بازگشت

تمهيد


بسم الله الرحمن الرحيم

مهما تحلي الباحث باطلاع واسع في علم النفس، و مهما أوتي من براعة في علم الاجتماع يسمح له تحليل الواقع النفسي، و اعطاء صورة حية عن تركيب الشخصية الانسانية و عناصر سلوكها و امكاناتها، فانه مهما بلغ من التفوق في هذا المجال فلا يستطيع أن أن يلم الماما شاملا بواقع أئمة أهل البيت عليهم السلام، و يكشف عن جوهر حياتهم، و أبعاد نزعاتهم، بما لهم من ظواهر ذاتية و ابداعات فردية.

و الواقع أن ما أثر عنهم من صفات مميزة، و نزعات فذة في سلوكهم الشخصي و الاجتماعي يجعلهم في أعلي مراتب الانسانية. و هذه الظاهرة تجدها متمثلة في سلوكهم النبيل الذي بلغوا به أعلي درجات الانسانية هذه الظاهرة من نزعات الامام موسي عليه السلام و هي الصبر علي المحن و الخطوب المبرحة و المستمرة التي لاقاها من طغاة عصره، فقد أمعنوا في اضطهاده و التنكيل به، فاعتقله هارون الرشيد وزجه في ظلمات السجون زمنا طويلا، ثم حجبه عن جميع الناس و لم يسمح لأحد بمقابلته، و مع هذا كله، لم يأثر عنه أنه أبدي أي تذمر أو سأم أو شكوي، و انما حسب ذلك من ضروب النعم التي تستحق الشكر لله لتفرغه لعبادته، و انقطاعه لطاعته، فكان و هو في السجن يقضي نهاره صائما، و ليله قائما. و هو جذلان بهذه المناجاة، و بهذا الاتصال الروحي بالله العزيز الرحيم و هذا ما أجمع عليه المترجمون فقالوا انه كان من أعظم الناس عبادة، و أكثرهم طاعة لله، حتي أصبح له ثفنات كثفنات البعير من كثرة السجود، كما كانت لجده الامام السجاد من



[ صفحه 14]



قبل فلقب بذي الثفنات، و قد أدلي الفضل بن الربيع بحديث له عن عبادته عليه السلام حينما كان سجينا في داره.

فماذا نستطيع تعليل هذا الصبر؟ لم يكن سوي الايمان العميق بالله تعالي، و التجرد من هذه الدنيا الفانية، و الاقبال علي الدار الآخرة. حتي أن هارون الظالم بهر بما رآه من تقوي الامام و كثرة عبادته، و تحمله هذه الخطوب الثقلية بصبر و هدوء. فقال متعجبا:

«انه من رهبان بني هاشم»!!

و لما كان مسجونا عليه السلام في بيت السندي بن شاهك و كل أوقاته عبادة و سجود، كانت عائلة السندي تطل عليه فتري هذه السيرة الزكية التي تحاكي سيرة الأنبياء، مما دفع شقيقة السندي الي اعتناق فكرة الامامة، و حفيد السندي من أعلام الشيعة في عصره انها سيرة نبوية عريقة تملك القلوب و المشاعر، مترعة بجميع معاني النبل و الزهد و السمو و الاقبال علي الله تعالي.

و هناك صفة أخري من صفات شخصيته الكريمة، و هي الصمود في وجه الظلم و الطغيان، و انطلاقه في ميادين الجهاد المقدس؛ فقد حمل لواء المعارضة علي حكام عصره الطغاة الذين استباحوا جميع حرمات الله، و استبدوا بأرزاق الأمة و حقوقها الشرعية، و استهابوا بكرامة الاسلام، فبنوا حكمهم علي الظلم و الجور و الاستبداد و ارغام الناس علي ما يكرهون.. و من ثم كانت محنة أهل البيت عليهم السلام الشاقة جدا فانهم بحكم موقعهم و دورهم القيادي الشرعي للأمة مسؤولون عن رعايتها و صيانتها و انقاذها مما ألم بها من المحن الثقيلة، و الخطوب الجسام، فأعلنوا معارضتهم الايجابية تارة، و السلبية أخري السياسية ملوك عصرهم، فذاقوا من جراء ذلك جميع ألوان الظلم و القهر و الاضطهاد، حتي انتهت حياتهم الكريمة ما بين مسموم و مسجون و مقتول، كل ذلك من أجل مصلحة المسلمين و اصلاح أمة جدهم الرسول الأكرم صلي الله عليه و اله و سلم، و الانطلاق بالحكام الي سياسة العدل الخالص، و تطبيق أحكام القرآن الكريم علي واقع الحياة.

و قد تجلي ذلك الصمود الفذ عند الامام موسي بن جعفر عليه السلام باصراره البالغ علي شجب سياسة هارون الرشيد، و عدم الاعتراف بشرعية خلافته، فأصر



[ صفحه 15]



علي هذا الموقف الشريف حتي لفظ أنفاسه الأخيرة في السجن، فلم يصانع، و لم يدار أحدا منهم، ولو سايرهم لأغدقوا عليه الأموال الطائلة ليسكتوا صوت الحق في صدره؛ لكنه آثر رضي الله و طاعته علي كل شي ء، و أبي الا أن يساير موكب الحق، و لا يشذ عما جاء به الاسلام من مقارعة الظلم، و مقاومة أئمة الجور و الطغيان مهما كلف الثمن.

