بازگشت

الامام في سجون الرشيد


و هكذا كان الظرف السياسي و سياسة السلطة العباسية. و في هذه الظروف و الأوضاع السياسية الخانقة عاش الامام.. و كان طبيعيا أن يناله ظلم الرشيد، و أن يلحقه السجن و الاضطهاد.

فقد حدثنا التاريخ أن الامام موسي بن جعفر (ع) ذهب ضحية طيش الرشيد و خوفه علي كرسيه و سلطانه، و ضحية الوشاية و سعي المتزلفين و المتملقين. فقد روي بعض المؤرخين و الرواة:

(كان السبب في قدوم موسي بن جعفر الي بغداد أن هارون الرشيد أراد أن يعقد الأمر لابنه محمد بن زبيدة (الأمين)، و كان له من



[ صفحه 101]



البنين أربعةعشر ابنا، فاختار منهم ثلاثة: محمد بن زبيدة و جعله ولي عهده، و عبدالله المأمون و جعل الأمر له بعد ابن زبيدة، و القاسم المؤتمن، و جعل الأمر له بعد المأمون، فأراد أن يحكم الأمر في ذلك، و يشهره شهرة يقف عليها الخاص و العام. فحج في سنة تسع و سبعين و مائة و كتب الي جميع الآفاق يأمر الفقهاء و العلماء و القراء و الامراء أن يحضروا مكة أيام الموسم، فأخذ هو طريق المدينة.

قال علي بن محمد النوفلي: فحدثني أبي أنه كان سبب سعاية يحيي بن خالد بموسي بن جعفر عليه السلام وضع الرشيد ابنه محمد بن زبيدة في حجر جعفر بن محمد بن الأشعث فساء ذلك يحيي، و قال: اذا مات الرشيد و افضي الأمر الي محمد انقضت دولتي و دولة ولدي و تحول الأمر الي جعفر بن محمد بن الأشعث و ولده. و كان قد عرف مذهب جعفر في التشيع، فأظهر له أنه علي مذهبه، فسر به جعفر و أفضي اليه بجميع اموره، و ذكر له ما هو عليه في موسي بن جعفر (ع).

فلما وقف علي مذهبه سعي به الي الرشيد، فكان الرشيد يرعي له موضعه و موضع أبيه من نصرة الخلافة، فكان يقدم في أمره و يؤخر، و يحيي لا يألوا أن يخطب [1] عليه، الي أن دخل يوما الي الرشيد فأظهر



[ صفحه 102]



له اكراما، و جري بينهما كلام مت [2] به جعفر بحرمته و حرمة أبيه، فأمر له الرشيد في ذلك اليوم بعشرين ألف دينار، فأمسك يحيي عن أن يقول فيه شيئا حتي أمسي، ثم قال للرشيد: يا أميرالمؤمنين قد كنت اخبرك عن جعفر و مذهبه فتكذب عنه، و هاهنا أمر فيه الفيصل. قال: و ما هو؟ قال: انه لا يصل اليه مال من جهة من الجهات الا أخرج خمسه فوجه به الي موسي بن جعفر، و لست أشك أنه قد فعل ذلك في العشرين الألف الدينار التي أمرت بها له: فقال هارون: ان في هذا الفيصل. فأرسل الي جعفر ليلا، و قد كان عرف سعاية يحيي به فتباينا و أظهر كل واحد فيهما لصاحبه العداوة، فلما طرق جعفرا رسول الرشيد بالليل خشي أن يكون قد سمع فيه قول يحيي، و انه انما دعاه ليقتله، فأفاض عليه ماء و دعا بمسك و كافور فتحنط بهما و لبس بردة فوق ثيابه و أقبل الي الرشيد، فلما وقعت عليه عينه و شم رائحة الكافور، و رأي البردة عليه قال: يا جعفر ما هذا؟ فقال: يا أميرالمؤمنين، قد علمت أنه قد سعي بي عندك، فلما جاءني رسولك في هذه الساعة لم آمن أن يكون قد قدح في قلبك ما يقال علي فأرسلت الي لتقتلني. فقال: كلا، و لكن قد خبرت أنك تبعث الي موسي بن جعفر من كل ما يصير اليك بخمسه، و أنك قد فعلت ذلك في العشرين ألف دينار، فأحببت أن أعلم ذلك.



[ صفحه 103]



فقال جعفر: الله أكبر يا أميرالمؤمنين، تأمر بعض خدمك فيأتيك بها بخواتيمها.

فقال الرشيد لخادم له: خذ خاتم جعفر و انطلق به حتي تأتيني بهذا المال. و سمي جعفر له جاريته التي عندها المال، فدفعت اليه البدر بخواتيمها. فأتي بها الرشيد فقال له جعفر: هذا أول ما تعرف به كذب من سعي بي اليك. قال: صدقت يا جعفر، انصرف آمنا فاني لا أقبل فيك قول أحد. قال، و جعل يحيي يحتال في اسقاط جعفر.

