بازگشت

اسلوب الكتمان في السلوك الرسالي (التقية).


الحافظ علي شيعته بالتقية

و سار علي خطي جده صلي الله عليه و آله و سلم اذ كان يقول: «اني سمعت في خبر عن جدي رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم ان طاعة السلطان للتقية واجبة» [1] .

لو لا التقية لما أمن الامام الصادق (ع) علي ولده الكاظم (ع) من القتل و ما أشبه، اذا أوصي له بالخلافة علانية، فلذا لما توفي (ع) و علم بذلك أبوجعفر المنصور، دعا أباأيوب الخوزي قائلا: اكتب ان كان أوصي الي رجل بعينه فقدمه و اضرب عنقه.

فكتب و عاد الجواب قد أوصي الي خمسة، أحدهم أبوجعفر المنصور، و محمد بن سليمان، و عبدالله، و موسي، و حميدة - أم الامام الكاظم - قال المنصور: ما الي قتل هؤلاء سبيل [2] .

و مرت سنون علي الشيعة في التاريخ الأسود للعباسيين، أن العلوي اذا جالس أحدا يقال له: قم لا أؤخذ بك. حتي تشردوا في كل بلد و جبل و واد.

فمن هذا المنطلق كان الامام (ع) يقول: في قول الله تعالي: (ان أكرمكم عند الله أتقاكم) قال: أشدكم تقية [3] .

و لا ريب أن التقية مما جاء في القرآن الكريم و السنة و أقرها العقل.



[ صفحه 164]



أما الكتاب الكريم فقد جاء في قصة عمار بن ياسر، عندما قتل والده، و سب النبي صلي الله عليه و آله و سلم فجاء معتذرا الي رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم فقال له: كيف تجد قلبك يا عمار؟ قال: انه ملي ء بالايمان يا رسول الله. فقال له صلي الله عليه و آله و سلم فما عليك فان عادوا اليك فعد لما يريدون فقد أنزل الله فيك (الا من أكره و قلبه مطمئن بالايمان) [4] .

و قد مدح الله تعالي الرجل من آل فرعون الذي كتم ايمانه «و قال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم ايمانه...» و قال تعالي: (الا أن تتقوا منهم تقاة). بل لقد شدد أهل البيت علي التقية فقال الامام الصادق (ع) «التقية ديني و دين آبائي، و لا دين لمن لا تقية له، و التقية ترس الله في الأرض لأن مؤمن آل فرعون لو أظهر الاسلام لقتل» [5] .

و التقية لا تستمر مدي الدهر، و الا لانتفت الغاية من نشر المذهب، بل لن يتمكن بعد من اظهار الحقائق، فيتربص كيما تهدأ العاصفة، و يزول غبار الجور، فعندئذ يجلي أهل البيت الحقيقة دون الحاح أو سؤال، و يدل علي ذلك ما رواه علي بن سويد قال: خرج الي أبوالحسن (ع) و قال: سألتني عن أمور كنت منها في تقية و من كتمانها في سعة، فلما انقضي سلطان الجبابرة، و دني سلطان ذي السلطان العظيم منا، و الدنيا المذمومة الي أهلها، العتاة علي خالقهم، رأيت أن أفسر لك ما سألتني عنه، مخافة أن تدخل الحيرة علي ضعفاء أمتنا من قبل جهالتهم.

فاتق الله و اكتم ذلك الا من أهله، و احذر أن يكون سبب بلية علي الأوصياء أو حارشا عليهم في افشاء ما استودعتك، و اظهار ما أكتمتك و لن تفعل انشاء الله [6] .

فمع أن الامام (ع) قد أظهر الحقيقة و بين الأجوبة التي سئل عنها منذ أمد بعيد، و لم يجب عنها من قبل تقية، أظهرها لشخص لتكون بيده سلاحا



[ صفحه 165]



وقت الحاجة، و لكن مع ذلك أمره بكتمانها حالا، لأنه لم يحن وقت اظهارها غلانية للجميع. و كذا قوله لهشام «كف هذه الأيام فان الأمر شديد».

