بازگشت

تعريف موجز بسياسة الرشيد


لقد عاش الامام موسي بن جعفر (ع) هذه الفترة التاريخية العصيبة من حكم بني العباس كما عاشها الآخرون من ذرية أهل البيت و أتباعهم و بقية الامة تحت و طأة الظلم و الارهاب و السجون و القتل و التشريد.

و الذي يقرأ تاريخ تلك الفترة يستطيع أن يعرف كيف فتك بنو العباس بالكثير من أنصارهم و الموالين لهم، فقد فتكوا بالبرامكة الذين أخلصوا لبني العباس و سفكوا الدماء و ساموا الناس سوء العذاب من أجل تثبيت الحكم العباسي، كما فتكوا بالكثير من أمثالهم.

و الذي يتابع بعض العبارات التي صدرت من أقرب الناس لبني العباس، أو يتابع الأحداث يدرك مدي الخوف و الارهاب الذي زرعه العباسيون في نفوس الناس، و يعرف أهمية موقف الامام و تصديه



[ صفحه 94]



لمواجهة الظلم و الارهاب، و كسر حاجز الخوف عند الناس.

فمثلا، سجل التاريخ أن الفضل بن يحيي بن خالد البرمكي الذي كان من أخلص المقربين من الرشيد يجرد من ثيابه و يضرب و يهان و يلعن في مجلس عام بطلب من الرشيد لأنه رفه عن الامام الكاظم و خفف عنه آلام السجن.

و هذا الفضل بن الربيع و هو من أبرز الساسة المقربين للرشيد، و من أعمدة البلاط و وزرائه يتحدث عن موقف جري له، و يكشف عن عمق الخوف و الارهاب في نفسه، فيرسم لنا صورة الارهاب العباسي.

قال الفضل: (كنت ذات ليلة في فراشي مع بعض جواري، فلما كان في نصف الليل سمعت حركة باب المقصورة، فراعني ذلك. فقالت الجارية: لعل هذا من الريح. فلم يمض الايسير حتي رأيت باب البيت الذي كنت فيه قد فتح، و اذا بمسرور الكبير قد دخل علي، فقال لي: أجب الأمير. و لم يسلم علي، فيئست من نفسي و قلت: هذا مسرور، و دخل الي بلا اذن، و لم يسلم. ما هو الا القتل. و كنت جنبا فلم أجسر أن أسأله انظاري حتي أغتسل. فقالت لي الجارية لما رأت تحيري و تبلدي: ثق بالله عزوجل، و انهض. فنهضت، و لبست ثيابي، و خرجت معه حتي أتيت الدار، فسلمت علي أميرالمؤمنين و هو في مرقده، فرد علي السلام فسقطت فقال: تداخلك رعب؟ قلت: نعم يا أميرالمؤمنين.



[ صفحه 95]



فتركني ساعة حتي سكنت). [1] .

ان القاري ء و المتأمل في هذه الوثيقة التاريخية، و هو يعرف موقع الفضل بن الربيع من هارون الرشيد، و يتأمل في نصوص الوثيقة يعرف مدي الخوف و الارهاب و الاستهانة بكرامة الانسان، فأقرب المقربين و أبرز أركان السلطة و عمادها يعيش هذا الشعور و يعاني من هذه العقدة، فكيف بالمعارضين و بمن لا تربطهم بقصر الخليفة رابطة...؟ و بعامة أفراد الامة؟

ان اسلوب الارهاب الذي مارسه الحكام العباسيون لا يختلف عن الأساليب التي تمارسها اليوم أجهزة التجسس و الارهاب و المباحث و الشرطة المسخرة للأنظمة الارهابية و المتسلطة علي رقاب الشعوب. فقد رأينا كيف يدخل رسول الرشيد الفضل و هو نائم في حجرته مع جاريته و دونما استئذان؟ و كيف يأخذه الخوف فييأس من حياته؟ و كيف يسقط مغشيا عليه و لا يستطيع التحدث مع الرشيد الا بعد ساعة؟

انه التسلط و الخوف الذي يشل ارادة الانسان، و يسلبه كرامته و انسانيته.