فقال النوفلي: فحدثني علي بن الحسن بن علي بن عمر بن علي عن بعض مشايخه و ذلك في حجة الرشيد قبل هذه الحجة. قال: لقيني [3] علي بن اسماعيل بن جعفر بن محمد فقال لي: مالك قد أخملت نفسك، مالك لا تدبر أمر الوزير؟ فقد أرسل الي فعادلته و طلبت الحوائج اليه.

و كان سبب ذلك أن يحيي بن خالد، قال ليحيي بن أبي مريم: ألا تدلني علي رجل من آل أبي طالب له رغبة في الدنيا فاوسع له منها؟ قال: بلي، أدلك علي رجل بهذه الصفة، و هو علي بن اسماعيل بن جعفر بن محمد. فأرسل اليه يحيي فقال: أخبرني عن عمك و عن شيعته، و المال الذي يحمل اليه. فقال له: عندي الخبر، فسعي بعمه (موسي بن جعفر). فكان في سعايته أن قال له: ان من كثرة المال عنده أنه اشتري



[ صفحه 104]



ضيعة تسمي البشرية بثلاثين ألف دينار. فلما أحضر المال قال البائع: لا اريد هذا النقد، اريد نقد كذا و كذا، فأمر بها فصبت في بيت ماله، و أخرج منه ثلاثين ألف دينار من ذلك النقد و وزنه في ثمن الضيعة.

قال النوفلي: قال أبي: و كان موسي بن جعفر عليه السلام يأمر لعلي بن اسماعيل بالمال ويثق به حتي ربما خرج الكتاب منه الي بعض شيعته بخط علي بن اسماعيل ثم استوحش منه، فلما أراد الرشيد الرحلة الي العراق بلغ موسي بن جعفر عليه السلام أن عليا ابن أخيه يريد الخروج مع السلطان الي العراق. فأرسل اليه و سأله: مالك و الخروج مع السلطان؟ قال: لأن علي دينا. قال: دينك علي. قال: و تدبير عيالي. قال: أنا أكفيهم. فأبي الا الخروج، فأرسل اليه مع أخيه محمد بن جعفر بثلاثمائة دينار، و أربعة آلاف درهم. فقال: اجعل هذا في جهازك و لا تؤتم ولدي). [4] .

و نقل المؤرخون روايات اخري:

(ان محمد بن اسماعيل بن الصادق عمه موسي الكاظم، يكتب له الكتب الي شيعته في آلافاق، فلما ورد الرشيد الي الحجاز سعي بعمه الي الرشيد، فقال: أما علمت في الأرض خليفتين يجبي اليهما الخراج؟ فقال الرشيد: ويلك أنا و من؟ قال: موسي بن جعفر. و أظهر أسراره،



[ صفحه 105]



فقبض عليه، و حضي محمد عند الرشيد، و دعا عليه موسي بن جعفر الكاظم بدعاء استجابه الله فيه و في أولاده). [5] .

و روي أيضا عن علي بن جعفر (أخي الامام موسي الكاظم) قال:

(جاءني محمد بن اسماعيل بن جعفر بن محمد، و ذكر لي أن محمد بن جعفر (أخا الامام موسي بن جعفر) دخل علي هارون الرشيد، فسلم عليه بالخلافة ثم قال:

ما ظننت أن في الأرض خليفيتين حتي رأيت أخي موسي بن جعفر يسلم عليه بالخلافة، و كان ممن سعي بموسي بن جعفر (ع) يعقوب بن داود، و كان يري رأي الزيدية). [6] .

و روي ابراهيم بن أبي البلاد - سند الرواية مثبت في المصدر - قال:

(كان يعقوب بن داود يخبرني أنه قد قال بالامامة، فدخلت اليه بالمدينة في الليلة التي اخذ فيها موسي بن جعفر (ع) في صبيحتها فقال لي: كنت عند الوزير الساعة - يعني يحيي بن خالد - فحدثني أنه سمع الرشيد يقول عند رسول الله - عند قبره الشريف في المدينة - كالمخاطب له:



[ صفحه 106]



(بأبي أنت و أمي يا رسول الله اني أعتنذر اليك من أمر عزمت عليه، و اني اريد أن آخذ موسي بن جعفر فأحبسه، لأني قد خشيت أن يلقي بين امتك حربا تسفك فيها دماؤهم).

و أنا أحسب أنه سيأخذه غدا، فلما كان من الغد أرسل اليه الفضل بن الربيع و هو قائم يصلي في مقام رسول الله (ص) فأمر بالقبض عليه و حبسه). [7] .