ثم انه (ع) كان يأمر أصحابه بشدة التحفظ و عدم اظهار أمرهم، فقد حلف (ع) أن لا يكلم محمد بن عبدالله الأرقط أبدا، فقال المفضل بن قيس: فقلت في نفسي: هذا يأمر بالبر و الصلة و يحلف أن لا يكلم ابن عمه أبدا، فقال (ع) - علم بما في نفسه - هذا من بري به، هو لا يصبر أن يذكرني و يعينني، فاذا علم الناس ألا أكلمه لم يقبلوا منه و أمسك عن ذكري فكان خيرا له [7] بل ان أصحابه (ع) كانوا يلتقون به سرا اذا أرادوا حكما شرعيا. فعن خلف بن حماد: قال: بعثت الي أبي الحسن (ع) موسي بن جعفر (ع) فقلت: جعلت فداك ان لنا مسألة قد ضقنا بها ذرعا، فان رأيت أن تأذن لي فآتيك فأسألك عنها. فبعث الي: اذا هدأت الرجل، و انقطع الطريق، فأقبل ان شاء الله.

قال خلف: فرعيت الليل حتي اذا رأيت الناس قد قل اختلافهم بمني توجهت الي مضربه، فلما كنت قريبا اذا أنا بأسود قاعد علي الطريق، فقال: من الرجل؟ فقلت: رجل من الحاج فقال: ما اسمك؟ قلت: خلف بن حماد فقال: ادخل بغير اذن، فقد أمرني أن أقعد ههنا، فاذا أتيت أذنت لك، فدخلت فسلمت فرد علي السلام و هو جالس علي فراشه وحده، ما في الفسطاط غيره، فلما صرت بين يديه سألني و سألته عن حاله.

ثم سأله مسألة عن الحيض فأجابه (ع).

قال: ثم التفت (ع) يمينا و شمالا في الفسطاط مخافة أن يسمع كلامه أحد، قال؛ ثم نهد الي فقال: يا خلف سر الله فلا تذيعوه، و لا تعلموا هذا الخلق أصول دين الله، بل ارضوا لهم ما رضي الله لهم من ضلال» [8] .

فالسياسة الجائرة كانت تراقب الوافدين الي خيمة الامام (ع) فتحصي عليهم أنفاسهم، حتي ان الامام (ع) خشي أن يكون أحد أزلام الحكم متواريا معه في فسطاطه، فلذا من شدة الخوف أمره الامام (ع) بالمسير اليه



[ صفحه 166]



ليلا، و مع ذلك أجلس (ع) غلاما علي الطريق ليدله مسرعا خوفا من تربص المتربصين، و لم يجد معه أحدا أبدا، فأين أصحاب الامام و موالوه و محبوه اذن، و هو مع تلك الحشود الغاصة من كل فج عميق في مني؟ فالدعوة سرية من الامام، لأنه علم أنه ما لا يدرك كله لا يترك كله.

فمن حيل هارون بث عيونه و جواسيسه بين أصحاب الامام، مدعين الزهد و التقشف و الموالاة، و قد كان من العملاء المنافقين هشام بن ابراهيم، فلقد لعنه الامام الرضا فيما بعد و تبرأ منه، اذ أنه كان عينا للخلفاء اتصل بالامامين الكاظم و الرضا (ع) و أظهر لهما المودة، و لكنه كان عاملا للرشيد و المأمون يخبرهما عما يجري في بيت الامام [9] .

فلذا لما توفي الامام الصادق و أفضت الامامة الي الكاظم، وضعت الجواسيس بالمدينة لينظر من أتفقت عليه الشيعة، لتضرب عنقه، و عرف بعض أصحاب الامام الصادق خليفته الشرعي فأقبل هشام بن سالم يسأل الامام فقال له (ع): سل تخبر و لا تذع، فان أذعت فهو الذبح.

