بازگشت

كرمه و صدقاته


من أبرز خصائص أئمة أهل البيت عليهم السلام البر و الاحسان الي الناس كافة، و بصورة خاصة الطبقة الضعيفة، فكانوا يخصونهم بجزيل فضلهم، و نبل عطاياهم، حتي كان من منهجهم في الليالي المظلمة هو التطواف علي بيوت الفقراء و المساكين بالأغذية و المال و هم لا يعرفونهم.

قال ابن الصباغ المالكي: كان موسي الكاظم عليه السلام أعبد أهل زمانه،



[ صفحه 34]



و أعلمهم و أسخاهم كفا و أكرمهم نفسا و كان يتفقد فقراء المدينة و يحمل اليهم الدراهم و الدنانير الي بيوتهم و النفقات، و لا يعلمون من أي جهة وصلهم ذلك، و لم يعلموا بذلك الا بعد موته [1] .

و قال محمد بن عبدالله البكري: قدمت المدينة أطلب دينا فأعياني، فقلت لو ذهبت الي أبي الحسن موسي فشكوت اليه، فأتيته في ضيعته، فذكرت له قضيتي، فدخل و لم يقم الا يسيرا حتي خرج الي، فقال لغلامه: اذهب، ثم مد يده الي فرفع الي صرة فيها ثلاثمائة دينار، فركبت دابتي و انصرفت [2] .

كما رووا عن عيسي بن محمد بن مغيث القرطبي قال: زرعت بطيخا و قثاءا و قرعا في موضع بالجوانية، علي بئر يقال لها (أم عظام) فلما قرب الخير، و استوي الزرع بغتني الجراد فاتي علي الزرع كله، و كنت غرمت علي الزرع و في ثمن جملين مائة و عشرين دينارا، فبينما أنا جالس اذ طلع موسي بن جعفر بن محمد، فسلم ثم قال: أي شي ء حالك؟ فقلت: أصبحت كالصريم، بغتني الجراد فأكل زرعي.

قال عليه السلام و كم غرمت فيه؟ فقلت: مائة و عشرين دينارا مع ثمن الجملين.

فقال عليه السلام: يا عرفة زن لأبي المغيث مائة و خمسين دينارا، فربحك ثلاثون دينارا و الجملان. فقلت يا مبارك ادخل و ادع لي فيها بالبركة. فدخل و دعا، و حدثني عن رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم أنه قال: تمسكوا ببقايا المصائب؛ ثم علقت عليه الجملين و سقيت، فجعل الله فيها البركة و زكت، فبعث منها بعشرة آلاف [3] .

و قال علي بن عيسي الأربلي [4] :

«مناقب الكاظم و فضائله و معجزاته الظاهرة، و دلائله و صفاته الباهرة تشهد انه افترع قبة الشرف و علاها، و سما الي أوج المزايا فبلغ أعلاها، و ذللت له كواهل السيادة فركبها و امتطاها، و حكم في غنائم المجد فاختار صفاياها و اصطفاها.



[ صفحه 35]



طالت أصوله، فسمت الي أعلي رتب الجلال، و سمت فروعه فعلت الي حيث لا تنال، يأتيه المجد من كل أطرافه، و يكاد الشرف يقطر من أعطافه.

فكان كما قال شاعر:



أتاه المجد من هنا و هنا

و كان له كمجتمع السيول



السحاب الماطر قطرة من كرمه، و العباب الزاخر نغبة من نغبه، و اللباب الفاخر من عد من عبيده و خدمه، كأن الشعري علقت في يمينه و لا كرامة للشعري العبور، و كأن الرياض أشبهت خلائقه و لا نعمي لعين الروض الممطور.