هذه شريحة تاريخية تحكي لنا صورة الصراع السياسي المرير بين قادة الهدي و الايمان المتمثلة في أهل بيت النبوة و بين حكام بني العباس و الجلاوزة و الجلادين و الانتهازيين، و طلاب السلطة و المال و الجاه الزائف، و هي قادرة علي صغر حجمها الحدثي و الزمني أن تصور ذلك الواقع بأبعاده النفسية و السياسية و الفكرية لتكون أداة كاشفة عن طبيعة تلك المساحة التاريخية التي حاول فيها المتسلطون علي الرقاب أن يطمسوا معالم الحقيقة فيها، و يشوهوا المسيرة الاسلامية بقيادة أهل البيت (ع).

و يشاهد القاري ء عظمة و قوة شخصية الامام و قلق و حيرة السلطة و الحواشي و الانتهازيين من هذه الشخصية العظيمة، و ضعفهم أمام ذلك الكيان الشامخ التليد، رغم ما يملكون من قوة و سلطة و دولة



[ صفحه 107]



و مال، فلم يجدوا غير السجن و الارهاب و البطش أداة و وسيلة لحماية سلطانهم و الحفاظ علي كراسيهم، و قد تحدث لنا التاريخ عن سجن الامام و معاناته و صبره و بطش أعدائه.

فقد روي أنه: (حج الرشيد في تلك السنة، فبدأ بقير النبي (ص) فقال: يا رسول الله، اني أعتذر اليك من شي اريد أن أفعله، اريد أن أحبس موسي بن جعفر، فانه يريد التشتت بين امتك و سفك دمائها.

ثم أمر به فأدخل اليه فقيده، و أخرج من داره بغلين عليهما قبتان مغطاتان هو في أحدهما، و وجه مع كل واحد منهما خيلا، فأخذوا بواحدة علي طريق البصرة، و الاخري علي طريق الكوفة، ليعمي علي الناس أمره، و كان موسي في التي مضت الي البصرة، فأمر الرسول أن يسلمه الي عيسي بن جعفر بن المنصور، و كان علي البصرة حينئذ فمضي اليه، فحبسه عنده سنة، ثم كتب الي الرشيد أن خذه مني و سلمه الي من شئت، و الا خليت سبيله، فقد اجتهدت أن آخذ عليه حجة فما أقدر علي ذلك، حتي أني لا تسمع عليه اذا دعا لعله يدعو علي أويدعو عليك، فما أسمعه يدعو الا لنفسه، يسأل الله الرحمة و المغفرة.

فوجه من تسلمه منه، و حبسه عند الفضل بن الربيع ببغداد، فبقي عنده مدة طويلة، أراده الرشيد علي شي من أمره فأبي، فكتب اليه ليسلمه الي الفضل ابن يحيي، فتسلمه منه، و أراد ذلك منه فلم يفعله، و بلغه أنه عنده في رفاهية ودعة، و هو حينئذ بالرقة، فأنفذ مسرورا الخادم



[ صفحه 108]



الي بغداد علي البريد، و أمره أن يدخل من فوره الي موسي فيعرف خبره، فان كان الأمر علي ما بلغه أوصل كتابا منه الي العباس بن محمد و أمره بامتثاله، و أوصل كتابا منه الي السندي بن شاهك يأمره بطاعة العباس بن محمد، فقدم مسرور فنزل دارالفضل بن يحيي لا يدري أحد ما يريد، ثم دخل علي موسي فوجده علي ما بلغ الرشيد، فمضي من فوره الي العباس بن محمد و السندي بن شاهك، فأوصل الكتابين اليهما، فلم يلبث الناس أن خرج الرسول يركض ركضا الي الفضل بن يحيي، فركب معه و خرج مشدوها دهشا، حتي دخل علي العباس فدعا العباس بالسياط و عقابين، فوجه بذلك الي السندي، فأمر بالفضل فجرد، ثم ضربه مائة سوط. و خرج متغير اللون بخلاف ما دخل، فذهبت قوته، فجعل يسلم علي الناس يمينا و شمالا.

و كتب مسرور بالخبر الي الرشيد، فأمر بتسليم موسي الي السندي بن شاهك). [8] .


پاورقي

[1] يخطب عليه: ينشي ء الخطب: أي ينسب اليه التهم الكبيرة التي من شأنها أن تجر عليه المحنة و الكارثة.

[2] مت: توسل.

[3] علي بن اسماعيل هو ابن أخ الامام موسي بن جعفر.

[4] العلامة المجلسي: المصدر السابق / المجلد 11 / ص 207 / ج 48 / ط 2.

[5] باقر شريف القرشي: المصدر السابق / ص 329.

[6] العلامة المجلسي: المصدر السابق / المجلد 11 / ص 210 / ج 48.

[7] العلامة المجلسي: المصدر السابق / ص 213.

[8] فذهبت قوته: في الخطبة «قد ذهبت نخوته».