بازگشت

نظرة في الظرف السياسي و الاجتماعي الذي أحاط بعصر الامام


ولد الامام موسي بن جعفر في أواخر الحكم الأموي، فقد زال هذا الحكم و الامام صبي لم يتجاوز الخامسة من عمره الشريف... زال هذا الحكم و كان الناس ينتظرون اصلاح الأوضاع السياسية و الاجتماعية، و كان أهل البيت و الطالبيون أكثر الناس ارهاقا و ظلامة تحت كابوس هذا الحكم المنقرض، فقد ولغ حكام بني امية بدماء أهل البيت و الطلائع من الطالبيين عموما و من ذرية علي بن أبي طالب و فاطمة الزهراء خصوصا و أذاقوهم و أتباعهم أشد أنواع الظلم و الاضطهاد. و كان أشدها قسوة و مرارة علي أهل البيت (ع) فاجعة



[ صفحه 63]



الطف - فاجعة كربلاء التي استشهد فيها السبط الحسين بن علي بن أبي طالب و عدد من أهل بيته و أصحابه علي يد الحاكم الاموي يزيد بن معاوية في العاشر من المحرم سنة 61 ه. و شهادة حفيده زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عام 121 في شهر صفر علي يد الحاكم الاموي هشام بن عبدالملك.

و قد ذكر أبوالفرج الأصفهاني ثلاثة و ثلاثين قتيلا قتلوا علي يد الحكام الامويين، من ذرية آل أبي طالب، ابتداء من الحسن و الحسين سيدي شباب أهل الجنة ابني علي (ع) و فاطمة بنت رسول الله (ص) و من عهد معاوية بن أبي سفيان و حتي آخر الدولة الاموية، و كلهم من ذرية علي و جعفر و عقيل بن أبي طالب و الحسن و الحسين ابني علي و فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين، و ممن شهد الناس بفضلهم ورعهم و دفاعهم عن الحق... قتلهم بنو امية ظلما و عدوانا.. قتلوهم لأنهم لم يرضخوا للظلم و لم يرضوا بالهوان... و أعلنوا الثورة و المعارضة من أجل حماية الاسلام و تطبيق أحكامه. كما ذكر أبوالفرج الأصفهاني في (مقاتل الطالبيين) أن اثنين و ثلاثين من آل أبي طالب قتلوا ابتداء من تسلم أبي العباس السفاح السلطة و حتي وفاة الامام موسي بن جعفر (ع)، و كان أشهرهم الشهيد محمد بن عبدالله بن الحسن - النفس الزكية - المقتول سنة 145 ه، و الشهيد الحسين بن علي بن الحسن - شهيد فخ - الذي استشهد في الثامن من ذي الحجة



[ صفحه 64]



سنة 169 ه عند بئر فخ قرب مكة المكرمة علي يد الحاكم العباسي موسي الهادي بن أبي جعفر المنصور، و شهادة سيد أهل البيت و امامهم موسي بن جعفر في الخامس و العشرين من شهر رجب عام 183 ه علي يد الحاكم العباسي هارون الرشيد. بيد أن هذه الأسماء هي أشهر من قتل في هذه الفترة من الحكم العباسي من وجوه الطالبيين و قادتهم و طلائعهم، أما عددهم الحقيقي فلم يحصه المؤرخون، و هم أضعاف هذا العدد كما تشير الأحداث و كتب التاريخ الي ذلك.

ان دراسة الفترة التاريخية التي عاشها الامام الكاظم تمثل أهم مساحة في تاريخ بني العباس، كما و أنها من الفترات الصعبة في حياة أهل البيت... فقد طارد العباسيون ذرية الامام علي بن أبي طالب و أتباعهم، و تتبعوهم في كل ناحية و مصر، و جندوا الأموال و الأعوان من أجل استئصال العلويين و القضاء علي طلائعهم و قياداتهم خوفا من ثوراتهم و سمو مكانتهم في نفوس الخاصة و العامة من أبناء الامة.