و هو عليه السلام غرة في وجه الزمان و ما الغرر و الحجول، و هو أضوأ من الشمس و القمر، و هذا جهد من يقول: بل هو و الله أعلي مكانة من الأوصاف و أسمي، و أشرف عرفا من هذه النعوت و أنمي، فكيف تبلغ المدائح كنه مقداره، أو ترتقي همة البليغ الي نعت فخاره، أو تجري جياد الأقلام في جلباب صفاته، أو يسري خيال الأوهام في ذكر حالاته؟

كاظم الغيظ، و صائم القيظ، عنصره كريم، و مجده حادث و قديم، و هو بكل ما يوصف به زعيم، الآباء عظام، و الأبناء كرام، و الدين متين، و الحق ظاهر مبين، و الكاظم في أمر الله قوي أمين، و جوهر فضله غال ثمين و واصفه لا يكذب و لا يمين، قد تلقي راية الامامة باليمين، فسما عليه السلام الي الخيرات منقطع القرين، و أنا أحلف علي ذلك فيه و في آبائه و أبنائه عليهم السلام باليمين.

كم له من فضيلة جليلة، و منقبة بلعو شأنه كفيلة، و هي و ان بلغت الغاية بالنسبة اليه قليلة، و مهما عد من المزايا و المفاخر فهي فيهم صادقة، و في غيرهم مستحيلة. اليهم ينسب العظماء، و عنهم يأخذ العلماء، و منهم يتعلم الكرماء، و هم الهداة الي الله فبهداهم اقتده و هم الأدلاء علي الله فلا تحل عنهم و لا تنشده، و هم الأمناء علي أسرار الغيب، و هم المطهرون من الرجس و العيب، و هم النجوم الزواهر في الظلام، و هم الشموس المشرقة في الأيام، و هم الذين أوضحوا شعائر الاسلام و عرفوا الحلال من الحرام، من تلق منهم تقل لاقيت سيدا، و متي عددت منهم واحدا كان بكل الكمالات منفردا، و من قصدت منهم حمدت قصدك مقصدا،



[ صفحه 36]



و رأيت من لا يمنعه جوده اليوم أن يجود غدا، و متي عدت اليه عاد كما بدا، المائدة و الانعام يشهدان بحالهم، و المائدة و الأنعام يخبران بنوالهم، فلهم كرم الأبوة و النبوة، و هم معادن الفتوة و المروة، و السماح في طبائعهم غريزة، و المكارم لهم شنشنة و نحيزة، و الأقوال في مدحهم و ان طالت وجيزة، بحور علم لا تنزف، و أقمار عز لا تخسف و شموس مجد لا تكسف. مدح أحدهم يصدق علي الجميع و هم متعادلون في الفخار فكلهم شريف رفيع. بذوا الأمثال بطريفهم و تالدهم و لا مثيل، و نالوا النجوم بمفاخرهم و محامدهم فانقطع دون شأوهم العديل و لا عديل. فمن الذي ينتهي في السير الي أمدهم و قد سد دونه السبيل، أمن لهم يوم كيومهم أو غد كغدهم، و لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم صلي الله عليه و آله صلاة نامية الأمداد، باقية علي الآباد مدخرة ليوم المعاد، انه كريم جواد [5] .

كل ما صدر عن الأئمة المعصومين عليهم السلام من وصايا و رسائل و خطب و شعر كان في سبيل الدعوة الاسلامية و الحث علي طاعة الله تعالي و الدعوة الي التحلي بمكارم الأخلاق و التمسك بالفضائل. فكانوا عليهم السلام يعملون علي تثقيف الأمة الاسلامية و تعليمها و توعيتها، و يبذلون أقصي الجهود في تقويمها و هدايتها الي الطريق السليم.

و موضوع الشعر كان ينشد عند عامة الناس في التشبيب و اللهو و المجون، أما أهل البيت فكانوا ينظمونه في الدعوة الي الخير و العقيدة الاسلامية، و الأخلاق، و التحلي بالفضائل النبيلة. و هذه هي الفوارق التي تميزهم عن غيرهم من الشعراء الآخرين.

جاء في البحار أنه دخل عليه السلام و هو طفل علي أبيه الامام الصادق عليه السلام و بيده لوح فقال له أبوه يا بني أكتب ما سأمليه عليك:

تنح عن القبيح و لا ترده.