فلما سأله و اذا هو بحر لا ينزف قال: جعلت فداك شيعتك و شيعة أبيك ضلال فألقي اليهم و ادعوهم اليك؟ و قد أخذت علي الكتمان؟ قال: من آنست منه رشدا فالق اليه، و خذ عليه الكتمان، فان أذاعوا فهو الذبح - و أشار بيده الي حلقه - [10] .

و دخل الكميت بن زيد علي الامام الكاظم (ع) فقال له الامام: أنت الذي تقول: فالآن صرت الي أمية و الأمور الي مصائر؟

قال: قد قلت ذلك، فوالله ما رجعت عن ايماني، و اني لكم لموال و لعدوكم لقال، و لكني قلته علي التقية. قال (ع): «أما لئن قلت ذلك ان التقية تجوز في شرب الخمر» [11] .

فأقره الامام علي فعله، بل وضحها له، يعمل بها متي داهمته الأمور.



[ صفحه 167]



فالتقية لم تقتصر علي الفقه فحسب، بل كانت فقهية، سياسية، عقائدية، تشمل جميع جوانب الحياة، ما دام يمكن من خلالها الوصول الي الهدف المنشود.

و مع ذلك فقد اشتهر المذهب الشيعي بالتقية، حتي قال الرشيد يوما للامام (ع) «لك الأمان ان صدقتني و تركت التقية التي تعرفون بها معشر بني فاطمة» [12] و قد سأل أبوحنيفة يوما الامام الكاظم (ع) قائلا: أخبرني أي شي ء كان أحب الي أبيك العود [13] أم الطنبور [14] ؟ قال: لابل العود، فسئل عن ذلك فقال: يحب عود البخور و يبغض الطنبور.

«و مع أن الآلات الموسيقية محرمة حتي عند السنة اجمالا، و قد أذن صلي الله عليه و آله و سلم بسماع الدف، بل كان صلي الله عليه و آله و سلم اذا سمع الغناء وضع يديه في أذنيه» [15] .

و مع ذلك فان الجواري المغنيات لما اشتهرن و انتشر اللهو و الغناء و الموسيقي فكأن مسألة الحلية صارت من المسلمات حتي سأل أبوحنيفة الكاظم (ع) أي شي ء كان أحب الي أبيك...؟

فقال (ع) العود، و ذلك لما ورد في الحديث «عليكم بالعود الهندي» [16] (أي عود البخور).

أما شأنه (ع) مع علي بن يقطين بالتقية و محافظته عليه فكثيرة منها.

روي أن علي بن يقطين كتب الي موسي بن جعفر (ع) اختلف في المسح علي الرجلين، فان رأيت أن تكتب ما يكون عملي عليه فعلت.

فكتب أبوالحسن: الذي آمرك به أن تتمضمض ثلاثا، و تستنشق ثلاثا، و تغسل وجهك ثلاثا، و تخلل شعر لحيتك ثلاثا، و تغسل يديك ثلاثا، و تمسح ظاهر أذنيك و باطنهما و تغسل رجليك ثلاثا، و لا تخالف ذلك الي غيره. فامتثل أمره و عمل به.



[ صفحه 168]



فقال الرشيد: أحب أن أستبري ء أمر علي بن يقطين فانهم يقولون انه رافضي، و الرافضة يخففون في الوضوء، فناطه بشي ء من الشغل في الدار، حتي دخل وقت الصلاة، و وقف الرشيد وراء حائط الحجرة، بحيث يري علي بن يقطين و لا يراه هو، و قد بعث اليه بالماء للوضوء فتوضأ كما أمره موسي (ع). فقام الرشيد و قال: كذب من زعم أنك رافضي.

فورد علي علي بن يقطين كتاب موسي بن جعفر: توضأ من الآن كما أمر الله اغسل وجهك مرة فريضة، و الأخري اسباغا، و اغسل يديك من المرفقين كذلك، و امسح مقدم رأسك، و ظاهر قدميك، من فضل نداوة وضوئك، فقد زال ما يخاف عليك.