لقد زخرت هذه الفترة التاريخية التي عاشها الامام بالاحداث و الوقائع التاريخية الخطيرة، و لقد كان أبرز ما فيها الثورات و السجون و الملاحقات و القتل الفردي و الجماعي لآل علي بن أبي طالب و أتباعهم و بني عمومتهم من الطالبيين، فتاريخ هذه الفترة من حياة المجتمع الاسلامي كانت فترة مظلمة من الناحية السياسية.. فترة انتشر فيها الارهاب و القتل علي الظن و التهمة، و استئثار بني العباس و من



[ صفحه 65]



والاهم بالحكم و الادارة و القضاء و الاستهانة بكرامات الناس، حتي أصبح السجن و الضرب و القتل لأتفه الأسباب شيئا عاديا، فكان نظام الحكم في دولة العباسيين نظاما امبراطوريا و راثيا دكتاتوريا، تخضح فيه الأمصار و الولايات الي حكم الاقطاع السياسي... فالولاة يحكمون و يعبثون و يتصرفون كيف شاؤوا ما زالوا محافظين علي طاعة الخليفة المركزية و أمر الخليفة العباسي. فالمطلوب هو الولاء للخليفة العباسي، لا بسط العدل و اقامة الاسلام و تطبيق أحكامه و اصلاح أوضاع الامة. فلم يكن يهم الحكام شي ء سوي كراسيهم و ملذاتهم و التخلص من خصومهم.

و في هذه الفترة انتشر المجون و اللهو و الطرب، و غصت قصور الخلفاء و الامراء و الولاة و الوزراء و الحواشي بالجوار و الحسان، و بأدوات اللهو و بالمغنين و المطربين، و بالشعراء المتملقين المتعبدين للدرهم و الدينار.

و اشتغل الحكام باقتناء الجواري [1] و المجوهرات و العطور



[ صفحه 66]



و الألبسة و وسائل اللهو و اللذة و الترف و بناء القصور، فأنفقوا الملايين وضيعوا أموال الامة التي حلبوها من شرايين الكادحين، أو اغتصبوها و صادروها من المظلومين و المطاردين و المحكوم عليهم بالسجن و القتل.

هذا فيما يخص الوضع السياسي و الاجتماعي، أما بالنسبة للجانب العلمي فقد كانت الحياة العلمية و الأدبية و الثقافية زاهرة في المجتمع الاسلامي... فقد تطورت العلوم و المعارف و الآداب و الفنون و الاكتشافات فبلغت مرحلة راقية متطورة، كما اتسعت الدراسات الدينية و نشطت الفرق و المذاهب الفلسفية و الكلامية و الفقهية. و كان لهذه التيارات آثارها السلبية الي جانب الأثر الايجابي، فمن آثارها السلبية الخلاف و الفرقة بين المسلمين و انقسامهم الي مذاهب و فرق فقهية و كلامية مزقت المجتمع الاسلامي و شتتت شمل المسلمين، كما ساعدت علي نمو الشك و الالحاد و الزندقة و الدس و التشويه في عقيدة المسلمين و تشريعهم. و أما جانبها الايجابي فقد كان في تنمية الفكر و التفكير الاسلامي، و اخصاب العقلية الاسلامية و دفعها الي الابداع و الابتكار و المواجهة العلمية المنظمة، و تعميق الدراسات الاسلامية و توسيع آفاقها و مداراتها بشتي فنونها.

و لقد كان للامام موسي بن جعفر كما كان لأبيه الصادق (ع) دور بالغ في الوقوف بوجه الانحراف السياسي و العقائدي و الأخلاقي



[ صفحه 67]



