بازگشت

بإرادة الانسان تعمر الأوطان


خلق الانسان حرا في أن يطيع أوامر ضميره الحي أو يعصيها، فكل واحد منا يملك نفسه و ارادته فبامكانه أن يختار الفضائل مثل:

الصدق، و الشجاعة، و الايثار، و الاحسان، و القول الحسن، و الاخلاص، و الوفاء، و الأمر بالمعروف، و النهي عن المنكر، و التواضع، و مقاومة الهوي، و المحبة، و الصفاء، و كظم الغيظ.

أو أن يختار طريق الشهوات و الرغبات و الرذائل مثل: الكبرياء، و النميمة، و الانقياد لهوي النفس، و الغضب، و الظلم، و الحسد... فكل هذه الصفات من فضائل و رذائل هي تحت ارادته و اختياره، و بامكانه أن يحلي نفسه بها بالسعي الدائم المشكور، و المحاولات المتواصلة، أو أن يختار عكس ذلك فينغمس في محيط متخلف من الشهوات الرذيلة و الميول الهوجاء، كما فعل الحكام الأمويون و العباسيون الذين غرقوا في مستنقع شهواتهم، و فجروا في ظلمهم و جورهم من أجل حب التملك و شهوة السلطان.



[ صفحه 256]



ان قوة الارادة موهبة الهية خيرة لا ينبغي أن نتركها دون الافادة منها، أو أن نصرفها في الأعمال البربرية و المنحطة، بدلا من أن نوظفها في تكاليفنا الشرعية. ان افتقاد الارادة هو ضعف في اتخاذ التصميم و القرار، و هو سد مانع للقيام بتكاليفنا.

لكن الافادة من الارادة لهداية الضمير و الوجدان من أجل الكفاح ضد الشهوات، و أهواء النفس، و الانتصار علي عبادة النفس صعب في بداية الأمر و هو بحاجة أكيدة الي روح التضحية، و لابد من مواصلة السعي الدائم لتتقوي روحية الانسان تدريجيا، و تنمو أخلاقياته الفاضلة، و عندئذ يصبح العمل بالتكليف له أمرا عاديا جدا يتحمله المكلف بيسر و سهولة.

فلو كان الشعور بالمسؤولية قويا في كيان الانسان لم تعد الموانع التي تعترضه سببا في ضعفه و انهزامه أمامها، أما اذا فشلت مساعيه و لم تثمر في مواجهة العوامل السلبية فلا أقل بأضعف الايمان من أن يحصل علي رضا ضميره و راحة نفسه، و سيكون مرفوع الرأس أمام نفسه و أمام مجتمعه و ذلك انه قدر علي تحمل خيبة الأمل و الهزيمة من أجل أداء وظيفته، و القيام بدوره الانساني و رسالته في الحياة.

و هنا أتذكر وصية هامة نصح بها أب ابنه فقال له:

يا بني: كن أنت فقيرا لا مال في يديك، و دع الآخرين يثرون أمام عينيك بالخداع و التزوير و الخيانة. عش أنت بلا جاه و لا مقام، و دع الآخرين يتسلمون المناصب العالية بالخضوع السمج و الالحاح الملح. عان أنت الآلام و الخيبة، و دع الآخرين يبلغون أمانيهم بالخضوع و التملق. أعرض أنت عن طلب الجاه و السعي وراء الزعامة، و دع الآخرين يبلغون أمانيهم بالخضوع و التملق. أعرض أنت عن معاشرة كبار الرجال ممن يتفاني الآخرون للاقتراب منهم. من الأفضل لك أن تتقمص لباس الفضيلة و التقوي. فاذا ابيض شعر رأسك و لم تلوث قطرة من سواد الفساد حسن صيتك و علي شرفك فأد حق شكر الله، و استسلم بقلب مبتهج مسرور.

يتبين لنا من خلال هذه الوصية القيمة باختصار و كأن الأب يوصي ابنه بالبعد



[ صفحه 247]



عن حكام بني مروان و بني العباس و الاقتراب من أهل البيت عليهم السلام و بعدئذ يستسلم للموت بقلب مبتهج مسرور.

و ما نراه أن الثواب و العقاب أمر ضروري في أداء التكاليف. فكما يفيد التنبيه و التوبيخ و اللوم في التقليل من المفاسد، كذلك لا مجال للجدال في أثر التقدير و الترغيب في زيادة الرغبة في العمل و النشاط في أداء التكاليف و تحمل المسؤولية. و قال أحد المفكرين الاجتماعيين:

ويل لأمة يشوق فيها الخونة و يهان فيها الخدمة ذوو الشعور بالمسؤولية و يبعدون عن المناصب الحساسة في المجتمع. أمة يبلغ فيها مقاصده من يجعل همه الخداع و المراوغة، و يصل الي مراده من لا يتمتع بأية قيمة من قيم الانسانية. أمة يكون علي من يريد أن يؤدي رسالة الانسانية فيها أن يبقي محروما مكظوما من كل شي ء. ان مثل هذا المجتمع لا يبقي فيه مجال لنمو الأخلاق و ظهور الفضيلة.

و العصر العباسي شاهد علي ذلك فالامام الكاظم عليه السلام العالم الفقيه، و التقي الورع، الذي أراد أن يؤدي رسالة الاسلام الانسانية الحقة سائرا علي خطي جده سيدالشهداء الامام الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام الذي قال: «ما خرجت أشرا و لا بطرا و انما خرجت طلبا للاصلاح في أمة جدي» و هكذا فعل الامام الكاظم فعندما أراد أداء التكاليف و القيام بالرسالة الانسانية أبعد عن منصب الخلافة و سجن و قيد بالحديد، و دس اليه السم حتي خسر بموته الاسلام عالما مجاهدا كبيرا، و مصلحا اجتماعيا عظيما.