فعلي بن يقطين من رجال السلطة و وزير هارون الذين يعول عليهم عنده، و كان أبوه يقطين من أبرز الدعاة الي الدولة العباسية لأنها قامت بشعار الرضا لآل محمد، فكان في خدمة السفاح و المنصور و مع ذلك كان يقول بالامامة [17] ، و أما ولده علي بن يقطين فكان من التقي و الورع و حب أهل البيت علي درجة عظيمة، و لم يأذن له الامام الكاظم (ع) بترك السلطة. فلذا كان (ع) يجري له الكرامات ويهتم بشأنه، بل أخبره بوجوب الرجوع الي وضوء الشيعة لما زال الخطر، دون أن يخبره أحدكما يظهر من الرواية.

و في رواية الشيخ المفيد عن ابن سنان: قال: حمل الرشيد في بعض الأيام الي علي بن يقطين ثيابا أكرمه بها، و كان من جملتها دراعة خز سوداء من لباس الملوك مثقلة بالذهب، فانفذ علي بن يقطين جل تلك الثياب الي موسي بن جعفر (ع)، و أنفذ في جملتها تلك الدراعة و أضاف اليها مالا كان أعده علي رسم له، فيما يحمله اليه من خمس ماله.

فلما وصل ذلك الي أبي الحسن (ع) قبل ذلك المال و الثياب ورد



[ صفحه 169]



الدرعة علي يد الرسول الي علي بن يقطين، و كتب اليه احتفظ بها و لا تخرجها عن يدك، فسيكون لك بها شأن تحتاج اليها معه، فارتاب علي بن يقطين بردها عليه، و لم يدر ما سبب ذلك و احتفظ بالدراعة.

فلما كان بعد أيام تغير علي بن يقطين علي غلام كان يختص به، فصرفه عن خدمته، و كان الغلام يعرف ميل علي بن يقطين الي أبي الحسن موسي (ع) و يقف علي ما يحمله اليه في كل وقت من مال و ثياب و الطاف و غير ذلك.

فسعي به الي الرشيد فقال: انه يقول بامامة موسي بن جعفر و يحمل اليه خمس ماله في كل سنة، و قد حمل اليه الدراعة التي أكرمه بها أميرالمؤمنين في وقت كذا و كذا.

فاستشاط الرشيد لذلك و غضب غضبا شديدا، و قال: لأكشفن عن هذا الحال، فان كان الأمر كما تقول أزهقت نفسه، و أنفذ في الوقت باحضار علي بن يقطين، فلما مثل بين يديه قال له: ما فعلت بالدراعة التي كسوتك بها؟ قال:هي يا أميرالمؤمنين عندي في سفط مختوم، و فيه طيب قد احتفظت بها.

فكلما أصبحت فتحت السفط، و نظرت اليها تبركا بها، و قبلتها و ورددتها الي موضعها، و كلما أمسيت صنعت مثل ذلك، فقال: احضرها الساعة. قال نعم يا أميرالمؤمنين، فاستدعي بعض خدمه فقال له: امض الي البيت الفلاني من داري، فخذ مفتاحه من خازني و افتحه ثم افتح الصندوق الفلاني، فجئني بالسفط الذي فيه بختمه، فلم يلبث الغلام ان جاء بالسفط مختوما.

فوضع بين يدي الرشيد فأمر بكسر ختمه و فتحه، فلما فتح نظر الي الدراعة فيه بحالها، مطوية مدفونة في الطيب.

فسكن الرشيد من غضبه، ثم قال لعلي بن يقطين: أرددها الي مكانها و انصرف راشدا، فلن أصدق عليك بعدها ساعيا، و أمر أن يتبع بجايزة سنية، و تقدم بضرب الساعي به ألف سوط، فضرب نحو خمسمائة سوط



[ صفحه 170]



فمات في ذلك [18] .