و وثيقة اخري ينقلها لنا التاريخ و هي تصور لنا الرعب



[ صفحه 96]



الجماعي، و تحكم عقدة الخوف و الارهاب في الرأي العام من السلطة العباسية. فقد نقل أن يحيي بن خالد البرمكي لما قدم الي بغداد لتدبير عملية اغتيال الامام موسي بن جعفر (ع)، فوجي ء الناس به فاستولي الذعر و الخوف و شاعت الاشاعات، و انتشرت الأراجيف المعبرة عن الخوف، و ترقب الشر، فقد جاء في نص تاريخي:

(ثم خرج يحيي بن خالد بنفسه علي البريد حتي أتي بغداد فماج الناس و أرجفوا بكل شي ء). [2] .

فالمتأمل لعبارة (فماج الناس، و ارجفوا بكل شي ء) يستطيع أن يدرك و بوضوح كامل طبيعة علاقة الامة بالسلطة، و يعرف كيف كانت تساس الامة و تدار شؤون الدولة، و كيف كان الحكام العباسيون و أنصارهم يقبضون علي مقاليد الامور، و كيف كان موقف الامام بوجه السلطة يمثل قمة المسئولية، و يعبر عن ضرورة عقائدية لانقاذ الامة، و كسر طوق الارهاب المضروب عليها.

و هكذا تفعل الطلائع و القيادات الاسلامية الرائدة عندما يستولي علي الامة الخوف و الارهاب، و تسقط تحت طائلة الحكام المستبدين فانها تحتاج الي هزة وجدانية عنيقة و الي دم مقدس يحرك ضميرها و احساسها، و يبقي شعلة الجهاد و الشهادة حية متقدة فيها.



[ صفحه 97]



و هكذا فعل الامام موسي بن جعفر و أتباعه، فرابط في السجن و رفض الخروج منه ليشعر الامة أنها في صراع مستمر مع الحاكم الظالم ما زالت القيادة الشرعية ترفض الاعتراف بالأمر الواقع و تستقر في ظلمات السجون، و دعاة الهدي و الاصلاح اختاروا ظلمات السجون علي رفاهية القصور و دعة الحياة، و شهروا السلاح و واجهوا الحاكم المستبد بكلمة الحق.

و هكذا كان مسار أهل البيت و أتباعهم طيلة عهد أبي العباس السفاح، و المنصور، و الهادي و المهدي، و الرشيد و من تبعهم من الحكام العباسيين. فقدم أهل البيت و أتباعهم و العلويون من آل علي بن أبي طالب الدم و القرابين، و ضاقت المحابس و السجون، و بنيت عليهم اسس القصور و الاسطوانات و هم أحياء و حملت رؤوسهم من بلد الي بلد و من فجائع ما دون التاريخ ما ذكره حميد بن قحطبة أحد امراء الرشيد الي أحد خواصه، و هي قصة مأساوية فجيعة، [3] تمثل محنة العلويين، و ظلم بني العباس و قسوتهم.

و جاء في القصة أن الرشيد لما كان بطوس استدعاه و سأله عن طاعته لأميرالمؤمنين فأجاب أنه مستعد أن ينفذ ما يطلب منه، و لما اطمأن الرشيد الي اخلاصه للعرش العباسي و قدرته علي التنفيذ، أمر



[ صفحه 98]



الخادم أن يناوله سيفا و يذهب الي بيت مغلق في وسطه بئر، و في البيت ثلاثة بيوت مغلقة. فلما أدخله الخادم فتح أحد البيوت و اذا في البيت عشرون علويا من ذرية علي بن أبي طالب و فاطمة بنت رسول الله (ص)، و هم شباب و شيوخ و كهول مقيدون بالسلاسل و القيود فطلب منه قتلهم و القائهم في البئر ففعل. ثم فتح البيت الثاني و وجد فيه مثل هذا العدد و أمره بقتلهم ففعل. ثم فتح البيت الثالث و فيه مثل هذا و أمره بقتلهم ففعل. و كانت هذه القصة المأساوية سرا في زنزانات الارهابيين و القتلة.. الا أن حميد بن قحطبة أفشي هذا السر بعد أن أخذت تلاحقه أشباح الجريمة، و يؤنبه و خز الضمير، و بعد أن شعر بأن صورته الانسانية قد مسخت، و أنه توغل في الجريمة حتي يئس من رحمة الله.

