بازگشت

صلابة موقف الامام


كان صلحاء الأمة يقاومون الظلم في كل عهوده و في كل ألوانه، لأن ذلك



[ صفحه 264]



واجب شرعي أوصي عليه الله عزوجل في كتابه، و أوصي عليه الرسول صلي الله عليه و اله و سلم في أحاديثه الشريفة، و قاومه الأئمة عليهم السلام كل واحد منهم حسب الظرف المناسب له. قال تعالي: (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا و ان الله علي نصرهم لقدير) [1] .

و الامام موسي الكاظم ابن أبيه و أجداده عليهم السلام كان موقفه مع هارون الرشيد الطاغية الظالم موقفا سلبيا، تمثلت فيه صلابة الحق و صرامة العدل.

فقد حرم علي شيعته التعاون مع السلطة الحاكمة بأي وجه من الوجوه.

من ذلك ما قاله لصاحبه صفوان و كان صاحب جمال يكريها لهارون أيام حج بيت الله الحرام، أفهمه ان التعامل مع الظالمين حرام، فاضطر صفوان لبيع جماله، فعرف هارون، مما دفعه الي الحقد علي صفوان و هم بقتله.

و كذلك منع الامام عليه السلام زياد بن أبي سلمة من وظيفته في بلاط هارون عملا بقول الرسول الأكرم صلي الله عليه و اله و سلم، عن أبيه الصادق عن أبيه، عن جابر بن عبدالله الأنصاري قال: «قال رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم: من أرضي سلطانا بسخط الله خرج من دين الله» [2] .

لقد شاعت في الأوساط الاسلامية فتوي الامام الكاظم بحرمة الولاية من قبل هارون الطاغية و أضرابه من الحكام الظالمين، فأوغر ذلك قلب هارون و ساءه الي أبعد الحدود، فترقب له ساعة الوقوع به.

و نوجز القول: ان موقف الامام مع هارون كان موقفا صريحا واضحا، لم يصانع و لم يتسامح معه علي الاطلاق.

فقد دخل عليه في بعض قصوره الأنيقة و الفريدة في جمالها في بغداد، فانبري اليه هارون و قد أسكرته نشوة الحكم قائلا:

ما هذه الدار؟ فأجابه الامام عليه السلام غير مكترث بسلطانه و جبروته قائلا: «هذه دار الفاسقين» قال الله تعالي في كتابه العزيز:



[ صفحه 265]



(سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق و ان يروا كل آية لا يؤمنوا بها و ان يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا و ان يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا و كانوا عنها غافلين) [3] .

لما سمع هارون هذا الكلام سرت الرعدة في جسمه، و امتلأ قلبه غيظا فقال للامام: دار من هي؟

- هي لشيعتنا فترة، و لغيرهم فتنة.

ذلك ان المؤمن كل ما يملك هو وكيل عليه يملكه فترة و يتركه لغيره هو زاهد في الدنيا، و الشيعة هم كذلك و علي رأسهم أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الذي لقب (بأبي تراب) و خاطب الدنيا قائلا «فقد طلقتك ثلاثا فلا رجعة لك عندي».

- ثم سأله هارون: ما بال صاحب الدار لا يأخذها؟

- أجابه الامام: أخذت منه عامرة، و لا يأخذها الا معمورة.

- أين شيعتك؟

- فتلا الامام قول الله عزوجل: (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب و المشركين منفكين حتي تأتيهم البينة) [4] .

فثار هارون ثورة عارمة و قال بصوت يقطر غضبا:

- أنحن كفار؟

- لا، و لكن كما قال الله تعالي: (ألم تر الي الذين بدلوا نعمة الله كفرا و أحلوا قومهم دار البوار) [5] .

فغضب هارون و أغلظ علي الامام عليه السلام في كلامه [6] .



[ صفحه 266]



من الواضح و المعروف مسبقا ان موقف الامام عليه السلام مع هارون موقف واضح و صريح لا يقبل الرد و لا يقبل المهادنة، لأن هارون مغتصب لمنصب الخلافة التي هي من حق علي بن أبي طالب و الأئمة المعصومين من بعده. فالعباسيون اختلسوا السلطة، و خانوا الأمانة و العهد لقد استلموا السلطة باسم العلويين، و تبنوا شعارهم، و لما جلسوا علي كرسي الحكم خانوا العهد، و اشتروا به و بأيمانهم ثمنا قليلا.