و هكذا كان الامام (ع) يدفع عنه كيد عدوه بكراماته التي تثبت عزيمة علي بن يقطين و تجعله لا يأبه بمصيره حتي و ان كان القتل، بل كان مصيره هو السجن أربع سنوات في سجن هارون و مات فيه، قبل الامام الكاظم بسنة. و كان علي بن يقطين ربما حمل الي الامام (ع) مائة ألف الي ثلاثمائة ألف درهم. و بعثها سرا الي الامام (ع).

بل ان الامام (ع) كان يبعث الي أصحابه بالكلف عن الكلام و عدم اظهار أمرهم لئلا يؤخذوا.

قال هشام بن الحكم ليونس: ان أباالحسن (ع) بعث اليه - لهشام - فقال له: كف هذه الأيام عن الكلام، فان الأمر شديد، قال هشام: فكففت عن الكلام حتي مات المهدي و سكن الأمر [19] .

قال السيد الخوئي فان هشاما امتثل لأمر الامام (ع)، و أما بعض الروايات التي تقول انه لم يمتثل فانها ضعيفة، نعم هناك رواية صحيحة في ذلك و لكن لابد من رد علمها الي أهلها.

و هذه تدل علي أن علم الكلام الذي يشترك فيه المسلمون قاطبة، بل هو من أصل العقيدة الاسلامية، أمر الامام بالسكوت فيه، فكيف حال العلوم الأخري اذن؟ أو حال موالو أهل البيت؟

ان الحكومة كانت تواجه الطليعة المثقفة، و تحاول تشتيتها أيضا، و انضمامها لها بحجة التوعية الفكرية و نشر العلم، و قد كانت تنطوي الحيلة علي بعضهم، فقد قرب يحيي البرمكي هشاما و أعد له مجلسا يتناظر فيه العلماء، ليوقعه في الفخ صيدا لا مثيل له، و جعل يحيي يدعو المتكلمين من جميع الفرق للمشاركة في كل يوم أحد، فبلغ ذلك الرشيد فقال ليحيي بن خالد: يا عباسي! ما هذا المجلس الذي بلغني في منزلك يحضره المتكلمون؟ فقال: يا أميرالمؤمنين، ما شي ء مما رفعني به أميرالمؤمنين،



[ صفحه 171]



و بلغ من الكرامة و الرفعة أحسن موقعا عندي من هذا المجلس، فانه يحضره كل قوم مع اختلاف مذاهبهم، فيحتج بعضهم علي بعض، و يعرف المحق منهم، و يتبين لنا فساد كل مذهب من مذاهبهم.

قال الرشيد: فأنا أحب أن أحضر هذا المجلس، و أسمع كلامهم من غير أن يعلموا بحضوري، فيحتشمون و لا يظهرون مذاهبهم. قال: ذلك اي أميرالمؤمنين متي شاء. قال: فضع يدك علي رأسي، و لا تعلمهم بحضوري. ففعل.

و بلغ الخبر المعتزلة، فتأثروا فيما بينهم، و عزموا ألا يكلموا هشاما الا في الامامة لعلمهم بمذهب الرشيد، و انكاره علي من قال بالامامة. فدار الحديث حول الامامة و سمع الرشيد الكلام من وراء الستر، و كان معه جعفر بن يحيي البرمكي، فلما وصف الامام الكاظم بأنه صاحب العصر و هو أميرالمؤمنين، قال لجعفر من يعني؟ قال: موسي بن جعفر. فعض هارون علي شفته و قال: مثل هذا حي و يبقي لي ملكي ساعة واحدة؟ فوالله للسان هذا أبلغ في قلوب الناس من مائة ألف سيف. و أحس هشام بالأمر، فتواري، فبعث الرشيد الي أخوانه و أصحابه فأخذ الخلق به. ثم اعتل هشام و مات، فلما علم هارون بذلك خلي عمن كان أخذ به [20] .

