يعسو بهم، و امام زمانهم، كذا أنهي الي، و لست أعفيك في كل ما أسألك عنه، حتي تأتيني فيه بحجة من كتاب الله، فأنتم تدعون معشر ولد علي، أنه لا يسقط عنكم منه شي ء ألف و لا واو، الا و تأويله عندكم، و احتججتم بقوله عزوجل (ما فرطنا في الكتاب من شي ء) و قد استغنيتم عن رأي العلماء و قياسهم، فقال (ع): تأذن لي في الجواب؟ قال: هات: فقال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم «و من ذريته داوود و سليمان و أيوب و يوسف و موسي و هارون و كذلك نجزي المحسنين و زكريا و يحيي و عيسي» من أبوعيسي يا أميرالمؤمنين؟ فقال: ليس لعيسي أب فقال (ع): انما ألحقناه بذراري الأنبياء (ع) من طريق مريم (ع) و كذلك ألحقنا بذراري النبي (ع) من قبل أمنا فاطمة (ع).

أزيدك يا أميرالمؤمنين؟ قال: هات، قال: قول الله عزوجل (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا و أبناءكم و نساءنا و نساءكم و أنفسنا و أنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله علي الكاذبين) و لم يدع أحد أنه أدخل النبي صلي الله عليه و آله و سلم تحت الكساء عند مباهلة النصاري الا علي بن أبي طالب، و فاطمة و الحسن و الحسين (ع) فكان تأويل قوله عزوجل أبناءنا الحسن و الحسين، و نساءنا فاطمة، و أنفسنا علي بن أبي طالب، ان العلماء قد أجمعوا علي أن جبرئيل قال يوم أحد: يا محمد ان هذه لهي المواساة من علي قال: لأنه مني و أنا منه، فقال جبرائيل: و أنا منكما يا رسول الله، ثم قال: لا سيف الا ذوالفقار و لا فتي الا علي، فكان كما مدح الله عزوجل به خليله (ع) اذ يقول: «فتي يذكرهم يقال له ابراهيم» انا معشر بني عمك نفتخر بقول جبرائيل انه منا.

فقال: أحسنت يا موسي! ارفع الينا حوائجك. فقال (ع): أول حاجة أن تأذن لابن عمك أن يرجع الي حرم جده «ص» و الي عياله، فقال: «ننظر ان شاء الله» [1] .



[ صفحه 120]



فبعد أن أجابه الامام (ع) و كان هارون قد وعده باخلاء سبيله اذا أجابه، و لكنه قال عند نهاية لقائه ننظر انشاء الله، بل روي أنه أنزله عند الشاهك بن السندي و سممه عنده [2] .

فلذا نري أن الامام (ع) قد أخذ منه الأمان و العهد و الميثاق مرارا مؤكدا عليه ذلك بما لم يعهد له مثيل من قبل، لعلمه (ع) بغدر هارون.

و لكن هارون يعلم بأن الامام لا يكذب، فلذا قال و بلغني أنك لم تكذب قط، و مع ذلك فان هذه الكلمة انتقاص في حق الامام (ع)، لأنه لم يعلم من قرارة نفسه بل بالابلاغ.

و أما قوله فلم ادعتيم أنكم ورثتم النبي صلي الله عليه و آله و سلم و العم يحجب ابن العلم، و قبض رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و قد توفي أبوطالب قبله و العباس عمه حي؟

و هذه المسألة من المسائل التي وقع اختلاف كبير فيها بين الامامية و أهل السنة، اذ مع وجود بنت واحدة للميت فانها ترث كل التركة و ليس للعم شي ء، «و ان كانت واحدة فلها النصف» هذا بالفرض المذكور في القرآن، و لكنها ترث النصف الآخر بالرد، لأنها أقرب الي الميت، و هي من المرتبة الأولي فلا ترث العصبة، و هي أخوة و أعمامه معها.