فقد دخل عليه صاحبه عبيدالله البزاز النيشابوري قادما من سفر في شهر رمضان، و وجد حميد بن قحطبة يتأهب لتناول طعام الغداء، و بعد قليل أحضر الطعام، و دعا حميد صاحبه الي تناول الطعام، فاعتذر بأنه صائم، و قال: لعل للأمير عذرا و مسوغا شرعيا للافطار، أما أنا فصائم. فأجاب حميد: ليس بي علة و لا عذر لي. ثم دمعت عيناه، و بكي وراح يسرد فصول القصة المأساوية المروعة، و هو يقول لصاحبه: أي مغفرة أرجو و أي صيام ينفع، بعد أن و لغت في هذه الجريمة، و قتلت من ذرية علي و فاطمة ستين بريئا؟ و بأي وجه ألقي الله و رسوله؟ [4] .



[ صفحه 99]



و روي المؤرخون نماذج و صورا مأساوية للسجون و القتل و المطاردة للعلويين و أتباعهم، و خصوصا أصحاب الامام موسي الكاظم (ع) و تلامذته و حملة علومه.

فقد ذكر أن محمد بن أبي عمير الأزدي، كان من أوثق الناس عند الخاصة و العامة - يعني سنة و شيعة - و أنسكهم نسكا، و أورعهم و أعبدهم، و حكي عن الجاحظ أنه قال: كان أوحد أهل زمانه في الأشياء كلها. و قال أيضا: و كان وجها من وجوه الرافضة، حبس أيام الرشيد ليلي القضاء، و قيل، بل ليدل علي الشيعة و أصحاب موسي بن جعفر (ع)، و ضرب علي ذلك، و كاد يقر لعظم الألم، فسمع محمد بن يونس بن عبدالرحمن يقول له: اتق الله يا محمد بن أبي عمير، فصبر ففرج الله عنه.

و روي الكشي أنه ضرب مائة و عشرون خشبة أيام هارون، و تولي ضربه السندي بن شاهك، و كان ذلك علي التشيع، و حبس فلم يفرج عنه حتي أدي من ماله واحدا و عشرين ألف درهم. و روي أن المأمون حبسه حتي ولاه قضاء بعض البلاد. و روي الشيخ المفيد في «الاختصاص» أنه حبس سبع عشرة سنة، و في مدة حبسه دفنت اخته كتبه، فبقيت مدة أربع سنين، فهلكت الكتب. [5] .



[ صفحه 100]



و سجل التاريخ ملاحم اخري لتلامذة الامام الكاظم (ع)، و أصحابه في السجون و المعتقلات. فقد جاء في المصدر السابق عن كتاب الاختصاص للشيخ المفيد:

(و كان من أصحابه علي بن هاشم بن البريد، و عبدالله بن علقمة، و مخول بن ابراهيم السهدي، فحبسهم جميعا هارون الرشيد في المطبق). [6] فمكثوا فيه اثنتي عشرة سنة). [7] .


پاورقي

[1] العلامة المجلسي: المصدر السابق / المجلد 11 / ص 213 / ج 48.

[2] العلامة المجلسي: المصدر السابق / ص 234.

[3] حدثت هذه المأساة بعد شهادة الامام موسي بن جعفر.

[4] نقلنا مضمون القصة عن كتاب: عيون أخبار الرضا / ص 88 / ج 1.

[5] الشيخ الصدوق: المصدر السابق / ص 179.

[6] المطبق: اسم سجن من سجون الرشيد.

[7] الشيخ الصدوق: المصدر السابق / ص 187.