و في رواية صحيحة عن الامام الرضا (ع) أما كان لكم في أبي الحسن (ع) عظة ما تري حال هشام بن الحكم فهو الذي صنع بأبي الحسن (ع) ما صنع و قال لهم و أخبرهم أتري الله يغفر له ما ركب منا [21] و قد ذكر السيد الخوئي أن هذه الرواية يرد علمها الي أهلها، لأن هشاما ممدوحا في الروايات، و لكن نقول قد تكون حسن نية هشام و عدم قدرته علي الكتمان و التقية هي التي أوردته المهالك، و قد كان الامام (ع) قد نبهه أن الأمر شديد، و في بعضها أن الامام الكاظم أرسل الي هشام مرة، يقول: كيف تشرك في دمي، فان سكت، و الا... فهو الذبح [22] .



[ صفحه 172]



و قد حاولت السلطة بما أوتيت من حول و قوة أن تسعي جاهدة لتفرقة أصحاب الامام (ع) و جعلهم فرقا فرقا، جريا منهم علي قاعدة فرق تسد، فقد كتب ابن المفضل للمهدي صنوف الفرق صنفا صنفا، ثم قرأ الكتاب علي الناس.

و قد قرأ علي باب الذهب بالمدينة، و مرة أخري بمدينة الوضاح، و قال في كتابه و فرقة يقال لهم الزرارية، و فرقة يقال لهم العمارية، أصحاب عمار الساباطي، و فرقة يقال لهم اليعفورية، و منهم فرقة أصحاب سليمان الأفطع و فرقة يقال لهم الجواليقية [23] .

و هذا كله افتراء علي أصحاب الامام (ع) أولا للانفكاك نوعا عن الامام (ع) اذ أن ذلك يبعث الغرور في النفوس اذا ادعي أنهم أصحاب مذاهب. ثانيا سيوجدوا بذلك البغضاء و الشحناء في نفوس الأصحاب. ثالثا تفكيك الأمة و تحيرها بحيث يبعث التشكيك في النفوس بصحة المذاهب.

ثم ان قراءة ذلك الكتاب علي باب المدينة أي في مجمع من الناس، و في مدينة الوضاح [24] ، يعني نشر هذا الكتاب علي أكبر عدد ممكن من الناس، لنشر الفتن، مع النظر الي كون المدينة المنورة، هي معقل أهل البيت (ع) و الأصحاب فلابد من البدء فيها أولا، ثم الانتشار الي المدن الأخري.

و قد كانت الحكومة جل نظرها الي العصابة المؤمنة الملتفة حول أهل البيت و الواعية و المثقفة، لأنها اذا أمسكت الرأس، فان البدن سرعان ما سينهار، و اذا قتلت الوعي و الفكر فانها ستحتل المركز الذي يركز دعائمها مدعي الدهر، فسياسة التجهيل كانت تقوم علي قدم وساق، لأنهم يعلمون بأن أي ثورة أو فرقة، تقوم دعائمها علي حركة فكرية ببث الوعي، فانها ستصمد أمام التيارات، فلذا نري أن الثورة الزيدية قامت علي أساس



[ صفحه 173]



العاطفة و الموالاة لأهل البيت، فتعاطف معها الكثير الكثير من المدن، و لكنها سرعان ما انهارت لأنها لم تقم علي حركة فكرية و وعي جماهيري.

التقية في رسالة التعزية الي خيزران بموت ولدها الهادي

و قيل أن خيزران زوجة الرشيد هي التي قتلت ولدها الهادي اذ كانت تستبد بالأمور دونه، و كانت الرجال تقف علي باب دارها، تسألها قضاء حوائجها، فترفع ذلك الي ولدها فيقضيها، الي أن غضب يوما، فقال لها: لئن بلغني أنه وقف ببابك أحد من قوادي و خاصتي لأضربن عنقه، و لأقبضن ماله، ما هذه المواكب التي تغدو و تروح الي بابك؟ أما لك مغزل يشغلك، أو مصحف يذكرك، أو بيت يصونك؟ اياك! و اياك! لا تفتحي بابك لمسلم و لا ذمي.

فانقطعت عن النطق بعدها، و انقطع عن بابها.