و قد سن عمر بن الخطاب أيام خلافته في صورة زيادة السهام العول، و عمل الناس في الصدر في صورة زيادة التركة بالتعصيب.

و علي هذا فأهل السنة يورثون البنت المنفردة نصف التركة فقط، و الباقي للعصبة [3] .

فالامام الكاظم (ع) يقول مع وجود السيدة الزهراء (ع) ابنة رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم لا معني بأن يرث عمه العباس، فضلا عن أولاد عمه و منهم علي (ع). فليس علي هو الوارث، بل فاطمة (ع).



[ صفحه 121]



و لما كانت هذه المسألة مما سار عليها السلف، و أفتي بها عمر، و تغييرها يحتاج الي مزيد جرأة، و قد تؤدي الي الهلاك، طلب الامام الأمان منه مجددا ثم أجاب عنها.

و استدعي علي ذلك من الرشيد جمع الفقهاء للتشاور حول هذه المسألة، و للسبب الذي دعاهم الي عدم القضاء بها.

و يظهر أن الرشيد أجازهم بالعمل علي طبقها بعد ذلك.

أما بنوة الحسن و الأئمة (ع) لرسول الله صلي الله عليه و آله و سلم فقد أطنبنا في الدليل عليها في كتابنا الامام الحسن (ع)، و قد ذكر الامام هنا (ع) دليلا، و هو أن النبي صلي الله عليه و آله و سلم لا يمكن أن يتزوج ابنة الامام الكاظم علي فرض حياته، لأنها ابنة ابن ابنته، فهي حفيدته، أما من بنات أولاد العباس فلا اشكال في ذلك لأنهن بنات عمه حينئذ.

ثم كرر هارون السؤال بكيفية أخري كيف قلتم أنا ذرية رسول الله... و قد بان الحقد من بنانه علي لسانه بقوله: يا ولد علي مرتين، و بقوله فأنتم تدعون معشر ولد علي أن لا يسقط عنكم منه شي ء...

فرأي الامام حينئذ أن يدلي بحجته الدامغة بعدة آيات الي أن قال له هارون: أحسنت يا موسي!

و تمني (ع) الرجوع الي حرم جده (ع) و الي عياله، و لكن هارون ما وفي بذلك [4] و قال له يوما: أتقولون أن الخمس لكم؟ قال (ع): نعم، قال: انه لكثير، قال (ع): «ان الذي أعطاناه علم أنه لنا غير كثير» [5] فانه لم يسكت عن حقه و لو لحظة و ان علم بأنه لن يرد لهم، و لكن الكلمة سيف ينفذ في قلب الجبار لعله ينفذ تعاليم القهار.

و في محاججة طويلة بينهما نذكر منها موضع الحاجة: قال هارون: ان الزندقة قد كثرت في الاسلام و هؤلاء الزنادقة الذين يرفعون الينا في الأخبار، هم المنسوبون اليكم، فما الزنديق عندكم أهل البيت؟ فقال (ع): الزنديق هو الراد علي الله و علي رسوله و هم الذين يحادون الله و رسوله.



[ صفحه 122]



قال الله: «لا تجد قوما يؤمنون بالله و اليوم الآخر يوادون من حاد الله و رسوله و لو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو أخوانهم أو عشيرتهم...) و هم الملحدون، عدلوا عن التوحيد الي الالحاد. فقال هارون: أخبرني عن أول من ألحد و تزندق؟ فقال موسي (ع): أول من الحد و تزندق في السماء ابليس اللعين، فاستكبر و افتخر علي صفي الله و نجيه آدم (ع)، فقال اللعين: «أنا خير منه خلقتني من نار و خلقته من طين» فعتا عن أمر ربه و ألحد فتوارث الالحاد ذريته الي أن تقوم الساعة. فقال: و لابليس ذرية؟ فقال (ع): نعم ألم تسمع الي قول الله (الا ابليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه، أفتتخذونه و ذريته أولياء من دوني و هم لكم عدو بئس للظالمين بدلا، ما اشهدتهم خلق السموات و الأرض و لا خلق أنفسهم و ما كنت متخذ المضلين عضدا» لأنهم يضلون ذرية آدم بزخارفهم و كذبهم و يشهدون أن لا اله الا الله، كما وصفهم الله في قوله: (و لئن سألتهم من خلق السموات و الأرض ليقولن الله، قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون»، أي أنهم لا يقولون ذلك الا تلقينا و تأديبا و تسمية، و من لم يعلم و ان شهد كان شاكا حاسدا معاندا، و لذلك قالت العرب: «من جهل أمرا عاداه و من قصر عنه عابه و ألحد فيه» لأنه جاهل غير عالم [6] .

