بازگشت

سمو شخصية الامام


كان الامام عليه السلام كما هو معروف من قبل علماء عصره، من ألمع الشخصيات الاسلامية، فهو امام معصوم ابن امام معصوم، و أحد أوصياء الرسول صلي الله عليه و اله و سلم علي أمته. و قد أجمع المسلمون علي اختلاف مذاهبهم علي اكبار الامام و تقديره. فكلهم نهلوا من علومه و أخلاقه، و كلهم تمثلوا بتقواه و ورعه و كلهم أحبوه لسخائه و كرمه. حتي ان أعداءه كانوا يحترمونه و يبجلونه، و هارون الرشيد نفسه يبجله و يعتقد ضميريا بأن الامام عليه السلام أولي بالخلافة الاسلامية منه، كما حدث بذلك لابنه المأمون.

فقد قال لندمائه: أتدرون من علمني التشيع؟

فانبروا جميعا قائلين: لا و الله ما نعلم.. فقال: علمني ذلك الرشيد.

فقالوا: كيف ذلك؟ و الرشيد كان يقتل أهل هذا البيت؟!

قال: كان يقتلهم علي الملك لأن الملك عقيم، ثم أخذ يحدثهم عن ذلك قائلا: لقد حججت معه سنة فلما انتهي الي المدينة قال: لا يدخل علي رجل من أهلها أو من المكيين سواء كانوا من أبناء المهاجرين و الأنصار أو من بني هاشم حتي يعرفني بنسبه و أسرته، فأقبلت اليه الوفود تتري و هي تعرف الحاجب بأنسابها، فيأذن لها، و كان يمنحها العطاء حسب مكانتها و منزلتها، و في ذات يوم أقبل الفضل بن الربيع حاجبه يقول له: رجل علي الباب، زعم أنه موسي بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام.

فلما سمع هارون بهذا الاسم الشريف أمر جلساءه بالوقار و الهدوء، ثم قال لرئيس تشريفاته: ائذن له، و لا ينزل الا علي بساطي.

و أقبل الامام عليه السلام و قد وصفه المأمون فقال: انه شيخ أنهكته العبادة،



[ صفحه 260]



و السجود يكلم وجهه. أما هارون فقام و لم يقبل الا أن ينزل الامام عن دابته علي بساطه، و نظر اليه بكل اجلال و اعظام فقبل وجهه و عينيه، و أخذ بيده حتي صيره في صدر مجلسه و الحجاب و كبار القوم محدقون به. ثم أقبل يسأله عن أحواله و يحدثه. ثم قال له:

- يا أباالحسن ما عليك من العيال؟ قال الامام: يزيدون علي الخمسمائة.

- أولاد كلهم؟ قال الامام عليه السلام: لا، أكثرهم موالي و حشمي فأما الأولاد فلي نيف و ثلاثون. ثم بين له عدد الذكور و الاناث.

- لم لا تزوج النسوة من بني عمومتهن؟ قال الامام: اليد تقصر عن ذلك.

- فما حال الضيعة؟ قال الامام: تعطي في وقت و تمنع في آخر.

- فهل عليك دين؟ قال الامام عليه السلام: نعم.

- كم؟ قال الامام عليه السلام: نحو من عشرة آلاف دينار.

- يا ابن العم، أنا أعطيك من المال، ما تزوج به أولادك، و تعمر به الضياع.

- قال الامام عليه السلام: وصلتك رحم يابن العم، و شكر الله لك هذه النية الجميلة، و الرحم ماسة واشجة، و النسب واحد، و العباس عم النبي صلي الله عليه و اله و سلم و صنو أبيه، و عم علي بن أبي طالب و صنو أبيه، و ما أبعدك الله من أن تفعل ذلك و قد بسط يدك، و أكرم عنصرك، و أعلي محتدك.

- أفعل ذلك يا أباالحسن، و كرامة.

فقال له الامام عليه السلام: ان الله عزوجل قد فرض علي ولاة العهد أن ينعشوا فقراء الأمة، و يقضوا علي الغارمين، و يؤدوا عن المثقل و يكسوا العاري، و أنت أولي من يفعل ذلك.

- أفعل ذلك يا أباالحسن.

فانصرف الامام عليه السلام و قام هارون فودعه و قبل وجهه و عينيه، ثم التفت الي أولاده فقال لهم: قوموا بين يدي عمكم و سيدكم، و خذوا بركابه و سووا عليه



[ صفحه 261]



ثيابه، و شيعوه الي منزله، فانطلقوا مع الامام بخدمته و أسر الامام عليه السلام الي المأمون فبشره بالخلافة و أوصاه بالاحسان الي ولده، و لما انتهوا من خدمة الامام عليه السلام و ايصاله الي داره. قال المأمون كنت أجرأ ولد أبي عليه، فلما خلا المجلس قلت له:

«يا أميرالمؤمنين، من هذا الرجل الذي عظمته و قمت من مجلسك اليه فاستقبلته و أقعدته في صدر مجلس، و جلست دونه ثم أمرتنا بأخذ الركاب له»؟

قال هارون: هذا امام الناس، و حجة الله علي خلقه، و خليفته علي عباده.

قال المأمون: يا أميرالمؤمنين أوليست هذه الصفات كلها لك و فيك؟

قال هارون: أنا امام الجماعة في الظاهر بالغلبة و القهر، و موسي بن جعفر امام الحق، و الله يا بني: انه لأحق بمقام رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم مني و من الخلق جميعا، و والله لو نازعتني أنت هذا الأمر لأخذت الذي فيه عينيك فان الملك عقيم.

فيا سبحان الله عرف الحق و نطق به، ثم انحرف عنه حبا بالتملك و السلطان.