و الاجتماعي الذي أوجده أو ساعد علي وجوده الحكم العباسي. و رغم أن ظروف الامام الكاظم السياسية كانت صعبة للغاية، و الحصار و التضييق عليه كان أشد من الحصار و التضييق المضروب حول أبيه الصادق، و علي الرغم من مراقبته و حبسه في السجون و المعتقلات مدة عدة سنوات الا أنه لم يترك دوره و مسئوليته، فقد ربي جيلا من العلماء و الرواة و المحدثين، و ساهم مساهمة فعالة في ايقاف الانحراف الذي حملته بعض تيارات الفلسفة و العقائد و علم الكلام المتأثرة بالغز و الفكري و الشطط العقائدي، و ناقش الاتجاهات الفقهية و التشريعية في عصره و بين مواقع الضعف و القصور و الخطأ فيها. و كان يواصل مهامه العلمية و هو في سجنه. فقد روي المؤرخون أن بعض العلماء و بعض أصحابه و تلامذته كان يتصل به سرا في السجن، و يسأله عن المسائل و القضايا و الأحكام فكان يراسلهم و يجيبهم.

و نظرا للظرف السياسي الصعب الذي أحاط بالامام و محاربة الحكام العباسيين له خلال مدة امامته بعد أبيه الصادق التي دامت خمسا و ثلاثين سنة و منذ ان كان عمره الشريف عشرين سنة حتي شهادته. لذلك فان الباحث و المحقق يشاهد أن نسبة ما ورد من حديث و رواية و عطاء علمي للامام الكاظم يعتبر قليلا اذا ما قيس بأبيه الصادق وجده محمد الباقر (ع).

و لئن برز دور الامامين الباقر و الصادق (ع) في جانب العلوم



[ صفحه 68]



و المعارف و اظهار علوم أهل البيت و تحديد معالم مذهبهم و منهجهم في الفقه و العقيدة و التفسير و السياسة و الأخلاق.. الخ، الذي رووه عن أبيهم السجاد عن أبيه الحسين عن أبيه علي بن أبي طالب عن رسول الله (ص) فتحددت معالمه و اصوله و شخصيته العلمية و العقائدية و التعبدية، فقد برز دور الامام الكاظم واضحا في الكفاح و الجهاد السياسي، و مواجهته للحكام في السجون و المعتقلات و الصراع السياسي غير المسلح، فجسد هذا الجانب من منهج أهل البيت، و دورهم الرسالي في خدمة العقيدة و الشريعة الاسلامية، فقد كان أهل البيت و أتباعهم يقودون علي طول المسيرة خط المعارضة و المواجهة للظلم و التحلل و الانحراف و الطغيان، من أجل النهوص بأعباء الدعوة الاسلامية، و الحفاظ علي نقاء الاسلام، و ضمان تطبيق قوانينه و نظمه و الالتزام بقيمه و أخلاقه و بناء المجتمع و الدولة، و سلوك الفرد و الجماعة علي أساسه.

لذلك عانوا العنت و التشريد و التقتيل، و ذلك شأن كل دعاة الاسلام، و رواد الهدي و الاصلاح علي طول خط الدعوة الالهية و امتداد جذورها، من لدن آدم و حتي يرث الله الأرض و من عليها.

فالصراع بين الحق و الباطل و الهدي و الضلال صراع دائم و حقيقة قائمة علي امتداد مسيرة التاريخ البشري، فحركة التاريخ و مسيرة الانسان يحركها الصراع و يدفعها باتجاه الحق أو الباطل تبعا



[ صفحه 69]



لطبيعة القوي المتحكمة في الصراع و المسيطرة علي صنع الأحداث و المواقف، و تلك حكمة الله و مشيئته ليميز الله الخبيث من الطيب و ليمحص الناس، و لتتكشف الحقائق و تتجسد الدوافع و النوازع البشرية الكامنة في ذات الانسان سلوكا و عملا و صيغة انسانية منظورة.

و الذي يدرس التاريخ و يحلل العوامل و الدوافع المتحكمة فيه يشاهد دور الرسالات الالهية، و أثر الانبياء و دعاة الايمان و أئمة الهدي واضحا و مشخصا موقعه و تأثيره في تاريخ الصراع و بناء الحضارة و غرس القيم و المثل الخيرة.

