مع المنصور
اصاب العلويون ألوانا من شتي المحن في العهدين الأموي و العباسي و محنتهم في عهد المنصور كانت من أقسي المحن و أفجعها، فقد أذاقهم جميع أنواع العنف و الجور و العذاب، فحاول عدة مرات ابادة شبابهم و شيوخهم، و كان ما حل بهم من التنكيل مع الحكام العباسيين و خاصة المنصور، أضعاف ما واجهوه أيام الحكم الأموي حتي قيل في ذلك:
يا ليت جور بني أمية دام لنا
و ليت عدل بني العباس في النار
لقد واجهوا أعنف الخطوب و أقسي الرزايا من أجل تحرير المجتمع الاسلامي و انقاذه من الجور و الظلم و الاستبداد.
لم يضعفوا أمام هذا الطاغية و أمام غيره من الحكام الظالمين، بل اندفعوا بكل فخر و اعتزاز الي ساحات الجهاد، و ناضلوا في سبيل اعلاء كلمة الله حتي استهشدوا أحرارا كراما مشجعين الأحرار و المناضلين في عصرهم و في كل عصر علي متابعة طريق النضال، فاتحين لهم أبواب الكفاح، راسمين لهم طريق الخلاص من حكم الذل و العبودية.
و سوف نذكر حادثة أليمة من حوادث جسام كثيرة فعلها المنصور مع العلويين. لقد زجهم في سجن مظلم لا يعرف فيه الليل من النهار، حتي باتوا لا
[ صفحه 88]
يعرفون وقت الصلاة، فجزأوا القرآن الكريم خسمة أجزاء فكانوا يصلون الصلاة علي فراغ كل واحد منهم لجزئه [1] أمر الطاغية باحضار محمد بن ابراهيم و كان آية في بهاء وجهه و جماله و لما حضر عند المنصور التفت اليه بسخرية قائلا:
أنت المسمي بالديباج الأصفر؟ فقال: نعم.
أما والله لاقتلنك قتلة ما قتلتها أحدا من أهل بيتك.
ثم أمر باسطوانة مبنية ففرغت، و أدخل فيها، فبنيت عليه و هو حي [2] و بقي العلويون في سجن المنصور و هم يعانون أهوالا من الخطوب و المصائب، حتي مرضوا و مات أكثرهم، ثم أمر الطاغية بهدم السجن علي من بقي منهم، فهدم عليهم، و مات أكثرهم و فيهم عبدالله بن الحسن [3] .
حفلت هذه المأساة الغريبة و العجيبة بأنواع الرزايا و الخطوب، فقد انتهكت فيها حرمة الرسول الأعظم صلي الله عليه و اله و سلم في ذريته و أبنائه، و لم يراقب المنصور الله فيهم و لم يرع أي حرمة لهم.
لقد وهبت تلك النفوس الزكية أرواحها لله لتنقذ من شر تلك الطغمة الحاكمة عباد الله، حكام ظالمون همهم الدنيا و السلطان و الجاه و المال، و في سبيل ذلك كفروا بجميع القيم الانسانية، و تنكروا لجميع المبادي ء الاسلامية.
هذه المأساة الكبري أثارت موجات من السخط علي بني العباس فتجمهر الأحرار حول أهل البيت متمسكين بعدلهم و مبادئهم بغية انقاذهم من هذا الوضع المتردي الأليم. و قد اندفع الشعراء بعد أحقاب من السنين المريرة بهجاء الحكام العباسيين علي جرائمهم النكراء و خاصة الجريمة الأخيرة التي ذهب ضحيتها عبدالله بن الحسن.
من هؤلاء الشعراء نذكر أبافراس الحمداني الشاعر العربي الأصيل، استنكر الجريمة النكراء و اندفع قائلا في قصيدة طويلة بلغت ما يقارب الستين بيتا نذكر منها:
[ صفحه 89]
الدين مخترم، و الحق مهتضم؛
و في ء آل رسول الله مقتسم
يا للرجال! أما لله منتصف
من الطغاة؟ أما للدين منتقم؟!
بنوعلي رعايا في ديارهم
و الأمر تملكه النسوان و الخدم!
للمتقين، من الدنيا، عواقبها
و ان تعجل منها الظالم الأثم
لا يطغين بني العباس ملكهم!
بنوعلي مواليهم و ان زعموا
أتفخرون عليهم؟ لا أبا لكم
حتي كأن رسول الله جدكم
و ما توازن: يوما بينكم شرف
و لا تساوت بكم، في موطن، قدم
و لا لكم مثلهم، في المجد، متصل
و لا لجدكم مسعاة جدهم
و لا لعرقكم من عرقهم شبه
و لا نفيلتكم من أمهم أمم
قام النبي بها، يوم الغدير، لهم
والله يشهد، و الأملاك و الأمم
حتي اذا أصبحت في غير موضعها
لكنهم ستروا وجه الذي علموا
ثم ادعاها بنوالعباس ارثهم
و ما لهم قدم، فيها، و لا قدم
بئس الجزاء جزيتم في بني حسن
أبوهم العلم الهادي و أمهم
لا ربيعة ردعتكم عن دمائهم
و لا يمين، و لا قربي، و لا ذمم
هلا صفحتم عن الأسري بلا سبب
للصافحين ببدر عن أسيركم؟
هلا كففتم عن الديباج السنكم
و عن بنات رسول الله شتمكم؟
ما نزهت لرسول الله مهجته
عن السياط! فهلا نزه الحرم؟
ما نال منهم بنوحرب، و ان عظمت
تلك الجرائر، الا دون نيلكم
كم غدرة لكم في الدين واضحة!
و كم دم لرسول الله عندكم!
أأنتم آله فيما ترون، و في
أظفاركم، من بنيه الطاهرين دم؟
هيهات لا قربت قربي و لا رحم
يوما، اذا أقصت الأخلاق و الشيم!
كانت مودة سلمان له رحم
و لم يكن بين نوح و ابنه رحم! [4] .
ليس الرشيد كموسي في القياس و لا
مأمونكم كالرضا ان أنصف الحكم
الركن و البيت و الاستار منزلهم
و زمزم، و الصفا، و الحجر و الحرم
[ صفحه 90]
صلي الآله عليهم، أينما ذكروا
لأنهم للوري كهف، و معتصم
يبدو واضحا من هذا الشعر الاسي العميق علي ما أصاب العلويين من النكبات و الرزايا في عهد المنصور و سائر ملوك بني العباس الذين تنكروا للاحسان الذي أسداه اليهم الرسول الأعظم و علي جدهم العباس فقد قابلوا الاحسان بالاساءة، و العفو بالعقاب المرير لذرية النبي الشريفة، و عترته الطاهرة.
پاورقي
[1] مروج الذهب ج 3، ص 225.
[2] الطبري ج 9، ص 398.
[3] مروج الذهب ج 3، ص 225.
[4] الديوان ص 128 و الغدير ج 3، ص 238.