بازگشت

الامام الكاظم في حصار التكاليف


من الحاجات الفطرية للانسان حياته الاجتماعية الشريفة مع سائر أبناء أمته، و هذه من الميول الطبيعية فيه التي تقوده الي تحقيق ذاته.

و كل فرد في المجتمع يلتزم بمسؤولية خاصة و تكاليف خاصة عليه أن يقوم بأدائها علي أكمل وجه. فاذا آمن كل واحد من أفراده بمسؤولياته التي قلبها في دائرة أعماله، و لم تتجاوز نشاطاته حدود ما رسم لنفسه منها يدار المجتمع عند ذلك بصورة صحيحة و سليمة.

و الانسان العاقل الناطق قد أحاطت به قيود و قواعد و أصول قد شملت كل شؤون حياته، و هذه الحدود و القيود هي التي تميزه عن الحيوان الأعجم علي صعيد الحياة.

في حركة و سكون يجد كل منا تكليفا عليه، و التكاليف تبدأ من أبسط مراحل الحياة و تمتد حتي آخر حياته، و هذا هو النظام الذي تدار عليه حياة الانسان. و لا يمكننا في أي حال أن نفصل بني الانسان و بين تكاليفه، مهما كانت قدراته، فهناك تكليف عليه. اللهم الا الموت، الذي يأخذ بتلابيب الانسان و يطوي صحيفة أعماله.



[ صفحه 242]



و الانسان يلتزم بفطرته بمسؤوليات و قرارات، مع قطع النظر عن أحكام الأديان و أوامرها، و التكليف هذا ينشأ من علاقته بأوصافه و خصائصه و عواطفه المغروسة في نظام كيانه و وجوده، و ان كانت دوافعه الي أداء تكاليفه مختلفة أو صعبة. و بامكاننا القول:

ان القواعد العقلية العامة هي محور التكاليف، أما اطاعة الأحكام الدينية فانها ترجع الي اتباع القواعد و القرارات العقلية أيضا، لأن أحكام الأديان و أوامرها في مراحل الحياة و المسائل الاجتماعية هي تفصيلات لاجمال المدركات العقلية و معرفتها من الأمور الضرورية.

و ليست المشكلة في معرفة التكاليف، بل المشكلة الكبري هي العمل بالتكاليف الشاقة. و هنا يتميز كل انسان من الاقتراب الي مرحلة الكمال في ايمانه الراسخ و الثابت و القوي، و مراقبة نفسه مراقبة دقيقة أمام الله عزوجل و توطينها و تعويدها علي التضحية و العطاء

و المجتمع البشري و ان كان مرتعا صالحا لنمو الفضائل الانسانية و ظهورها و تكاملها، لكنه صالح أيضا لظهور كثير من الرذائل و الآفات.

و التكامل الاجتماعي يصاب بالركود و التوقف فيما اذا تجاوز كل فرد من الأفراد عن حدود وظائفه و تكاليفه، أو تناسي أو تنكر لمسؤولياته الكبري الملقاة علي عاتقه. فالنبتة المزروعة حديثا بحاجة الي عناية خاصة و مجهود خاص حتي تتطور فتصل في مراحل نموها الي كمالها اللائق بها. و المجتمع قد يثمر و يتكامل ليس بموقعه الجغرافي و أوضاعه المادية، بل بأوضاعه التربوية الخاصة و امكاناته المعنوية التي يقوم علي أساسها المجتمع الفاضل الراقي. و في هذا المجتمع الذي تسود فيه روح المعرفة بالتكاليف، ستكون الطهارة و الصدق في ضمائر القلوب، و في ادراكات العقول، و في جميع شؤون الحياة الظاهرة للعيان.

ان مجتمعا كهذا وضعه لا تنمو فيه الخيانة، و لا يظهر فيه العدوان علي حقوق الآخرين، بل لا يسمح لها المجال للنمو و الظهور، فيقف كل فرد فيه عند حدوده و أمام مفاسد أعماله فيحاسب نفسه و يمنعها من التجاوز عملا بقول الرسول الأعظم: «رحم الله امرءا عرف حده فوقف عنده» و لا نضل الطريق الا اذا تقاعسنا



[ صفحه 243]



عن القيام بتكاليفنا و خفقنا تجاه و اجبنا و مسؤولياتنا. فهناك كثير من الناس، مع ما لهم من امكانات من مختلف الجهات يحاولون الاقتصاد في الافادة من وجودهم و من طاقاتهم، و لهذا نراهم يتهربون من المسؤوليات و الأعمال التي تسلبهم بعض راحتهم و ملذاتهم كما يزعمون، فهم يعيشون لأنفسهم و لا يخصصون قسما من أوقاتهم يعود نفعها للآخرين.

هؤلاء هم أصحاب الفكر الضيق و النشاط المحدود، تدور أمورهم علي محاور شخصية محدودة، فيعتادون علي هذه الخصائص الروحية، و لهذا فلا يتمكنون من القيام بالأعمال الكبيرة، و القضايا الاجتماعية العظيمة فنراهم قد اختفوا في مجتمعهم و لم يبرزوا طاقاتهم الشخصية.

لكن هناك فئة أخري من الناس لا تتسامح أبدا بالنسبة الي مسؤولياتهم بأي حال من الأحوال، و لا يصابون بأي اضطراب أو قلق نفسي علي أثر التطورات و التغييرات؛ بل نراهم مستعدين دائما للمبادرة بتكاليفهم الواجبة، و مسؤولياتهم النافعة، فيستقبلونها بكل رحابة صدر و يقومون بكل جهودهم فيها. انهم يتصورون ان خير افادة من وجودهم القيام بمهام مثمرة و مفيدة لأمتهم مهما كانت شاقة، و علي هذا فكلما كان الانسان أكثر رشدا، و أكمل عقلا، و أبعد رؤية، كان اشتياقه الي القيام بمسؤولياته أكثر، و الي أداء تكاليفه أشد و أكبر.