بازگشت

القياس بالنفس


كل انسان يقيس الآخرين علي شاكلته، فان كان سلوكه فاسدا فيقيس الآخرين علي أساس مقاصده الفاسدة و نياته الملوثة و غير النزيهة. قال أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عالم العلماء، و سيد البلغاء، و سيد الأدباء: «الرجل السوء لا يظن بأحد خيرا؛ لأنه لا يراه الا بطبع نفسه» [1] .

و هذا ما نلاحظه في مجتمعنا اليوم و ما يمكن أن يحصل في كل يوم لأن الحقائق العلمية موضوعية و مستمرة في كل العصور. يقول علماء النفس: «حينما تمتلي ء الدنيا بعواطفنا و ميولنا و أفكارنا، فمن المقطوع به أننا ننظر الي كل شي ء منها بنظرتنا الشخصية، و كأن أحاسيسنا تظل علي رؤوس الكائنات. و نلاحظ ذلك في الطبيعة:

فالعواصف تصيب باليأس و القنوط، و النسيم الغض الطري يكسبنا الرضا و السكون. و هكذا نحن البشر نري الطبيعة الجغرافية و البشرية من خلال نوافذ عواطفنا و أحاسيسنا.

فحسب أحاسيسنا من الممكن أن نري الهر حيوانا محبوبا لطيفا أو حيوانا مؤذيا معاديا. كما يمكن أن نري الاسد حيوانان محبوبا مأنوسا أو نراه حيوانا مفترسا ضارا مرهوبا. ذلك أن العواطف و الأحاسيس تغير الدنيا التي نعيش فيها بصورة كلية. و من هنا كان التفاؤل و التشاؤم من الموضوع نفسه عند بعض الناس.

و اذا ما سألنا بعض القضاة و الحقوقيين يقولون: قلما يتفق أن يشهد الشهود لحادثة بسيطة ساذجة شاهدوها من قريب، بشهادة واحدة تماما، فقد تختلف العبارات و الصورة من شخص لآخر.



[ صفحه 177]



كما نلاحظ ذلك في الأمور التي لا تثير العاطفة نشاهد جيدا كيف تختلف أفكارنا و نظراتنا، فكيف بالأحري بالحوادث العاطفية.

و لا ريب أن ذلك يعود الي العقل الذي منه الاتزان و الصحة و الرأي السليم. قال الامام الكاظم عليه السلام في وصيته لهشام: «يا هشام ان العاقل الذي لا يشغل الحلال شكره، و لا يغلب الحرام صبره. يا هشام من سلط ثلاثا علي ثلاث فكأنما أعان علي هدم عقله: من أظلم نور تفكره بطول أمله: و محا طرائف حكمته بفضول كلامه، و أطفأ نور عبرته بشهوات نفسه، فكأنما أعان هواه علي هدم عقله، و من هدم عقله أفسد عليه دينه و دنياه.

هذا النمط من الناس ينقصهم ضعف في النفس و عدم الثقة بأنفسهم. و السبب في ذلك يعود الي عدم الاتكال علي الله، رب العالمين الذي تستمد منه وحده فهو صاحب القدرة الآلهية الأزلية.

ان المؤمن مع تمتعه بثقته بنفسه، و مع افادته من كل الامكانيات التي تحت تصرفه بصورة دقيقة و تامة، لا يحضر روحه بين العلل و العوامل المادية، و لا تتوقف انسانيته علي المادة، بل يري طريق التعالي و التسامي الي القمة مفتوحا عليه، كما يري عمله أبعد من حدود المادة، فهو يربط بين نشاطاته و فعالياته و أهداف الحياة العالية ان من يطمئن قلبه بالايمان يكون اعتماده و ثقته بالله تعالي الذي بيده سبحانه تدبير كل الأمور وحده لا شريك له. قال تعالي: (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها و ما يمسك، فلا مرسل له من بعده و هو العزيز الحكيم) [2] .

ان اللجوء الي غير الله لا ينتج عنه سوي الذلة و الحقارة، و أني لمخلوق عاجز لا ملجأ له الا الله بل هو فقير في كل شي ء اليه و لا يملك من أمره شيئا، فكيف له أن يمتلك أمر غيره؟

و هل بعد هذا أفضل و ألطف من أن يعيش الانسان في كنف لطف الله و حمايته؟ فهو مالك كل شي ء و بيده تدبير جميع الأمور.



