بازگشت

مجابهة الامام للرشيد


حجة اللسان أقوي من البنيان، فقد يخيل للخائض في سيرة الامام أنه كان يغض طرفه دوما عن مثالب هارون، أو يوري و يبهم جريا علي سنة التقية، أو يزدلف اليه بكلماته العطوفة و البراقة بلسانه، ليكسب بذلك جنانه.

و لكن حقيقة الواقع، أن لكل مقام مقالا، فكما أن الله تعالي حذر و بشر، و عذر و أنذر، و رهب و رغب، و وعد و توعد... فكذا نهج الامام (ع) منهج القرآن الكريم، فاتبع شتي الوسائل و الأساليب التي قد تصيب بعضها الهدف بسهمه الحاد.

أدخل الامام (ع) الي هارون، و كان (ع) قد عوذ نفسه بعدما علم غضب هارون، فلما دخل و رآه وثب قائما و عانقه و قال له: مرحبا بابن عمي و أخي و وارث نعمتي ثم أجلسه علي فخذيه، فقال له: ما الذي قطعت عن زيارتنا؟ فقال: سعة مملكتك و حبك للدنيا... [1] فالامام (ع) عندما رآه راضيا مستبشرا، تمكن من ايعاظه و مجابهته، فاغتنم سنحة الفرصة بذلك.



[ صفحه 124]



و كان مما قال هارون لأبي الحسن (ع) حين أدخل عليه: ما هذه الدار؟ فقال: دار الفاسقين. قال الله تعالي «سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق، و ان يروا كل آية لا يؤمنوا بها، و ان يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا، و ان يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا». فقال له هارون: فدار من هي؟ قال: هي لشيعتنا فترة (قرة) و لغيرهم فتنة، قال: «فما بال صاحب الدار لا يأخذها؟» فقال: أخذت منه عامرة و لا يأخذها الا معمورة، قال: فأين شيعتك؟ فقرأ أبوالحسن (ع) «لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب و المشركين منفكين حتي تأتيهم البينة» قال: فقال له: فنحن كفار؟ قال: لا و لكن لما قال الله: (الذين بدلوا نعمة الله كفرا و أحلوا قومهم دار البوار) فغضب عند ذلك و غلظ عليه [2] .

فاذا كان سؤال هارون ما هذه الدار؟ عن الدار الدنيا، فالانكباب عليها و التمتع بها، كما تهوي الأنفس عندئذ تكون دارهم، كما قال تعالي: (أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا و استمتعتم بها) و أما التمتع بالدنيا بالطيبات و المحللات فهي للذين آمنوا قال تعالي: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده و الطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة).

و ان أراد بالدار هي داره (قصره) و من فيها، فقد جابهه بالرد القارص ليكبح جماعه و عتوه.

و علي الاحتمالين، فهي للشيعة - المؤمنين حقا - فترة، لأن الدنيا دار ممر و الآخر دار مقر.

و أما غضب هارون عليه فلم يعبأ به بعدما قال: كلمة حق في وجه سلطان جائر.

و عندما كان (ع) في السجن بعث الي هارون رسالة قال فيها: انه لن ينقضي عني يوم من البلاء الا انقضي عنك معه يوم من الرخاء، حتي ينقضيا جميعا الي يوم ليس له انقضاء يخسر فيه المبطلون [3] .



[ صفحه 125]



و رأي الرشيد الامام (ع) جالسا عند الكعبة فقال له: أنت الذي تبايعك الناس سرا؟ فقال: أنا امام القلوب و أنت امام الجسوم [4] .

و امام القلوب الذي تهوي اليه أفئدة الناس، هو الذي يستحق الخلافة حقا، و أما أنت يا هارون فانك تحكم و تقود أبدانا بلا قلوب.

و أحضر هارون الامام لمسألة عجز عنها و علماؤه، فلما حضر (ع) قال يا أباالحسن انما أحضرتك شوقا اليك، فقال (ع): دعني من شوقك... ثم حل له معضلته.

فارادة هارون و سياسته تقتضي مجاملة و مداهنة الامام لجلب وده، و خاصة بين العلماء الذين ينقلون أدني تصرف لأحدهما، و لكنه (ع) لم تنطو عليه الحيلة فقال: دعني من شوقك، فالشوق يستدعي الاكرام و لا أري منك سوي الامتهان.

و سأله يوما فقال: أتقولون ان الخمس لكم؟ فقال (ع): نعم. فقال: انه لكثير. قال (ع): «ان الذي أعطاناه علم أنه لنا غير كثير» [5] .

فالسكوت عن حكم شرعي، و خاصة أنه حق من حقوق السادة الأشراف (حق الناس) بل انه حق قد يقلب موازين الدولة، و يغير ميزانية أهل البيت قاطبة، لهو من أعظم النكبات (الحقوق المالية) التي سيبتلي بها، لو أنه (ع) لم يقف له بالمرصاد، و لا تقية عندئذ أبدا.

فلم يكن الامام يخاف بأسهم أمام الحق.

أما قوله (ع) لسماعة بن مهران «يا سماعة أمنوا علي فرشهم و أخافوني، أما والله لقد كانت الدنيا و ما فيها الا واحد يعبد الله [6] .

فهذا الخوف بالنسبة لهم، يظنونه خوفا، و أما أنا ففي طمأنينته من أمري كما كان ابراهيم الخليل (ع).



[ صفحه 129]




پاورقي

[1] نفس المصدر عن ملحقات احقاق الحق ج 9 ص 688 عن مصادر عدة.

[2] عيون أخبار الرضا ص 76.

[3] الاختصاص ص 262، بحارالأنوار ج 48 ص 156، تفسير العياشي ج 2 ص 230.

[4] بحار ج 48 ص 148، تذكرة الخواص ص 314، مسند الامام الكاظم ص 102 - 100 - 98، نورالأبصار ص 152، الفصول المهمة ص 241، الكامل في التاريخ ج 4 ص 59، الأنوار البهية ص 165.

[5] البحار ج 48 ص 158.

[6] الكافي ج 2 ص 243.