و قد حاول يحيي البرمكي (رئيس حكومة هارون) أن يتوسط في أمر اطلاق سراح الامام من السجن، شرط أن يعتذر لهارون و يطلب منه العفو حتي يخلي سبيله، فأصر الامام عليه السلام علي الامتناع و عدم الاستجابة له.

هذا ما تميز به موقف الامام عليه السلام بالشدة و الصمود مع هارون و غيره من ملوك عصره، و هو موقف أبيه و جده من قبله الأئمة المعصومين الذين عبر عن موقفهم سيدالشهداء الامام الحسين عليه السلام فقال:

«اني لم أخرج أشرا و لا بطرا، و انما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي».

و هناك ظاهرة أخري من ظواهر شخصيته الكريمة، و هي السخاء فقد اتفق المؤرخون أنه كان أندي الناس كفا، يشعر مع المحتاجين، و يعطي المعوزين، و يصل المحرومين في غلس الليل البهيم، حتي لا يعرفه أحد، و يكون عطاؤه في سبيل الله، و كانت تضرب بصرره المثل.

فكان الناس يقولون: «عجبا لمن جاءته صرار موسي و هو يشتكي الفقر» أنفق جميع ما يملكه علي الضعفاء و المنكوبين، و أنقذ الكثيرين منهم من مرارة الفقر و الحرمان.

و الامام الكاظم عليه السلام دائرة معارف كاملة، فقد أجمع الرواة انه كان يملك طاقات هائلة من العلم، و مخزونا فكريا غنيا جدا بمختلف المعارف. يقصده العلماء و الرواة من كل حدب و صوب لينهلوا من نمير علمه، و كان لا يفتي بحادثة الا بادروا تسجيلها و تدوينها، فرووا عنه مختلف العلوم و الأبحاث، و بصورة خاصة فيما يتعلق بالتشريع الاسلامي.

«فقد زودهم بطاقات ندية منه، و يعتبر في هذا المجال أول من فتق باب الحلال و الحرام من أئمة أهل البيت عليهم السلام» [1] .



[ صفحه 16]



و ما يجدر ذكره ما قام به الامام الكاظم عليه السلام بعد أبيه الامام الصادق عليه السلام من ادارة شؤون جامعته العلمية التي تعتبر أول مؤسسة ثقافية في الاسلام، و أول معهد تخرجت منه كوكبة من كبار العلماء، في طليعتهم أئمة المذاهب الاسلامية. فالامام الشافعي يعتقد أن حبهم و سلوك منهجهم العدل.. و هم حبل الله المتين الذي ينير الطريق للمتمسك بهم الي رضوان الله عزوجل و هو يرجو أن يظفره حبهم فقال:



آل النبي ذريعتي

و هم اليه وسيلتي



أرجو بهم أعطي غدا

بيدي اليمين صحيفتي



و الامام أحمد بن حنبل سأله عبدالله ابنه عن التفضيل بين الخلفاء الراشدين فقال: أبوبكر، و عمر، و عثمان، ثم سكت. فسأله عبدالله: يا أبت!! أين علي بن أبي طالب؟ قال: «هو من أهل البيت لا يقاس به هؤلاء» [2] .

أما عن فلسفة الحكم عند الأمويين و عند العباسيين فكانت تهدف الي الأثرة و الاستغلال و اشباع الرغبات في الجاه و السلطان، و لم يؤثر عنهم أنهم قاموا بعمل ايجابي في صالح المجتمع الاسلامي، أو ساهموا في بناء الحركة الفكرية و الاجتماعية علي ضوء ما يهدف اليه الاسلام في بعث التطور الثقافي و الاداري و الاقتصادي لجميع شعوب الأرض. ففي هذا الجو السياسي و الاجتماعي الصعب تميز موقف الامام موسي بن جعفر عليه السلام بالشدة و الصرامة في شجب الظلم، و قول كلمة الحق، فكان من الأئمة اللامعين في علمه و عمله علي نشر الثقافة الاسلامية، و ابراز الواقع علي حقيقته.

يضاف الي قدراته الفذة التي لا تحصي: حلمه و علمه و كظمه الغيظ و قد أجمع المؤرخون أنه كان يقابل الاساءة بالاحسان، و الذنب بالعفو، شأنه شأن جده الرسول الأكرم صلي الله عليه و اله و سلم و قد قابل جميع ما لاقاه من أذي و ظلم من الحاقدين عليه بالصبر و الصفح الجميع حتي لقب بالكاظم، و كان ذلك من أشهر ألقابه.

و هكذا اذا استعرضنا مقومات الامام عليه السلام الفذة و كل ما أثر عنه في ميادين السلوك و الأخلاق، فانا نجده حافلا بكل معاني الانسانية، و مقومات بناء الأمة الاسلامية، التي عسي أن ألم ببعض جوانبها المشرقة و الخيرة و المعطاء.



[ صفحه 17]




پاورقي

[1] الفقه الاسلامي في مدخل نظام المعاملات ص 160.

[2] ينابيع المودة ج 2 / 78.