و نحن اذا شئنا أن ندرس المساحة التاريخية التي أظلها الاسلام و أقام هيكل التاريخ و الحضارة عليها نجد أن هذا التاريخ حافل بألوان الصراع و مظاهر الكفاح و الجهاد من أجل تغليب دعوة الايمان و مبادي ء الحق و قيم الهدي، و بناء حياة الانسان علي أساس الاسلام، و بوحي من قيمه و مبادئه.

و نشاهد أن دور القيادة و الريادة في هذا الصراع هو لأهل البيت (ع) و لاتباعهم و المتفاعلين مع دعوتهم و المتأثرين بتيارهم التاريخي الناصع.

و حياة الامام موسي بن جعفر تمثل مرحلة سياسية و تاريخية بارزة في تاريخ الاسلام هذا، و تكتسب أهميتها من أهمية هذه الشخصية و دورها البارز في قيادة الامة، و من أهمية المرحلة التاريخية ذاتها،



[ صفحه 70]



و طبيعة الحكام و حقيقة سياستهم الارهابية الغاشمة التي تنكرت لقيم الاسلام و مبادئه، فقد شملت هذه الفترة الزمنية العصيبة في تاريخ الاسلام و في تاريخ أهل البيت فترة من حياة المنصور و حياة المهدي و الهادي و حياة الرشيد.

و من الطبيعي أن يكتب كتاب التاريخ الرسميون للحكام و يخشون سطوتهم و يتملقونهم و يزيفون الحقائق، و يسبغون عليهم صفات العظمة و القدسية و المثالية محاولين طمس الحقائق و تشويهها.

و قد دأب مؤرخو السلطات و المتزلفون للحكام الظلمة أن يمحوا صوت الحق من ضمير التاريخ، و أن يتجنبوا ذكر الرفض و المعارضة للتسلط و الطغيان، بل و ربما أظهروهم بمظهر المخربين و العصاة و الخارجين علي ارادة القانون، فكم قرأنا عن تاريخ بني العباس و عن تاريخ الرشيد مثلا، و بأنه العصر الذهبي... و صحيح أن العلوم و المعارف تقدمت في هذه الفترة علي يد العلماء و الادباء و المفكرين و الفقهاء و الفلاسفة و الباحثين، الا أن سلطان بني العباس كان يمثل الجور و التسلط و الاثرة بأفضع ألوانها.

و كان أهل البيت و دعاة الاصلاح من الفقهاء و العلماء هم الضحية في حين كان الجواري و المغنون و أمثالهم، و المتزلفون و شعراء القصر و الولاة و القضاة المنفذون و أمثالهم هم الطبقة المرفهة التي عبثت بخيرات الامة و بمقداراتها و حريتها.



[ صفحه 71]



ان قيمة التاريخ ورقي الحضارة يقاس بقيمة الجانب الانساني، و اقامة العدل، و استقامة السلوك البشري للسلطة و الامة، و ليس بالجانب المادي الذي لا يمثل في ظل الأوضاع الشاذة الا الأداة لاستمتاع المتسلطين و فرض سلطانهم.

لقد تحمل الامام الكاظم (ع) مسئولية الامامة في هذه الفترة الرهيبة ابتداء من سنة 148 ه و حتي سنة 183 ه. و ها نحن نستعرض هذه الفترة بشكل موجز و متتابع وفق التسلسل التاريخي لسير الأحداث و تلاحق الوقائع.


پاورقي

[1] نقل المؤرخون أن الرشيد خلف بعد موته مائة مليون دينار، و أكثر من ذلك قيمة الجواهر و الموجودات، و اقتني 2000 جارية، و ان ثمن احداهن بلغ مليون و نصف المليون درهم. و كما أسرف الرشيد فان زوجته زبيدة أيضا كانت تعبث بأموال الأمة وقوت فقرائها، فقد كانت تلبس الخفاف المرصعة بالجوهر، و أنفقت أكثر من مليون دينار ذهب لصنع بساط من الديباج يحوي مختلف أنواع الطيور المصنوعة من خيوط الذهب و عيونها من الياقوت الأحمر... الخ.