ثم بعث بأرز لها و قال قد استطبتها، فكلي منها. فقيل لها: أمسكي حتي تنظري! فجاؤوا بكلب، فأطعموه، فسقط لحمه لوقته، فأرسل اليها كيف رأيت الأرز؟ قالت: طيبا. قال: ما أكلت منها و لو أكلت منها لاسترحت منك، متي أفلح خليفة له أم؟!! فعندئذ أمرت جواريها بقتله فجلسن علي وجهه بالغم فمات [25] .

و مع ذلك فقد رأي (ع) أن السياسة القائمة التي كانت تستبد بها خيزران حينئذ قد تكون كفيلة لتحصين شيعة آل البيت، و بالأخص عندما تري أن الامام (ع) قد عزاها بفقيدها، و هناها بوليدها الآخر، فلعله (ع) يكسب ودها، فتؤثر بذلك علي هارون فيحسن سياسته مع آل أبي طالب.

و قد يري بعض العلماء أن هذه التعزية لم تصدر من الامام (ع) لأنه لم يكن يراهم أهلا للسلطة، بل انهم كانوا مستبدين بحقوق الأمة، و لم يراعوا حقها فكيف تصدر التهنئة من الامام بحق ولدها؟!!

و لكن الأمر بسيط عند التقية، لأن الاستبداد منهم حاصل لا محالة، فلابد من ليونة موقفه (ع) معهم، كيما يحفظ حق أمته و لو آنا، حتي



[ صفحه 174]



تنكشف غيمة الضلال، قبل أن تتواري شمس الحقيقة.

و نذكر مقتطفا من رسالته (ع) لها:

بسم الله الرحمن الرحيم للخيزران من موسي بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين، أما بعد: أصلحك الله و أمتع بك و أكرمك و حفظك و أتم النعمة و العافية في الدنيا و الآخرة لك برحمته، ثم ان الأمور أطال الله بقاك كلها بيد الله عزوجل يمضيها و يقدرها بقدرته فيها، و السلطان عليها، توكل بحفظ ماضيها، و تمام باقيها.

بلغنا أطال الله بقاك ما كان من قضاء الله الغالب في وفاة أميرالمؤمنين انا لله و انا اليه راجعون، اعظاما لمصيبته و اجلالا لرزئه و فقده، ثم انا لله و انا اليه راجعون، صبرا لأمر الله عزوجل و تسليما لقضائه، ثم انا لله و انا اليه راجعون لشدة مصيبتك علينا خاصة و بلوغها من حر قلوبنا و نشوز أنفسنا.

نسئل الله أن يصلي علي أميرالمؤمنين و أن يرحمه و يلحقه بنبيه صلي الله عليه و آله و سلم و بصالح سلفه...

و أسئل الله أن يهنيك خلافة أميرالمؤمنين، أمتع الله به و أطال بقاه و مد في عمره، و أنسي في أجله [26] .

هذه الرواية و ان كانت مرسلة، و لكنها قريبة الي الاعتبار، لما ذكرنا، ثم انه (ع) أبهم في أكثر كلامه فقد تكون كلماته تورية يريد بها عليا (ع).

التقية ليست قاعدة عامة.

قد يخطر ببال البعيد عن القضايا الاسلامية، ان التقية شعار أهل البيت (ع) و انها تجري في كل مراحل الدعوة، و ان المذهب الشيعي هو مذهب التكتم و الانضواء علي أشخاص مخلصين أو معدودين، يحفظون السر و يكتمونه، و لا يباح اظهار المذهب الا للكتلة الخاصة.

و لكن هذا علي خطي نقيض في مذهب الامامية الاثني عشرية، اذ أن كاتم العلم مما ذمه أهل البيت (ع) فقد قال الامام الصادق (ع) ان العالم



[ صفحه 175]



الكاتم علمه يبعث أنتن أهل القيامة ريحا، تلعنه كل دابة حتي دواب الأرض الصغار [27] و عن الرسول صلي الله عليه و آله و سلم من كتم علما نافعا عنده ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار [28] .