قال تعالي: (ان الذين يشترون بعهد الله و ايمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة و لا يكلمهم الله و لا ينظر اليهم يوم القيامة و لا يزكيهم و لهم عذاب أليم) [7] .

هذه هي أهم الأسباب التي دعت هارون الرشيد الي اعتقال الامام عليه السلام.

و أيضا: قال الفضل بن الربيع: حج هارون الرشيد و ابتدأ بالطواف، و منعت ال عامة من ذلك لينفرد وحده، فبينما هو في ذلك اذ ابتدر اعرابي و جعل يطوف معه.

فقال الحاجب: تنح يا هذا عن وجه الخليفة: فانتهره الأعرابي و قال: ان الله يساوي بين الناس في هذا الموضع فقال: (سواء العاكف فيه و الباد) [8] .

فأمر الحاجب بالكف عنه.

و لما فرغ الأعرابي من صلاته استدعاه الحاجب و قال له: أجب أميرالمؤمنين

فقال الأعرابي: ما لي اليه حاجة فأقوم اليه، بل ان كانت الحاجة له فهو بالقيام الي أولي. قال: صدق.

فمشي اليه هارون و سلم عليه، فرد عليه السلام، فقال هارون: اجلس يا اعرابي. فقال الأعرابي:

ما الموضع لي فتستأذني فيه بالجلوس، و انما هو بيت الله نصبه لعباده، فان أحببت فاجلس، و ان احببت ان تنصرف فانصرف.



[ صفحه 267]



فجلس هارون و قال: ويحك يا اعرابي مثلك من يزاحم الملوك؟!

قال: نعم، و في مستمع. قال هارون: فاني سائلك، فان عجزت آذيتك.

قال الأعرابي: سؤالك هذا سؤال متعلم، أو سؤال متعنت؟

قال هارون: بل سؤال متعلم.

قال الأعرابي: اجلس مكان السائل من المسؤول و سل، و أنت مسؤول.

فقال هارون: ما فرضك؟

قال الأعرابي: ان الفرض رحمك الله واحد، و خمس، و سبع عشرة، و أربع و ثلاثون، و أربع و تسعون، و مائة و ثلاث و خمسون علي سبع عشرة، و من اثني عشر واحد، و من أربعين واحد، و من مائتين خمس، و من الدهر كله واحد، و واحد بواحد.

فضحك الرشيد و قال: ويحك أسألك عن فرضك و أنت تعد علي الحساب؟!.

قال الأعرابي: أما عملت أن الدين كله حساب، ولو لم يكن الدين كله حساب لما اتخذ الله الخلائق حسابا، ثم قرأ: (و نضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا و ان كان مثقال حبة من خردل أتينا بها و كفي بنا حاسبين) [9] .

قال: هارون: فبين لي ما قلت و الا أمرت بقتلك بين الصفا و المروة؟ فقال الحاجب: تهبه لله و لهذا المقام.

فضحك الأعرابي من قوله. فقال هارون: مما تضحك يا اعرابي؟

قال: تعجبا منكما، اذ لا أدري من الأجهل منكما، الذي يستوهب أجلا قد حضر، أو الذي استعجل أجلا لم يحضر؟.

فقال هارون: فسر لنا ما قلت.

قال الأعرابي: أما قولي الفرض واحد فدين الاسلام كله واحد، و عليه خمس صلوات، و هي سبعة عشر ركعة، و أربع و ثلاثون سجدة، و أربع و تسعون



[ صفحه 268]



تكبيرة، و مائة و ثلاث و خمسون تسبيحة، و أما قولي من اثني عشر واحد: فشهر رمضان من اثني عشر شهر، و اما قولي من الأربعين واحد: فمن ملك أربعين دينارا أوجب الله عليه دينارا، و أما قولي من مائتي خمسة: فمن ملك مائتي درهم أوجب الله عليه خمسة دراهم.