[ صفحه 178]



ان الخضوع أمام الله في السراء و الضراء، و الاعتقاد الحازم و الراسخ بسيادة القدرة المطلقة الآلهية فوق جميع القدرات و العوامل المادية يترك في نفس المؤمن آثارا عجيبة من الطمأنينة بحيث لا يفتقد قيمته أمام أي حادث، و لا يضطرب و لا يقلق لأي شي ء كبيرا كان أم صغيرا. ان الاتكال علي الله عزوجل لن يؤدي الي الضعف و الوهن، بل هو ثقة و اعتماد يوثق قوة الارادة، و يقطع جذور أي وسوسة أو تردد من القلوب. و هل يزكو عمل الانسان و هو شاغل قلبه عن أمر ربه؟

قال الامام الكاظم عليه السلام مخاطبا هشام:

«يا هشام كيف يزكو عند الله عملك و أنت قد شغلت قلبك عن أمر ربك، و أطعت هواك علي غلبة عقلك، و قال لقمان عليه السلام: «ان الدنيا بحر عميق قد غرق فيها عالم كثير، فلتكن سفينتك فيها تقوي الله، و حشوها الايمان، و شراعها التوكل...».

ان الكفاح الدائم و المستمر للمؤمنين الآلهيين ضد عوامل التخريب و الانحراف في المجتمع، و الأفكار المنحطة فيه، كانوا يستعينون بالمدد اللامرئي لتنفيذ برامجهم الاصلاحية و ارشاد العباد الي نهج الرشاد، و حيث كانت لأرواحهم ارتباط غير منقطع بقدرة الله الأزلية، فانهم كانوا يتابعون أهدافهم حي المرحلة النهائية بكل صراحة و موضوعية.

لكن الثقة بالنفس بدون الاتكال علي الله لا يمكن أن تنفذ روح الانسان في الأحوال الحرجة و المنهكة لقوي القلق و الاضطراب، لأن الشدائد و العوامل المعاكسة في الحياة تهزم روح الخالي من الاعتماد علي الله، و الذي لا تتجاوز بصيرته عن حدود الماديات؛ و هو بهذه الحالة لا يتمكن من أن يخطو أية خطوة في مدارج الكمال حتي لو كانت سهلة واضحة و ربما يعيقه ألم بسيط عن تحقيق هدف كبير، ان كيفية روحية المسلمين الأوائل في صدر الاسلام و بصورة خاصة الأئمة المعصومين عليه السلام تثبت لنا صحة ما نري اليه، اذ كانوا أفضل و أكمل نموذج للاعتماد علي الله و التوكل عليه.

فالذين تربوا في مدرسة أهل البيت عليهم السلام الاسلامية الأولي النشطة المعطاء،



[ صفحه 179]



لم تسيطر عليهم حالة عدم الثقة أبدا، و ذلك بسبب ارادتهم القوية و ايمانهم الأصيل، و هذه الارادة الثابتة المطمئنة هي التي فتحت لهم طريق النجاح و التقدم و الانتصار علي الباطل لقد سلكوا طريق الحق و قالوا كلمة الحق و نشروا رسالة الحق و لم تأخذهم في الله لومة لاثم حتي أحدثوا ذلك المجتمع الاسلامي الوحيد الذي لم نر نظيرا له في التاريخ.

قال الامام الكاظم عليه السلام بعد أن أمر أصحابه بقول الحق و اظهاره، و التجنب عن الباطل: «اتق الله، و قل الحق و ان كان فيه هلاكك فان فيه نجاتك، أي فلان اتق الله و دع الباطل و ان كان فيه نجاتك فان فيه هلاكك».

علي كل أحد أن يقيم موقعه في الحياة، و يعرف ان ما اختاره من طريق هل هو الي خير و سعادة أم الي شقاء و تعاسة؟ و بالتعرف علي الحاجات النفسية يستطيع أن يكافح ضد العوامل التي توجب اضطراب التوازن الروحي، و ان لا يدع تلك العوامل تجتمع و تتكاتف علي ضرر الانسان، فيقول الخير من أي موقع كان. قال الامام الكاظم عليه السلام للفضل بن يونس:

«أبلغ خيرا و قل خيرا، و لا تكن امعة» [3] .


پاورقي

[1] عن غرر الحكم ص 104.

[2] سورة فاطر، الآية: 2.

[3] الامعة: قيل أصله اني معك ليس له رأي مستقل.