و قد قال تعالي: (و لا تلبسوا الحق بالباطل و تكتموا الحق و أنتم تعلمون) [29] و في آية أخري: (لم تلبسون الحق بالباطل و تكتمون الحق و أنتم تعلمون) [30] فاذن هناك فرق بين اظهار العلم و ترويجه و اظهار الحق، و بين التقية التي هي الوقاية و الحذر عند الخوف بحيث يظهر خلاف الاعتقاد و يستبطن ما لو أظهره لحصل الضرر أو خافه علي نفسه أو نفس مؤمن و ما أشبه.

و ليس هذا كتما لحق بل هذا هو الحق، كيما تنجلي غيمة الغي فتظهر الحقيقة.

و مع ذلك فانهم (ع) لم يكونوا يستعملون التقية في بعض القضايا الحساسة، كقضية أنهم أحق بالامامة من كل أحد، و قضية الخمس و فدك، و بنوتهم لرسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و ما أشبه كي لا تنطمس معالم أصل الامامة، بل أصل الدين، و الا لانتفت الغاية.

اضافة الي أنهم (ع) قد أعطونا قاعدة عامة، بأنه عند تعارض روايتين قد وردتا عنهم (ع) فمع عدم امكان ترجيح احداهما علي الآخري فقد قال الصادق (ع): فينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب و السنة فيؤخذ به، و يترك ما خالف حكمه حكم الكتاب و السنة، و وافق العامة [31] و ذلك لأن الحديث الذي يوافق العامة يكون قد خرج منهم (ع) للتقية.


پاورقي

[1] عيون الأخبار ج 1 ص 76.

[2] المناقب ج 2 ص 381.

[3] المحاسن 258، مسند الامام الكاظم ج 1، ص 460،.

[4] آية 106 من سورة النحل، ذكرت قصة عمار في مجمل التفاسير.

[5] غافر / 24.

[6] آل عمران / 28.

[7] البحار ج 48 ص 159.

[8] المصدر السابق ص 112، الكافي ج 3 ص 92.

[9] مسند الامام الكاظم ج 3 ص 556.

[10] الكافي ج 1 ص 351.

[11] معجم رجال الحديث ج 14 ص 126.

[12] بحار ج 48 ص 126.

[13] العود: الآلة الموسيقية المعروفة.

[14] الطنبور: آلة موسيقية ذات عنق طويل لها أوتار نحاس (مزيكة).

[15] مفتاح كنوز السنة ص 486.

[16] النهاية ج 3 ص 317.

[17] قال السيد الخوئي في معجمه، في ترجمة علي بن يقطين: في رواية صحيحة أن الامام الصادق (ع) دعا علي يقطين، فخاف علي بن يقطين (ولده) أن يشمله الدعاء فقال له الامام الكاظم (ع) «انما المؤمن في صلب الكافر بمنزلة الحصاة في اللبنة، يجي ء المطر فيغسل اللبنة و لا يضر الحصاة شيئا».

[18] الارشاد ص 274، نورالأبصار للشبلنجي ص 150، الفصول المهمة في معرفة أحوال الأئمة (ع) لابن الصباغ المالكي ص 236، معجم رجال الحديث ترجمته.

[19] البحار ج 48 ص ص 196.

[20] بحارالأنوار ج 48 ص 197.

[21] معجم رجال الحديث ج 19 ص 289.

[22] التاريخ و الاسلام للسيد جعفر مرتضي ج 3 ص 115.

[23] المصدر السابق.

[24] الوضاح: لعلها الوضاحية قرية منسوبة الي بني وضاح مولي لبني أمية و كان بربريا (البحار).

[25] الكامل في التاريخ ج 4 ص 18، الطري ج 8 ص 205.

[26] مسند الامام الكاظم (ع) ج 1 ص 65.

[27] ميزان الحكمة ج 6 ص 472.

[28] ميزان الحكمة ج 6 ص 472.

[29] سورة البقرة، آية: 42.

[30] سورة آل عمران، آية: 71.

[31] دروس في علم الأصول حلقة 3 ج 2 ص 398.