اهتم هارون بدنياه و نسي أو تناسي اليوم الآخر، يوم لا ينفع لا مال و لا ولد و لا سلطان!!

بقي هارون في يثرب عدة أيام، و لما أزمع علي الرحيل منها أمر للامام بصلة ضئيلة جدا قدرها مائتا دينار، و أوصي الفضل بن الربيع أن يعتذر له عند الامام. فانبري اليه ولده المأمون مستغربا من قلة صلته مع كثرة تعظيمه و تقديره الزائد له قائلا:

«يا أميرالمؤمنين تعطي أبناء المهاجرين و الأنصار، و سائر قريش و بني هاشم، و من لا يعرف نسبه خمسة آلاف دينار، و تعطي الامام موسي بن جعفر و قد عظمته و أجللته مائتي دينار و هي أخس عطية أعطيتها أحدا من الناس؟ فغضب هارون و صاح علي ابنه قائلا: «اسكت، لا أم لك، فاني لو أعطيت هذا ما ضمنته له ما كنت آمنه أن يضرب وجهي بمائة ألف سيف من شيعته و مواليه، و فقر هذا و أهل بيته أسلم لي و لكم من بسط أيديهم» [1] .



[ صفحه 262]



يتوضح من خلال هذه الرواية و غيرها اعتقاد هارون بامامة موسي عليه السلام و أنه خليفة الله في أرضه، و حجته علي عباده، و ان الخلافة الاسلامية من حقوقه الخاصة، و هو أولي بها منه، لكن الذي حدث عكس ذلك لأن حب الدنيا و زهوة السلطان هو الذي سلبها منه و من آبائه من قبله. فالملك عقيم، كما كشف هارون عن نفسه في حديثه مع ابنه المأمون، السبب الأساسي في حرمانه الامام الكاظم عليه السلام من عطائه حسب منزلته. عقدة الخوف تطارده دائما، و هي انتفاضة الامام و خروجه عليه ان تحسنت أحواله الاقتصادية.

و هذا هو الحرب الذي تستعمله الدول المستعمرة مع خصومها اليوم من أجل انهاكها و اضعافها. لكن الليل سوف يزول مهما تأخر طلوع الصباح.

كان الرشيد يعلم بمكانة الامام الاجتماعية، و كفاءته العلمية، و محبة الناس له، و تقديرهم لمواهبه، و هو نفسه يعتقد ان الامام وارث علوم الأنبياء، و خليفة الله الحق علي عباده، فكان يسأله دائما عما يجري من الأحداث، و الامام عليه السلام لم يبخل عليه بأي جواب.

و قد سأله عن الأمين و المأمون، فأخبره بما يقع بينهما، فحز ذلك في نفسه، و تألم كثيرا.

روي الأصمعي قال: دخلت علي الرشيد، و كنت قد غبت عنه بالبصرة حولا، فسلمت عليه بالخلافة، فأومأ لي بالجلوس قريبا منه فجلست، ثم نهضت، فأومأ لي ثانية أن أجلس فجلست حتي خف الناس، ثم قال لي: «يا أصمعي ألا تحب أن تري محمدا و عبدالله ابني؟».

قلت: «بلي يا أميرالمؤمنين، اني لأحب ذلك، و ما أردت القصد الا اليهما لأسلم عليهما».

أمر الرشيد باحضارهما، فأقبلا حتي وقفا علي أبيهما، و سلما عليه بالخلافة، فأومأ لهما بالجلوس، فجلس محمد عن يمينه، و عبدالله عن يساره ثم أمرني بمطارحتهما الأدب، فكنت لا ألقي عليهما شيئا في فنون الأدب الا أجابا فيه، و أصابا، فقال الرشيد: كيف تري أدبهما؟



[ صفحه 263]



- يا أميرالمؤمنين ما رأيت مثلهما في ذكائهما، وجودة فهمهما، أطال الله بقاءهما و رزق الله الأمة من رأفتهما و عطفهما.

فأخذهما الرشيد و ضمهما الي صدره، و سبقته عبرته فبكي حتي انحدرت دموعه علي لحيته، ثم أذن لهما في القيام فنهضا، و قال:

«يا أصمعي كيف فهما اذا ظهر تعاديهما، و بدا تباغضهما، و وقع بأسهما بينهما، حتي تسفك الدماء، و يود كثير من الأحياء أنهما كانا موتي» فبهر الأصمعي من ذلك و قال له:

«يا أميرالمؤمنين هذا شي ء قضي به المنجمون عند مولدهما، أو شي ء أثرته العلماء في أمرهما!!».

فقال الرشيد بلهجة الواثق بما يقول:

«لا، بل شي ء أثرته العلماء عن الأوصياء عن الأنبياء في أمرهما..».

قال المأمون: كان الرشيد قد سمع جميع ما يجري بيننا من موسي بن جعفر [2] .

ان علم الرشيد بسمو منزلة الامام، و بما تذهب اليه جموع المسلمين من القول بامامته هو الذي أثار غضبه، و زاد في أحقاده عليه، مما دعاه الي زجه في السجن أعواما طويلة.

كان الحقد علي العلويين عامة و الامام موسي عليه السلام خاصة من مقومات ذات الرشيد، و من أبرز صفاته النفسية، و كان يحمل حقدا لكل شخصية مرموقة لها المكانة العليا في مجتمعه، و لم يرق له بأي حال أن يسمع الناس يتحدثون عن أي شخص يتمتع بمكانة عليا، محاولا احتكار الذكر الحسن لنفسه و لذاته؛ لكن الليل لا يستطيع منع الفجر من الطلوع، فالفجر يطلع و الشمس تسطع بنورها الكاشف، و الجمهور يميز بين الظلام و النور.


پاورقي

[1] البحار ج 11 ص 272 - 270.

[2] حياة الحيوان للدميري ج 1 ص 77.