ثم قال: اجزه.

فقال عليه السلام: و من أوليته حسنا فزده.



[ صفحه 37]



فتابع الامام الصادق القول:

ستلقي من عدوك كل كيد.

فقال الامام الطفل عليه السلام: اذا كان العدو فلا تكده.

فقال: «ذرية بعضها من بعض» [6] .

و قال عليه السلام أيضا في أفعال العباد:



لم تخل أفعالنا التي نذم بها

احدي ثلاث حين نبديها



اما تفرد بارينا بصنعتها

فيسقط اللوم عنا حين نأتيها



أو كان يشركنا فيها فيلحقه

ما كان يلحقنا من لائم فيها



أو لم يكن لآلهي في جنايتها

ذنب فما الذنب الا ذنب جانيها [7] .



و قال عليه السلام في اللجوء الي الله:



أنت ربي اذ ظمئت الي الماء

و قوتي اذا أردت الطعاما [8] .



و الامام الكاظم لم يكن شاعرا محترفا بل كان نظمه للشعر قليلا جدا. ذكر الشيخ المفيد أبياتا له تلاها الامام الرضا عليه السلام علي المأمون و نسبها عليه السلام الي أبيه:



كن للمكاره بالعزاء مدافعا

فلعل يوما لا تري ما تكره



فلربما استتر الفتي فتنافست

فيه العيون و انه لمموه



و لربما ابتسم الوقور من الأذي

و ضميره من حره يتأوه [9] .



كان عليه السلام يعلم كل شي ء يدور حوله و لكن عيون المراقبين تترصده دائما فلم يكن له الا أن يموه ما يقول حذرا فيبتسم من الأذي المحدق به و ضميره من حره يتأوه في صدره. و ذكر ذو النون المصري أنه اجتاز أثناء سياحته علي قرية تسمي



[ صفحه 38]



بتدصر فرأي جدارا قد كتبت عليه هذه الأبيات:



أنا ابن مني و المشعرين و زمزم

و مكة و البيت العتيق المعظم



و جدي النبي المصطفي و أبي الذي

ولايته فرض علي كل مسلم



و أمي البتول المستضاء بنورها

اذا ما عددناها عديلة مريم



و سبطا رسول الله عمي و والدي

و أولاده الأطهار تسعة أنجم



متي تتعلق منهم بحبل ولاية

تفز يوم يجزي الفائزون و تنعم



أئمة هذا الخلق بعد نبيهم

فان كنت لم تعلم بذلك فاعلم



أنا العلوي الفاطمي الذي ارتمي

به الخوف و الأيام بالمرء ترتمي



فالمحت بالدار التي أنا كاتب

عليها بشعري فاقران شئت و المم



و سلم لأمر الله في كل حالة

فليس أخو الاسلام من لم يسلم



قال ذوالنون فعلمت انه علوي قد تخفي عن السلطة في خلافة هارون، و احتمل المجلسي ان تكون هذه الأبيات للامام الكاظم عليه السلام ذهب الي ذلك المكان و كتبها لاتمام الحجة علي أعدائه [10] .

و ما نراه ان الامام عليه السلام لم يتخف و لم يتهرب من السلطة في يوم من الأيام بل كان في يثرب مقيما ينكر علي هارون و علي غيره من ملوك عصره بكل جرأة و اقدام، و هذا الذي أوصل به الي السجن.


پاورقي

[1] الفصول المهمة ص 219.

[2] أعيان الشيعة ج 3 ص 42 و تاريخ بغداد ج 13، ص 28.

[3] كشف الغمة ص 243 و تاريخ بغداد ج 13، ص 29.

[4] كشف الغمة ج 2، ص 253.

[5] كشف الغمة ج 2، ص 246.

[6] البحار ج 11 ص 264 و البحار ج 11 ص 147.

[7] البحار ج 11 ص 285.

[8] تذكرة الخواص ص 196.

[9] الأمالي: ص 150.

[10] الأمالي: ص 150.