و أما قولي فمن الدهر كله واحد: فحجة الاسلام، و أما قولي واحد بواحد: فمن أهرق دما من غير حق، وجب اهراق دمه، قال الله تعالي: (و كتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس و العين بالعين و الانف بالأنف و الاذن بالاذن، و السن بالسن و الجروح قصاص..) [10] .

فقال الرشيد: لله درك، و أعطاه بدرة.

فقال الأعرابي: فبم استوجبت منك هذه البدرة يا هارون، بالكلام أم بالمسألة؟

قال هارون: بالكلام.

قال الأعرابي: فاني أسألك عن مسألة، فان أتيت بها كانت البدرة لك، تصدق بها في هذا الموضع الشريف، و ان لم تجبني عنها أضفت الي البدرة بدرة أخري لأتصدق بها علي فقراء الحي من قومي.

فأمر هارون بايراد أخري و قال: سل عما بدا لك.

فقال الأعرابي: أخبرني عن الخنفساء تزق أم ترضع ولدها؟

فغضب هارون و قال: ويحك من يسأل عن هذه المسألة؟!

فقال الأعرابي: سمعت ممن سمع من رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم يقول:

من ولي أقواما وهب له من العقل كعقولهم، و أنت امام هذه الأمة يجب أن لا تسأل عن شي ء من أمر دينك و من الفرائض، الا أجبت عنها، فهل عندك جواب؟.

قال هارون: رحمك الله لا، فبين لي ما قلته و خذ البدرتين.

فقال الأعرابي: ان الله تعالي لما خلق الأرض خلق ديابات الأرض التي من



[ صفحه 269]



غير فرث و لا دم، خلقها من التراب، و جعل رزقها و عيشها منه، فاذا فارق الجنين امه لم تزقه و لم ترضعه و كان عيشها من التراب. فقال هارون: و الله ما ابتلي أحد بمثل هذه المسألة، و أخذ الأعرابي البدرتين و خرج، فتبعه الناس و سألوا عن اسمه، فاذا هو موسي بن جعفر عليه السلام، فاخبر هارون بذلك فقال:

و الله لقد كان ينبغي أن تكون هذه الورقة من تلك الشجرة.

و لكن هل سمح لهذه الشجرة أن تنمو و تعطي و تثمر ثمرا طيبا يتغذي منه جميع الناس؟!

لم يكتف الحكام العباسيون بتقمصهم الخلافة، مستأثرين بها علي أهل البيت عليه السلام، حتي أخذوا يتبعونهم سجنا و قتلا و تشريدا. أهل العلم و الحكمة و الأخلاق باتوا قابعين في بيوتهم ليس لهم أمر و لا نهي؟ رحمك الله يا أبافراس حيث تقول:



بنوعلي رعايا في ديارهم

و الأمر تملكه النسوان و الخدم!



لم يعبأ الأئمة عليهم السلام بهذه الشدة و الظلامة التي قوبلوا بها، بل استمروا علي تبليغ رسالتهم في اعلاء كلمة الله، و نشر المفاهيم الاسلامية، و محاربة التيارات الفكرية الفاسدة و الملحدة، فقد نوروا الدينا بعلومهم و معارفهم من أجل رفع راية الاسلام في العالم.

و لا عجب ان كانوا كذلك، فهم أحق من غيرهم، لا بل هم المكلفون بعد الرسول الأكرم صلي الله عليه و اله و سلم بالمحافظة علي السنن و الشرائع المحمدية و نشر الاسلام، اسلام المحبة و العدالة و الحرية و الأخلاق.


پاورقي

[1] سورة الحج، الآية: 39.

[2] الكافي ج 2 ص 373.

[3] سورة الأعراف، الآية: 146.

[4] سورة البينة، الآية: 1.

[5] سورة ابراهيم، الآية: 28.

[6] البحار ج 11، ص 279.

[7] آل عمران، الآية: 77، لا خلاق لهم: ليس لهم نصيب من الخير.

[8] سورة الحج، الآية 25.

[9] سورة الانبياء، الآية 47.

[10] سورة المائدة، الآية 45.