فان هارون نسب الزندقة الي شيعة الامام - هم المنسوبون اليكم - «و ان لفظ الزنديق كان يطلق علي كل من يناقش في أحاديث الصحابة، و علي كل من يعارض نظام الحكم و الحكام، و اتخذ كأداة يستهدف بالدرجة الأولي هذا القطاع الواعي من الناس و مبررا لتصنيفهم و اتهامهم» [7] ، «ان الاتهام بالزندقة في ذلك العصر كان يسير جنبا الي جنب مع الانتساب الي مذهب الرافضة» [8] قال الشاعر:



و من تولي آل أحمد مسلم

قتلوه أو وصموه بالالحاد [9] .



فالامام (ع) رد عليه قوله بأن هارون و أذنابه هم الملحدون، و ذلك لأنه رد علي الله و رسوله بمنع حقوق أهل البيت (ع). ثم عقب بقوله (ع)



[ صفحه 123]



ان ابليس استكبر و افتخر علي صفي الله آدم، مع ان ابليس موحدا و يشهد أن لا اله الا الله، حتي أن المشركين بالله، يشهدون أن خالق السموات و الأرض هو الله، و لكن قولهم هذا لا ينفعهم، ما دامت حركاتهم و سكناتهم لا تسير في اتجاه الحق، بل ان الله تعالي وصفهم بعدم العلم، لأنه من علم شيئا توقاه، فاذن هم في شك من أمرهم.

فهذه الصفات كلها تنطبق علي هارون باستكباره و عناده... فأعطاه (ع) الأدلة و وصفه بالزندقة، من طريق القرآن الكريم، و لكن بشكل غير مباشر، ليعي ان كان واعيا.

فلذا استطاع الامام (ع) تركيز المذهب الشيعي، مع حركة المعارضة - السلطة تحارب مذهب أهل البيت، لأن الأئمة (ع) يقولون لا شرعية للحكام، مع أن المذاهب الأخري تعمل بحرية - من خلال تبيين الحقائق و عدم السكوت علي الظلم، و ان أدي ذلك الي السجن أو القتل، فالمداهنة لا تكون علي حساب المذهب في أي حال.


پاورقي

[1] بحارالأنوار ج 48 ص 126، عيون أخبار الرضا (ع) ج 1 ص 81.

[2] المصدر السابق، الفصول المهمة ص 238.

[3] الميزان في تفسير القرآن ج 4 ص 214، التفسير الكبير للرازي ج 9 ص 205، الكاشف ج 1 ص 481، فقه السنة ج 3 ص 437، علم المواريث في المذاهب الخمسة 198 و غيرها.

[4] عيون أخبار الرضا ج 1 ص 81.

[5] عيون أخبار الرضا ج 1 ص 81.

[6] ميزان الحكمة ج 2 ص 160.

[7] دراسات و بحوث في التاريخ و الاسلام ج 3 ص 118 نقلا عن مصادر عدة.

[8] دراسات و بحوث في التاريخ و الاسلام ج 3 ص 118 نقلا عن مصادر عدة.

[9] دراسات و بحوث في التاريخ و الاسلام ج 3 ص 118 نقلا عن مصادر عدة.