و بديهي ان في مثل هذه البيئة التي تشبه البيئة العباسية ستتفشي الأمراض الي أعماق النفوس، كالغش و الفساد و التزوير و الرياء؛ فالأخلاق السيئة تتصدر المجتمع بدلا من النزاهة و الأخلاق الفاضلة، فقليل جدا من الاشخاص الطاهرين الاتقياء يستطيعون العيش في مثل هذه البيئات الملوثة، و أقل منهم الذين يستطيعون الاستمرار بطهارتهم و تقواهم، و يعيشون حياتهم الروحية بروح عالية و كريمة بين أناس طغاة أذلاء أنانيين سفهاء في هذه البيئة الملوثة بالضغائن و الأحقاد استمر الامام الكاظم عليه السلام مجاهدا لم يداهن و لم يساير و لم يلين، بل قاوم الطغاة و ألف الجماهير، و قام بتكاليفه مع ما لاقي من الاضطهاد و الآلام و العذاب.



[ صفحه 248]



و هنا يتجلي معني الصبر الجميل علي النوائب و الدواهي و هنا تبرز البطولات الخالدة علي صفحات التاريخ. فأين مزار هارون الرشيد و المنصور و الهادي؟؟ لقد اندثرت معالمهم، و مات ذكرهم معهم و بقي ذكر الامام الكاظم كأبيه و أجداده حيا نضرا فواحا، كلما ذكر محمد و آل محمد عليهم السلام. ان الشفاه التي ترتل اسمه عليه السلام كما ترتل آيات التنزيل، و القلوب التي تلهج بحبه، و العقول تتحرك بالاعجاب به، ليست وقفا علي المسلمين، و لا علي الفئة الأولي من تاريخ الاسلام. فهذا أمر ينطبق علي الذي يتفوق بحال من الأحوال، أما أهل البيت فهم لكل حال و لكل الأجيال، و الامام الكاظم و الأئمة جميعا باقين في الوجود منذ أن أبدع الله الخير و المجد و الكمال.

لقد ذهب الأمويون و العباسيون، و انطفأت قناديل حياتهم لأنهم كانوا محكومين بغرائز الأمرة و الاستبداد و حب المال و الضياع، أما الأئمة المعصومون فقد تمسكوا بشريعة الاسلام و أحكامه، و مبادي ء الرسول الأعظم و أخلاقه، فكان لهم مواقف ثابتة حافظوا عليها، و حقوق معلنة ماتوا دونها. قالوا كلمة الحق فلهج بها التاريخ، و وقفوا المواقف الحقة فنسخت عن صحفهم البطولات، و بقيت مشاعل صدقهم و شهادتهم كواكب مشرقة قبالة الشمس، لأنها تستوحي من نهج رسول الله، و تتوهج من نور الله.

الحقيقة ان الكل هباء، فوات، تراب، فناء، ما لم يتطلع الي سمو الحقيقة العليا، الي الله جل جلاله. فهو وحده الذي يبقي، اما الذي لا يحب البقاء في رحاب رضوان الله فهو ميت جسدا و ذكرا، و له جهنم و بئس المصير. فالموقف الموقف، و الصدق الصدق، و العدل العدل، و الحق الحق، و الصبر و كظم الغيظ، و هذه كلها من شمائل أئمتنا التي بها فضلوا علي الناس، و من أجلها استشهد الشرفاء الأتقياء. و الامام الكاظم ذلك العظيم، هزي ء بالموت فاذا به ذو عرش علي قلوب الملايين، يحتل قلوبهم، و يتملك مشاعرهم و محبتهم و حسبه انه قال للموت هازئا به: قد تجيي ء أيها الموت في كل لحظة، و ترمي بالأحياء في غيابات المجهول، و لكني لا أخافك و لا أهابك، أريد أن تموت أنت و أن أحيا أنا الي الأبد أبقي قطرة في محيط التاريخ، و اتجاوز السنين و العصور و أبقي مع الخالدين.



[ صفحه 249]



سجلت اسمي في قلب كل مؤمن، و عقلت ذكري علي صدور أصحاب المواقف الحقة، و بقيت حيا في خواطر الأبطال الذين أحبوا الحياة الحرة الكريمة.

و بعد أربعة عشر قرنا و نيف نجد أنصار أهل البيت يسطع من نفوسهم ضوء يهدي، و عطر يفوح، و صوت يهب سامعه الي نجدة الحق، الحق المسلوب في فلسطين و في جنوب لبنان و البقاع الغربي من الدولة المعتدية الغاشمة دولة الصهاينة. لكن المقاومة كانت لهم بالمرصاد حيث تلقنهم الدرس تلو الدرس كل يوم فهنيئا لكل الشهداء الشرفاء الذين ضحوا بدمائهم الطاهرة من أجل تحرير الأرض. لقد ساروا علي الخط الحسيني و قاموا بتكاليفهم الشرعية بارادة صامدة قوية، و قلب عامر بالايمان، و نفس مطمئنة.

كل ذلك في سبيل الانسانية و الحضارة الهادفة الي الطمأنينة العامة و السعادة لجميع الناس، و كلتاهما جناحان نحو الصراط المستقيم.

ان الانسان العادي في أي مجتمع يحتاج الي تربية فردية صالحة في مجتمع اسلامي صالح يستند اليه، و هو بحاجة بلا ريب الي نماذج بشرية صالحة تعرفه بأمثولة السلوك الصالح في حياته و تكون له قدرة تنير له الطريق الي المثل العليا.

و هنا لابد لنا من التحدث عن دور الايمان في الشعور بالمسؤولية.